لم أتردّد كثيرًا عندما ودعتني قبل عدة أيام، وقررتُ أن أستقلّ القطار السريع لأعود إلى بيتي بدل أن أستقلّ الباص الصغير كعادتي. كلّ ما أردته حينها أن أسند رأسي إلى أحد شبابيكه الواسعة وأن أمعن نظري في الغابات الشاسعة التي تكسو الطريق، وربما أكتب لك أيضًا رسالة اعتراف أعطيك إياها في المرّة القادمة التي ستنتظرني (لو أردت طبعًا) في محطة القطار، حين يكون الغروب (كما أريد أنا) في أوج حمرته القانية، ونسيم نيسان المدلل يداعب شعرك المنسدل حتى كتفيك، ويشاكس باقة الورد التي كنت ستفاجئني بها (ما أجملك إذًا.. أما كان الأجدر أن تكون بطلا سينمائيا أم أنك بالفعل كذلك؟) لأخبرك فيها بلهجة درامية صارمة:
“حبيبي وروحي،
جاء الوقت كي أعترف، مع العلم أنني سأتفهّم تمامًا صدمتك من كلّ ما ستقرأ بعد مضي كل هذا الوقت الذي ظننت فيه أنك تعرفني مثلما تعرف لون السماء في أول الربيع.
كنت بعمر الورد عندما حكم عليّ -لسبب لا أذكره بالضبط لكنه مرتبط على ما يُهيّأ لي ببعض المعتقدات- بالإعدام. لكنّ المهم أنني لم أمت، حتى بعد أن هوى رأسي من فوق المقصلة وتدحرج بين الجماهير الغفيرة التي تسابقت تتقاذفه وترميه مثل كرة. والحقيقة أنني لمحتك هناك؛ كنت تتلوّع حزنًا وتجهد لمنع الدمع من افتضاحك، ولك مني كلّ تقدير وامتنان على هذا الموقف النبيل وعلى عدم مشاركتك بضرب رأسي الذي لم يؤلمني تقاذفه بنعال مهترئة ونتنة، بقدر ما هالني تزاحم الحضور بهواتفهم النقاله وكاميراتهم الرقمية الخفيفة من أجل التقاط صور تذكارية له، إذ أنّ مجرد التفكير في أنّ صوري المشوّهة ستحتلّ صفحات الفيسبوك وسيراها أعدائي وأصدقائي، كاد بالفعل أن يُميتني حنقًا.
لكنني لم أمت. سَمِّ هذا معجزة لو شئت أو عبقرية ألوهية، فقد انتزعتنْي لحظة فلتت بأعجوبة من الزمن، ورمتني بسرعة مذهلة إلى مكان لا يشبه شيئًا، لكنه مع ذلك يطلّ على كلّ ما أريد. ومن هناك رأيتك تعتصر حزنا وكآبة!
المضحك أنني كنت قد تهيّأت لموتي الطقوسيّ، فوضعتُ ما يشبه الوصيّة المؤثّرة، حيث ابتدأتها بالتعبير عن مدى امتناني وتقديري العميق لكلّ من دافع عني أو تضامن معي أو حتى فكّر أني قد أكون بريئة، وخصَصَتُ بالشُّكر كلّ من أتى لدعمي ومرافقتي (حتى لو كان بدافع الشماتة) وأنا أعبر من دنيا الحياة البائدة إلى دنيا الآخرة الدّائمة، ولم يفُتني أن أضع تفصيلا دقيقا لحكمة حياتي التي بالامكان تلخيصها بـ “لا حياة من غير هدف” -أو “الموت في سبيل الهدف هو حياة”، وإن كان من المؤسف وضعها على عجالة هكذا إلا أنّ الظرف يقتضي قبل أن أقضي سُدًى- والأدهى أنني كتبت من ضمن ما تخيلت اني اكتب اعترافا خطيا سجلت فيه كل خطاياي منذ ولدت وحتى صرت امرأة ملعونة، تضمنت -على سبيل المثال لا الحصر- قائمة قتلاي الذين أوردت كامل تفاصيلهم بما في ذلك أسماؤهم الثلاثيّة وألوان عيونهم وتركيبتهم الجينيّة والنفسانية (من المهم هنا أن أفتح قوسًا لأقول إنني لم أكتب مثلا قائمة عشّاقي ولا قائمة صديقاتي الماجنات لأنني في تلك اللحظة كنت أتحضّر لموت بطوليّ من نوع خاصّ يخلدني ضحية بائسة بأروع صورها، وكنت أعي أنّ الموت وإن بدا واحدًا يحمل نكهاتٍ ومذاقاتٍ مختلفة ومتمايزة ترتبط بخلفيته وأسبابه وتوقيته والأهم بأدوات استعراضه، لذا أردتُ لي موتا مميّزًا ، ولم يكن من مجال، وسط كمّ الاتهامات التي قُذفتُ بها والتي تمسّ كلها أخلاقي التي اختلفتُ مع العامة في توصيفها إذ أعتبرتُها مختلفة، إلا أن أختار أن يكون مقتلي على خلفية رومانسيّة تبكي الجماهير وتتحوّل إلى مادة للحكاوي والأقاويل، وليس مقتلا على خلفية شرف العائلة -لا سمح الله- حتى عندما عرفت بالتجربة المباشرة أن لا فرق بين الاثنيْن كما يبدو).
