إن الأسابيع القادمة هي المحك الحقيقي لمدى قدرة "اتفاق الشاطيء" للمصالحة على الصمود، واثبات صدقية من تحاوروا حوله ووقعوا عليه، وأنه - فعلاً - كان ضرورة وطنية، وليس اتفاقاً فرضته الضرورة وضغوطات الأزمة مع الاحتلال، وأنه جاء في سياق رؤية استراتيجية ولم يكن مجرد انحناءة أمام عاصفة الحصار وتعقيدات واقع الحال، وليس - أيضاً - بسبب تراجع رصيد الطرفين؛ فتح وحماس، في بورصة جيل الشباب وداخل الشارع الفلسطيني بشكل عام.

ربما الجميع – الآن - بانتظار ظهور أسماء رجالات المرحلة الانتقالية القادمة؛ لأن اختيار الشخصيات ذات الكفاءة والأهلية والانتماء الوطني ستعطي مؤشرات مشجعة لاتجاهات ما هو قادم، حيث إن الحمل جدُّ ثقيل، والحرب النفسية والتهديدات التي تطلقها إسرائيل ضد الرئيس (أبو مازن) يجب أن نأخذها في الحسبان.. لذلك، نحن معنيون بأن يتقدم الأفضل من رجالات هذا الوطن، ليكونوا سنداً داعماً للرئيس، وليس عبئاً عليه وعلى الوطن.

حكومة التوافق الوطني: الرؤية والمعايير

بعد أن وضعنا "اتفاق الشاطئ" الذي تمَّ توقيعه الأسبوع الماضي في غزة على أول الطريق لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، التي طالما نادينا بها، تتدافع الآن تساؤلات الشارع الفلسطيني ونخبه الفكرية والسياسية حول ميكانيزمات التطبيق وقدرة الاتفاق على معالجة تراكمات السنوات السبع العجاف وأدوات الحكومة العتيدة وفعاليتها، عدا عن شكل وطبيعة تشكيلة الحكومة.

إن هذه الجملة من التساؤلات تغلف الأجواء المجتمعية السائدة في قطاع غزة والتي تنقسم بين الإحباط والحذر، فيما يبحث الناس وراء اجابات مطمئنة لها ولأخواتها من معالم بؤس الحياة اليومية، والتي يقف خلفها الاحتلال والحصار والانقسام، مثل مشكلة استمرار إغلاق معبر رفح؛ الرئة التي يتنفس منها الناس في تحركاتهم الحياتية من وإلى قطاع غزة، وتكرار قطع التيار الكهربائي لفترات قد تتجاوز 8 – 12 ساعة يومياً، وشح المياه الصالحة للشرب وانقطاعها من حين لآخر، وتكدس تجمعات القمامة بشكل غير آدمي في الشوارع والحواري، ومحدودية قدرات الصرف الصحي، ونسبة البطالة المتصاعدة، وأبرز ملامحها تراكم مائة ألف من خريجي الجامعات في سوق لا عمل فيه، وغياب مشاريع التنمية والتطوير.

إن هناك الكثير مما يريده الجمهور من الحكومة المأمولة على مستوى حفظ الأمن والنظام العام، وإفساح المجال أمام الحريات وصون كرامة المواطن، وتأمين الحق في التعبير والانتماء السياسي.

إن ما ينتظره الشارع الفلسطيني ونخبه الفكرية والحركية والمجتمعية من الرئيس محمود عباس هو اختيار وزراء لحكومته الانتقالية من شخصيات تحظى بالأهلية والكفاءة، ومشهود لها بالوطنية والنزاهة، وتكون قادرة على القيام بمهمة النهوض بالوطن، أما إذا كانت الخيارات تخضع - فقط - لمعايير القبول الإسرائيلي والأمريكي ولحسابات ترضية هذا الطرف الحزبي أو ذاك، فهذا سيخلق - بالتأكيد - إشكالية تسويق شعبي لهذه الحكومة، ليس فقط بين فصائل العمل الوطني والإسلامي بل للشارع الفلسطيني كله.

