يتمتّع الفيلم الوثائقي "القيادة في القاهرة" (2013) للأميركي المصري شريف القطشة بميزات سينمائية ودرامية متنوّعة، تبدأ بالخطّ الفني التصاعديّ، المرتكز على وقائع يومية مستمدّة من أعماق البيئة الاجتماعية المصرية عبر عيون سائقي السيارات العمومية والخاصّة، وينتهي عند التحليل التفكيكي لهذه البيئة نفسها، وللتحدّيات التي يواجهها المصري يومياً، وللمناخ السياسي والاجتماعي والقضائي العام.
كأن عيون السائقين كاميرات مسلّطة على تفاصيل جمّة، تحاكي رغبات مكبوتة بشيء من السكينة المفقودة، وتبوح بمكنونات نفوس رازحة تحت ضغط الفوضى والفلتان والعشوائية، وتخترق المستور عبر سياراتهم.
من اللحظات الأولى، يكشف الفيلم أن عدد المقيمين في القاهرة يُساوي 20 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد السيارات فيها 14 مليوناً. لم يكن تحديد هذه الأرقام عبثياً، أو مرتبطاً فقط بإحصاء ما، لأن الأرقام تعكس واقعاً مأساوياً تجلّى واضحاً في السياق الدرامي اللاحق، وفي الحكايات التي رواها أناس يعيشون يومياً في قلب الشارع المصري، ويعيشون أنماطاً مختلفة من الصدامات والنزاعات الخفية، ويلتقون أشكالاً متنوّعة من الناس والسيارات والعلاقات. أي أن تحديد الأرقام تمّت ترجمته في التقاط النبض الإنساني العام في الشارع، وفي متابعة تفاصيل العمل، والعلاقات الناشئة بين السائقين، ومعاني الـ«تزمير»، وكيفية سير الأمور لحظة حدوثها، بالإضافة إلى القراءة المبطّنة للمجتمع برمّته، لأن هؤلاء السائقين ظهروا في الفيلم مرايا حقيقية لمآزق تبدأ بزحمة السير، وتتجاوزها إلى أنماط العيش، كالفقر والألم والتمزّقات، والقلق الدائم من حوادث السير بسبب الفلتان المتحكّم بالقيادة، والخوف من المخفيّ في هذا المشهد اليومي الذي يعيشه كثيرون. ولأن هؤلاء السائقين، بانتماءاتهم الاجتماعية والاقتصادية والمهنية والثقافية المختلفة، فضحوا السائد، وقالوا أوجاع الناس وحكاياتهم، ورسموا صُوَراً ملوّنة عن البؤس والشقاء اليوميين، أو بعض هذا كلّه على الأقلّ، بات الفيلم مرآة تعكس حالات وتفاصيل، وتقول شيئاً من البناء السياسي والثقافي والتربوي.
عدم ارتباط الفيلم الوثائقي هذا بالربيع العربي لا يعني أنه سيبقى بعيداً عن تلك اللحظة. في الجزء الأخير منه، يُصبح التوغّل في ثنايا البيئة الاجتماعية مدخلاً إلى العوالم نفسها «بعد» الحراك الشعبي (25 يناير 2011).
بعيداً عن هذا أو ذاك، فإن مفاتيح عديدة للبيئة الاجتماعية يُقدّمها الفيلم بهدف السخرية المرّة من هذا الواقع، أو لالتزامه سرد الوقائع كما هي. زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى القاهرة (حزيران 2009) مثلاً، تُصبح جزءاً من الفيلم، لارتباطها المباشر بمضمونه الدرامي: غياب زحمة السير نهائياً (شوارع خالية من روّادها المعتادين)، متابعة خطابه عن الإسلام والعلاقة بين الغرب وبينه، مواقف بعض سائقي سيارات الأجرة من الزيارة والواقع والخديعة التي يُمارسها النظام الحاكم أمام ضيفه (سخر أحد السائقين من غياب زحمة السير، قائلاً إنه كان جديراً بالرئيس الأميركي أن يقع ضحيتها كي يُدرك كيفية عيش المصريين مثلاً).
هناك أيضاً حضور بعض رجال الشرطة المعنيين بشؤون السير، ورواياتهم الخاصّة بقوانين السير وكيفية تطبيقه، وعلاقاتهم بسائقين مخالفين، خصوصاً أولئك الذين يقودون الشاحنات مثلاً.
أما بخصوص التربية على احترام قوانين السير وإشاراته، فقد اختار شريف القطشة لقطات مُصوّرة داخل إحدى المدارس، حيث تُلقّن التلميذات، بإنكليزية ركيكة وجمل مغنّاة، ماذا تعني إشارات السير. بالإضافة إلى هذا كلّه، فإن القطشة لم يتغاضَ عن إحدى مشكلات المواطنين مع بعض «قوانين» السير، إذ يمنع هذا الـ«بعض» سيارات الشحن الصغيرة (الفانات) من التجوّل في أحياء أو شوارع معيّنة، ما يفرض على المواطنين الانتقال إلى أماكن تواجد هذه السيارات للحصول على مشترياتهم من أثاث منزلي أو ما شابه ذلك.
إشارات كثيرة يكشفها «القيادة في القاهرة» لشريف القطشة، تعكس قسوة الحياة اليومية في هذه المدينة المكتظّة بالناس، من خلال السائقين.
[email protected]
أضف تعليق