لكن حين اختطفني الزمن من هناك وعدت من حافه المقصلة خائبة من الموت الرومانسيّ المنتظر، منهكة ومصدومة ومخروسة، رأيت ما هالني وخلط كلّ حساباتي؛ فقد كانت الجماهير الغفيرة تلتفّ من حول جسدي المرميّ، وتقذفه بوابل من الحجارة وتصرخ بصوت واحد: حرية… حرية… وأنا ما عدتُ أعرف إذا كانت تصرخ لحريّتي أم أنها كانت تمتحن قوتها على الصراخ والنكاية، فقط.
المؤكد أنك أنت يا بطلي الهوليوودي (الأصح البوليوودي) ما عدتَ هناك. يبدو أنك انسحبت من صخب الضجيج والغبار، فلم تعرف تحوّل الحكاية من الفجيعة إلى الملهاة، ولا عرفتَ أنني عدتُ بعد هذا الحدث الأليم أشارك الأصدقاء نوادر النهايات.
بعدها.. رأيتك مرة واحدة فقط. كنت تمرّ بصمت من أمام شاهد قبر محطّم وتبكي بصمت! فأحببتك، لأنني ظننتك تبكي نهايتي من دون أن تعرف أنني أكتب نهايتك أنت بالذات”.
بعد أن وضعتُ نصّ الرسالة ونمّقت فواصلها وحروف الجرّ والوصل، هالني ما كتبتُ لك، فقررتُ أن أتنازل عن المكتوب وأن أكتفي بركوب القطار وبالنوم! على الأقل حتى أصل إلى المحطة القادمة.
لكني دُهشت حين تذكّرت أنه لا يوجد قطار في المدينة، أو على الأصحّ أنه لا يتوقف فيها، برغم أنه يمرّ في وسطها ومن فوق شوارعها، كما غاب عنّي كما يبدو تفصيلٌ آخر صغيرـ فقد تذكرتُ أنه لا توجد غابات شاسعة في هذه المدينة، وأنّ ما اختلط عليّ هو ظلّ ثلاث نخلات وشجرة كينا.
وأنتَ.. آه أنت! ما أجملك! كنت معي في المحطة تشاركني انتظار الحافلة التي ستنقلّني إلى محطة القطار السريع، الذي سأتوسّد شباكه كي أكتب لك رسالة الاعتراف.. وكنت تنصت لي… لكنّك لا تقول شيئًا؛ هل كنت شبحًا أم عمود كهرباء؟
أذكر على وجه التحديد ما صار يومها، إذ كانت عقارب السّاعة تشير إلى الثانية والربع بعد الظهر، عندما سرنا معًا باتّجاه محطة الحافلة. كان ذلك بعد خمس ساعات كاملة قضيناها معًا منذ التقيتكَ في الصباح. مرّ وقتنا بين الجلوس في مقاهي المدينة وبين التسكّع في الشوارع الفارغة وسط صمت المحالّ المقفلة والأبواب الموصدة. لماذا أغلقت المحال أبوابها يومها؟ لا أذكر بالتحديد، ربما سقط شهداء، أو ربما كان السبب كسوف الشمس المنتظر هو ما أرعب العباد. ما همّني… لن أخاطر بالتكهّن أكثر من ذلك. المهم أننا انتظرنا مرور الحافلة، لكنها لم تصل.
حسنًا… عندما لم تـأتِ الحافلة، وغابت تفاصيل المحالّ خلف الأبواب المقفلة، وصرتُ لا أذكر الفرق بين الكسوف والحداد، وكنا بالطبع أنا وأنت أو أنا وخيالك في المحطة وحيديْن… ماذا فعلنا؟
إن لم تخُنّي ذاكرتني، فقد أخذتَني من يدي وسحبتَني من تحت أشعّة الشمس الحارّة (التي لم تنكسف وخيبّت توقعات البشر) باتجاه ظلّ غمامة شريدة كانت تتأرجح وقتها على حافة السماء الزرقاء.
مشيتُ معك لا ألتفتُ إلى شيءٍ، لكنّ الغمامة اختفت بومضة عين، فابتسمت بحسرة من دون أن تقول شيئًا، ثم مددتَ ذراعك نحو ما بدا كأكوام هواء متكدّسة وأخذتَ تزيحها من طريقنا كي نمرّ وسط زحام كان. وأنا تعلقتُ بكتفكَ، سرتُ مبهورة والهواء ينهار وراءنا فيمحو أثرنا بالتّمام، وأنت تكابد وسط الركام، تُبعد عن طريقنا صدى كلمات متكسّرة، آثار طوابير بشر مرّوا من هنا ثم غابوا، بقايا حكايات وسيناريوهات نائمة على حافة الزمان.
وكي نكسر الخوف والملل بدأنا نرسم على سطح الأثير دوائر حلزونية ومربعات صغيرة تكون لمن سيمرّ من بعدنا دليلاً، ثم تنحّينا جانبًا وجلسنا في ظلّ ظل الغمامة التي مرّت مرة من هنا، فكان النسيم عليلًا… عليلًا، والأرض ربيعًا.
[email protected]
أضف تعليق