إن ما نأمله من الرئيس (أبو مازن) هو أن تظل مواقفه على صلابتها، وألا ينكسر أمام ضغوطات إسرائيل أو ما تقوم به الإدارة الأمريكية من محاولات لتطويع الموقف الفلسطيني بأسلوب المراودة حيناً والترويض حيناً آخر؛ أي سياسة العصا والجزرة.

ومن الجدير ذكره، أنه ليس هناك من يمانع أو يعترض أن يعيد الرئيس (أبو مازن) الكرة للملعب العربي والإسلامي للاستقواء به، والتشاور معه، وكسب دعمه وتأييده، فهذا شيء يسعدنا جميعاً، والعرب - اليوم - برغم ضعفهم وغياب حالات الاستقرار في أوضاعهم الداخلية وعلاقاتهم الإقليمية، إلا أنهم الأقدر منا على حماية مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، ولهم إمكانيات التأثير – بشكل أفضل – على الكثير من الدول الغربية، ودفعها لاتخاذ مواقف غير منحازة فيما يخص صراعنا مع المحتل الغاصب.

إننا نطمع خلال المرحلة القادمة أن تسود علاقاتنا الوطنية مفاهيم التعايش والتآخي والتعددية الحزبية والشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، وأن نبتعد عن لغة الإقصاء والتهميش والاتهام والتحريض، وأن يجري الإعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني في أجواء يشعر معها الجميع بالاطمئنان لمستقبل العملية الديمقراطية على أرض فلسطين.

الحكومة الانتقالية: عوامل النجاح

في الحقيقة، إن أهم عناصر استقرار الحكومة الانتقالية القادمة ونجاحها في أداء عملها هو تعاون الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة معها، فمعظم هذه الأجهزة مؤطرة تنظيمياً، وإذا لم تلتزم كل من فتح وحماس بدعم هذه الحكومة الانتقالية والتأكيد على الجميع باحترام قراراتها فلن تبرح مكانها، وسيكون نصيبها الإخفاق، وستتنكب طريق الفلاح والتمكين.

من هنا، فإن المطلوب من كل من الأخ خالد مشعل والرئيس (أبو مازن) إعطاء التعليمات لكوادرها في الأجهزة الأمنية بالعمل على احترام سيادة القانون والحفاظ عليه، والابتعاد عن كل مظاهر الفلتان الأمني الذي عانينا منه في سنوات سابقة، حيث ساقتنا حالة الفوضى إلى مواجهات داخلية كانت وراء ما وقع من اقتتال دامٍ وانقسام حاد في يونيه 2007م، ما زلنا ندفع ثمن أخطائنا جميعاً في كل ما جرى فيه.

إن الحكومة الانتقالية التي سيرأسها السيد (أبو مازن) مطلوب منها العمل على سرعة التئام المجلس التشريعي، مع ضمان أن تكون القضايا المطروحة للنقاش هي في مساحة المشترك، وأن كل شيء يطرح للمداولة يجب أن يتم بالتوافق، فليس المطلوب في هذه المرحلة الانتقالية تغييرات دراماتيكية أو القيام بثورة دستورية عارمة، فقط يمكن مراقبة عمل الحكومة لتحسين الأداء وضمان عدم التجاوز.

إن طبيعة جغرافيا الوطن وديمغرافيته تستدعي أن يكون هناك ثقل وزاري في قطاع غزة، وأن يكون هناك نائباً أول للرئيس في غزة، وآخر في رام الله، وان تعطى الأولوية في المشاريع لدعم القطاع الصناعي والخاص الذي دمرته إسرائيل من خلال عدوانها المتكرر على قطاع غزة، وخاصة في المجالات التي يمكن أن تحقق – بقدر الاستطاعة - اكتفاءً ذاتياً، ينأى بنا أن نكون عالة على الاقتصاد الإسرائيلي وتحت طائلة الارتهان الكلي له.

إننا نأمل من الأخ الرئيس (أبو مازن) أن تكون دائرة مشاوراته لاختيار حكومته تتسع لرأي فصائل العمل الوطني والإسلامي، فالعبء سيكون ثقيلاً على كاهل الجميع، وإذا ما كانت الحكومة بالتوافق – كما هو مطلوب منها أن تكون – فإن الجميع سيضع ثقله خلف نجاحها، وفتح الطريق لها لكي تمضي في إنجاز المهمات الوطنية الملقاة على عاتقها، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية وجود أية كوادر قيادية إسلامية تكون مدخلاً للتشكيك الإسرائيلي أو الأمريكي فيها، واتخاذ ذلك مدخلاً للتضييق عليها وتعطيل قيامها بواجبها.

