ها هم يعتدون مجدّدًا على جامع في قرية الفريديس الساحلية. اعتداء تلو اعتداء! بدأت أقرأ عن أحدث مشهد من مشاهد العنف الأرعن، وأفكّر في مقالي الذي سأكتب؛ كل الشرور نَمَت، وما زالت تنمو، في مستنقع للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
كلُّ تمادٍ على حقوق الفلسطينيين هناك، مهما كانت تسويغاته، أصبح عالةً على حياتنا نحن العرب الساكنين في إسرائيل. تحت الاحتلال سقطت كل الأقنعة، وتعرّت وجوه القهر والتنكيل.
في فلسطين المحتلة ليس هناك قانون يحمي الفلسطينيين ويذود عن سلامتهم ويضمن استقرارهم. في فلسطين المحتلة داست إسرائيل كل القيم الإنسانية وعربدت هراوات المستوطنين، الحالمين "ببيت إيل" و"شيلات". لا قانون يردعهم ولا "ديّان" يحاسبهم. أيديهم أطلقت لتبطش، باسم خرافات لم يقدر عليها ولا حتى "خرافة"- ذاك الذي من "جهينة" وحكاياته عن الجن.
للحظة وعندما استذكرت قصة "خرافة" تذكّرتُ كيف ونحن في زيارة لأحد معارض هولندا الجميلة تركنا أولادنا الثلاثة في زاوية، وذهبنا لشراء تذكارات من دكان قريب. بعد دقائق عدنا ولم نجد طفلنا ابن الرابعة مع أخويه. خفنا وبدأنا التفتيش حتى سمعنا نداءً يعلن عن طفل ضائع موجود في مدخل المعرض. ما حدث وقتها كان كالخرافة.
ولكن ما نشاهده في السنوات الأخيرة هو فصل من فصول حلكة ليل فلسطين. قطعانهم تتكاثر وتكبر. هم ليسوا عصابات تعمل خلسة وتستهدف قيادات فلسطينية بارزة كما في بدايات الثمانينيات، وهم ليسوا أفرادًا نشزوا "كالقرّيص" في حقل من نرجس وبرقوق؛ لقد أصبحوا جيشًا كامل النصاب والعدة والعتاد. لقد صاروا قرابة شعب.
عصابات "تدفيع الثمن"، ومن على شاكلتهم من مجموعات أقلّ شهرة، هي فكر وأيديولوجية، يحملها "جيش"، عناصره تكرّ بلا وازع ولا رادع، جيش يؤمن أن فلسطين،كلّها، ساحة وغى، والحرب عليها مفتوحة حتى يسترجع "الشعب" ميراثه الإلهي. إنّهم أحفاد الأنبياء والملوك والقضاة، ونحن،العرب، أغيار؛ كافرون لا نستحق الحياة، وربما يقبلوننا إذا رضينا أن نكون لهم عبيدًا ونحن صاغرون.
من ظن أنهم سيحصرون عربداتهم في فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧، أخطأ وجهل دروس التاريخ، الذي كتبته السماء بحبر من دم ودمع. هم قادمون إلينا. هم بيننا ولا فرق إن جاءونا باسم "تدفيع الثمن" أو باسم "إسرائيل بيتنا"، أو "البيت اليهودي" أو الهاتفين "الموت للعرب". ما ديس هناك، على هضاب فلسطين سيداس هنا، على الكرمل وفي الساحل والنقب.
في الآونة الأخيرة بدأوا بتكثيف هجماتهم على مرافق مدنية كثيرة في بلداتنا العربية، ولكن كانت اعتداءاتهم على بعض الأماكن الدينية أكثر استجلابًا للاهتمام والمتابعة. كما في الضفة الغربية المحتلة، هكذا في داخل إسرائيل، استهدفوا بعض الكنائس والجوامع، فتوالت ردود الفعل "القيادية"، وعلت صرخات الاحتجاج والشجب والاستنكار. من الطبيعي ان تأتي كل ردود الفعل التي سمعناها وقرأناها مؤخرًا، لكنني ما زلت أرى أن اصطياد العرب، في هجمات عديدة بعضها وصف "باللينش"، هو ظاهرة خطيرة استوجبت ردّات فعل حقيقية ومحاولات جدية للتصدي لها ولما قد يصير قانون الشارع وواقعه المعيش.
