لم يكن لدي الكثير من التوقعات وأنا أشتري تذكرة عرض "بدكة" الذي قدمته فرقة سرية رام الله في خاتم مهرجان رام الله للرقص المعاصر، ولم يكن لدي تصور عما سيكون عليه الأداء، فتجربتي في حضور ومتابعة الرقص المعاصر دوما ما فاجأتني في حيثيات كل عرض.
على الرغم من تشابه الأداء في الكثير من التفاصيل إلا أن الروح تختلف في كل مرة. يغرق المسرح كله في العتمة، ونسمع نحن الحضور، جلبة تثيرها أقدام الراقصين الغارقين أيضا في نفس العتمة وهم يدبكون، وتتعالى صيحاتهم المحفزة الشجاعة، معلنة أن الليلة ليلة للرقص ليس إلا.
يبدأ العرض دون أي موسيقى سوى تلك التي تنبعث من ارتطام أقدامهم في الأرض، يضاء المسرح على وجوه سعيدة مبتسمة لشباب وصبايا مثل الورد، تمنحك إيحاءً بأن الحياة كلها تبدأ فقط عند هذه الابتسامات المبهجة، يوقظون حواسك بحركشة لذيذة أقرب ما تكون للاستفزاز.
لا يلفت نظرك لأول وهلة التنوع المذهل للراقصين من عرب وغيرهم بقدر ما يلفت نظرك الدمج الرائع لعدد من أنماط الرقص مثل الدبكة والبريك دانس والرقص المعاصر وكأنه كله دبكة "طيارة"، ويذهلك كم الجرأة الهائل الذي يفوح منه، عرض يتحدى المعلوم والسائد العام. العرض مثير للجدل بشكل كبير، وأنا على يقين بأن الكثيرين سيكونون مع جرأته وأكثر سيكونون ضدها، هو عرض جريء، قوي، بالغ، عاقل، غاضب، سعيد، حزين، موجوع، لئيم، قاسي، حنون، محب، مزعوج ومزعج، عفوي ومبدع ومبتكر، عرض يتنقل بك في بلاغة إلى عوالم مختلفة عن حياتنا كبشر والتناقضات التي نخوض فيها يوما بيوم ظانين أننا نتجاوزها ولكننا نغرق فيها أكثر وأكثر حتى بتنا معتادين عليها بشكل يثير الشفقة. يعرينا الراقصون فنقف أما مرآة تناقضاتنا، فنحن نريد أن نفرح ولكن للفرح حساب عسير عندنا إن تجرأ وطرق بابا ما! فلنحزن إذا، ولكن كيف نستطيع أن نتمادى فيه ونكمله. نريد أن نرقص لكننا خائفون، ونريد أن ننطلق بحرية مزعومة ولكننا سجناء عقيدة "العيب"، ونريد أن نكون محافظين ولا نعرف كيف نحترف المحافظة، فنلنغني بصمت إذا، ونتوجع وننقل هذا الوجع إلى الآخر مع منحه سببا كي يسمح لنا بأن نظهر له أننا موجوعون! وفي آخر المطاف نريد من هذا المزيج أن يكتب لنا حياة كاملة ولكن بعد أن نموت موتا كاملا ونقتل أنفسنا بأيدينا لنعود للحياة من جديد كما كانت حياتنا قبل الموت!
لا فرق إن كانت نوتة الحياة تعزف على عود أو على كمان صدئ، المهم أن نعزف وأن نرقص وأن نعود لما كنا عليه: التغيير كائن مشوه غير مقبول عندنا. العرض يفتح الشهية لاكتشاف أبعاد جديدة في عالمنا القاسي الصعب المجحف، عرض جرئ وعفوي بمعنى الكلمة، وربما كان أجمل ما في العرض هو تلك الروح التي انبعثت منه في الموسيقى الشعبية الفلسطينية التي تكررت طوال العرض لدرجة أن إحدى الحاضرات علقت قائلة "لو غيروا الموسيقى شوي! زهقنا من التكرار"، كدت أرديها قتيلة وأنا أفكر "ماذا فهمت من العرض إذا يا عزيزتي؟"، ولا ننسى وسيارة الميتسوبيشي التي لم يغير صاحبها مكانها من منتصف العرض، فنحن لا نتعلم من مآسينا ولا نتعلم من أخطائنا في حق أنفسنا، ولم نعرف للمواجهة الحقيقية طعما، جبناء في كل ما لدينا من أحشاء وجوارح. فلتبق السيارة مغلقة الطريق وليبح صوتك أيها "الحدّا" وأنت تبحث عن سائقها. هو مشغول يرقص وجعه في مكان ما، وهذا يذكرني بتعليق ذلك الراقص الشاب في أحد مقاهي رام الله "إن لم تستطع سلمى أن ترقص وجعها، لن تصبح راقصة أبدا".
يومها فكرت بأن الشعب كله يرقص على ألف حبل! مثال العرس الفلسطيني كان مثالا مبدعا بامتياز، فمن يفحص كيف تحولت تقاليد العرس في فلسطين من مناسبة للفرح والاحتفال إلى مناسبة ثقيلة على القلوب في معظم أرجاء مدننا لجمع "النقوط" حتى أن الواحد منا بات يسمع جملة مثل "علي نقوط" لا "معزوم على عرس"، والباحث في سيكولوجية الأعراس في بلدنا يرى أنها تعرية كاملة شاملة لكل ما تنام عليها نفوسنا من عفن والتناقضات التي تجبرنا على الخوض فيها وإن كنا رافضين تماما، فنخرج منها بسلال من العوالق النفسية والاجتماعية تكفينا حتى العرس اللاحق. العرض رائع، وأنا مع العرض وجرأته وتكرار هذه التجربة المبدعة، والشكر كل الشكر لسرية رام الله وشركائها على هذه الجرأة، ولمهرجان رام الله للرقص المعاصر على إتاحته الفرصة أمامنا كي نتعرى من خبايانا، ونواجه أنفسنا دون أن نستعين بكرسي نختبئ خلفه هاربين من أنفسنا قبل أن نهرب من هذا العالم الموبوء.
[email protected]
أضف تعليق