كما أننا نناشد الرئيس (أبو مازن) العمل بكل السرعة والجدية لإصلاح منظمة التحرير وتفعيلها، لكي تظل الحاضنة الحقيقية لمشروعنا الوطني، وقاطرة الدفع التي تجتمع فيها قدرات كل القوى الوطنية والإسلامية لبلوغ أهداف شعبنا في التحرير والعودة.

حماس: الموقف والخطوة التاريخية

إذا كان الانقسام الذي وقع قبل أكثر من سبع سنوات هو الخطيئة الكبرى التي يجب على الجميع التطهر منها، وأن المصالحة الوطنية هي حجر الزاوية لكل ما نطمح في البناء عليه لمرحلة الانتخابات القادمة، كما أن الشراكة السياسية هي الأفق الذي نتطلع إليه ونخطط من خلاله لبناء مستقبل علاقاتنا الوطنية والإسلامية، فإن اختيار الرئيس (أبو مازن) لرئاسة الحكومة الانتقالية كما ورد في اتفاق الدوحة في فبراير 2012م هو الأنسب في ظل واقعنا المأزوم محلياً وإقليمياً ودولياً، لما يتمتع به من علاقات وطيدة مع المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي، ولما يمتلكه من أوراق القوة داخل حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث إن السياسة تفرض التحالف بين الأقوياء لنجاحها.

طريق الخلاص ومفاتيح الفرج

إذا ضربنا الذكر صفحاً عن ترهات الماضي القريب، فإن بإمكان سفينتنا أن تمضي – الآن - مسرعة وبخطى واثقة، وأن تتخطى بحر الظلمات، وأن ترسو إلى شاطئ الأمان.

إن هناك سبعة ضوابط لابدَّ من احترامها، والعمل بها لتحقيق متطلبات التغيير والإصلاح والتجديد الذي يتطلع إليه شعبنا، وهي:

1- الوطن للجميع، نحرره معاً ونبنيه معاً، وهذا معناه شراكة سياسية في الحكم، ضمن رؤية توافقية تجتمع فيها القواسم المشتركة لنا جميعاً في برنامج سياسي يحفظ المصالح الوطنية العليا لشعبنا وقضيتنا.

2- استمرار التواصل مع عمقنا العربي والإسلامي في إطار أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة، وأن الجهد لتحريرها يجب أن يضمن مشاركة الجميع، واجتماع الرأي في كيفية إتمام ذلك.. فالأمة التي ترى في فلسطين قضيتها المركزية هي صاحبة قرار يلزمنا أن نشاورها وأن نسمع لها.. وإذا كنا في الماضي نتشكك في أهليتها بسبب حالة التبعية للغرب التي كانت تهيمن على معظم أنظمتها السياسية، فإن الواقع العربي الجديد بعد ما جرى من ثورات وحراك شعبي قد تغير نسبياً، وأن ضمير الأمة – اليوم – وإن لم يصحو بالكامل إلا أنه ما زال فاعلاً.

3- العمل على مراجعة الماضي وإصلاح أخطائه، حيث إن الأوضاع التي تمّ ترتيبها بشكل حزبي في الضفة الغربية وقطاع غزة بحاجة – الآن - إلى إعادة بناء على أسس وطنية ومهنية، وعلى الجميع أن يوطن نفسه لتقديم تنازلات وتسويات مريحة، تضمن توفير القناعة داخل الشارع الفلسطيني بأن الوطن للجميع، وليس فقط ملكية خاصة لفتح وحماس، وأن من حق الجميع أن تشرع له الأبواب للولوج إلى مؤسسات السلطة، بعيداً عن حسابات "السلامة الأمنية" التي مارستها الأجهزة الأمنية لكل من فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة.