ألم نقل: إننا على منزلق خطر ولا يجب الانتظار حتى نصل إلى شفير الهاوية.
ما يجري بحقنا مقلق ومخيف.الاكتفاء بشجب الاعتداءات واستنكارها، مقلق، بدوره ولا يكفي؛ إنّه ضريبة شفاه وعزف على ناي مسدود.
عندما كنّا شبابًا عاش بيننا قادة. مع بعضهم توافقنا، وخلفهم سرنا وهتفنا. مع آخرين اختلفنا، ولكننا عرفنا، دومًا، أن لا "قيادة" ولا مناعة بدونهم. كانوا، جميعهم، نواطير حقولنا، وإن اختلفوا على قضية هنا ومسألة هناك، عرفوا كيف يحمون، موحّدين، بيوتنا، فنمنا، نحن المواطنين، كما ينام الورد، وحلمنا كما تحلم الريح. بوركنا "بقُـدْوات"، فمن لم يرض "بتوفيق" أحب "أنيسَـهُ" ومن لم يأنس "بإميليه" سامر "الصالح ومحمد"، كانت لدينا قيادة، استشعرت المخاطر وأخذت الحيطة في وجهها؛ قيادة لم تكتف بالشجب والاستنكار ولا بما ستمطره السماء، فهذه "رحومة" على كل عبادها.
قيادة ذلك الزمن، ورثت رقع ثوب فأجادت رتقه وبقايا كوفية فَرَفَتها. اليوم أخالني، أننا نعاني غياب قيادة قادرة على مواجهة ما نحن مقبلون عليه. قيادة تجيد تشخيص المخاطر، وتجيد أكثر تصنيع العقاقير وتطبيب الجسد. مصادر الخطر جليّة، وهنالك حاجة لعدم الاكتفاء بالشجب والاستنكار ولا بترك وتائر الضغط تتفاعل تلقائيًا، بين الجماهير المسحوقة، حتى تحين لحظة الانفجار العفوي. برأيي، هذا ما تسعى اليه تلك القطعان ومن يرعاها من قياديي دولة اسرائيل، وفي كل حالة هذا، إن حصل، لن يسعف الجماهير التي ستدفع مرًّة أخرى ثمن القمع الإسرائيلي المرتب وثمن القصور العربي المزمن.
الشعب ينتظرالقرار الحكيم والعمل في اتجاه منع كارثة قد تقع، ومن أجل ذلك هو بحاجة لقيادة مسؤولة تحافظ على ثوب بدأ يتمزق وكوفية فقدت عقالها.
وقبل أن أنهي سأخبركم كيف انتهت قضية ابننا الضائع. فبعد سماعنا الإعلان توجهنا إلى المدخل، ووجدنا ابننا على ذراع الحارس. بعد الاطمئنان عليه، سألناه كيف ضاع؟
"مشيت في الحديقة لم أجدكم، بدأت أبكي، حتى جاءتني امرأة، وأمسكت بيدي وقالت: لا تبك، يا ولد، والداك سوف يجدانك بعد قليل. أخذتني إلى الحارس ووجدتموني".
سألنا طفلنا بأي لغة تحدثت تلك المرأة؟ فأجابنا: "بالهولندية، يمكن". ولكنك لا تتحدَّث الهولندية سألناه مندهشين، فأجابنا: "لكنني فهمت أنها قالت لي لا تبكِ يا ولد،لا تخف والداك بعد قليل سيجدانك". هكذا يكون الأطفال واثقين بوالديهم، وهكذا يفكّرون حين يضيعون. ولكن ماذا لو تاه الكبار كيف يا ترى يفكرون؟
ترى هل هي خرافة؟
[email protected]
أضف تعليق