4- الاتفاق على آلية وطنية وأمنية لضمان نجاعة الفعل المقاوم، وإذا كان من حق شعبنا تحت الاحتلال أن يناضل لطرد المحتل وانتزاع حريته واستقلاله، فإن على المستويات السياسية تقدير الزمان والمكان والحال لشكل المقاومة المطلوبة؛ وإذا ما كانت عنفية أو غير عنفية.

5- الغرب ليس شراً كله، وهو كذلك ليس حليفاً بالمطلق للاحتلال، لقد رأينا مظاهر التضامن في الكثير من العواصم الأوروبية، وشاهدنا مشاركات واسعة في جهود كسر الحصار عن قطاع غزة، وهذا يتطلب منا أن نسعى لتوسيع دائرة الاستثمار لكسب المزيد من التعاطف في الساحات الغربية لتكريس عزلة إسرائيل، باعتبارها كياناً مارقاً يمارس القرصنة والعدوان وانتهاك القانون الدولي، ويقوم بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، وهذا معناه أن ممارساتنا النضالية يجب أن لا تخرج عن حدود حقنا الذي كفلته الشرعية الدولية.

6 – المفاوضات ممر إجباري لاستمرار التواصل مع المجتمع الدولي، ووسيلة اقناع للعالم بحقوقنا السبيبة وبعدالة قضيتنا، بشرط أن تتوقف كافة أشكال الاستيطان ومخططات التهويد وابتلاع الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وتتعزز أركان الدولة الفلسطينية القادمة بخطوات حقيقية على الأرض.

7 – القدس هي قضية المسلمين والمسيحيين، ويجب أن تتضافر جهود جميع أبناء فلسطين للدفاع عن عروبتها وحماية مقدساتها الدينية، وعلينا العمل معاً على المستوى الدولي لتوضيح حقيقة ما يجري من عمليات تهويد لآثارنا الإسلامية والمسيحية فيها، فالقدس ليست فقط هي المسجد الأقصى بل أيضاً كنيسة القيامة وألاف المواقع الدينية التي يقوم المستوطنون الصهاينة بمحاولات طمس معالمها ليل نهار.

ختاماً: على بركة الله نمضي

إن نجاح الحكومة الانتقالية القادمة في مهمتها يعتمد في المقام الأول على درجة التفاهم والتعاون والتنسيق بين الرئيس (أبو مازن) والأخ خالد مشعل، باعتبار المكانة التي يمثلها كلّ منهما في قيادة حركتي فتح وحماس، وهذا يستدعي ديمومة التشاور بينهما، فهما – الآن - بمثابة العمود الفقري لجسد الشراكة السياسية التي نطمح بتحقيقها في الانتخابات البرلمانية القادمة.

ولذلك، فإن الحراك الواسع على الساحتين الدولية والإقليمية الذي سيطبع توجهات الرئيس (أبو مازن) في المرحلة القادمة، لحشد التأييد السياسي للقضية الفلسطينية، والدعم الاقتصادي لمؤسسات السلطة، يتطلب الكثير من التفاهم وتبادل الرأي والمشورة مع الأخوة في حركة حماس، وخاصة قيادة الحركة في قطاع غزة، عبر جهة تنسيقية عليا تشارك فيها باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي، حتى لا تحدث انتكاسة أو صدمة وطنية، تعيدنا من جديد لمربعات الخلاف والقطيعة وفقدان الثقة والاحترام لبعضنا البعض.

لقد انطلق قطار المصالحة بعد الأحداث المأساوية الدامية في يونيه 2007م، بجهود مصرية – قطرية مشكورة، ونأمل بعد "اتفاق الشاطئ" الذي تم توقيعه الأسبوع الماضي أن تتحقق كل الطموحات والآمال بوصول الاتفاق - بأمان - إلى محطته النهائية، وذلك بطي صفحة الانقسام وتجاوز عتبة سنواته العجاف..

إن الأمة العربية والإسلامية - برغم حالتها الثكلى - ما تزال مرتبطة وجدانياً وسياسياً بالقضية الفلسطينية؛ باعتبارها قضيتها المركزية، لذا فإن الواجب والمسئولية التاريخية والوطنية تحتم جميعها علينا أن نؤكد بوحدتنا أننا جديرون لاستمرار كسب ثقة هذه الأمة ومؤازرتها. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]