اعتدنا أن نتعامل مع موضوع المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية كحالة عبثية مزعجة لا نهاية لها ولا طائل منها. إلا أن جولة المفاوضات التي جرت في السنة الأخيرة كانت مفاوضات حقيقية نوقشت بها أمور جدية وجديدة. قد تشوب هذه الفرضية غرابة ما، إلا أن الغرابة ستتلاشى سريعًا فور الخوض في حيثيات وموضوعات المفاوضات.

المحفز الذي قاد الطرفين نحو استئناف طقوس المحادثات واللقاءات الإسرائيلية الفلسطينية، عدا عن هوس جون كيري في ارتياد الخطوط الجوية من وإلى تل أبيب، هو الحاجة للتفاوض، لا الحاجة لحل قضايا التفاوض المتعارف عليها بين الطرفين أو حتى تلك القابعة في أذهان الناس منذ سنين كإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس وعودة اللاجئين، فهذه المواضيع باتت أقرب إلى التراث الوطني منها إلى مطالب تصب في أولويات إستراتيجية المفاوض الفلسطيني.

ليس وحده المفاوض الفلسطيني من أدى إلى تلاشي إستراتيجيات بوصلتها القدس والتحرر الوطني وعودة اللاجئين، وحتى لو كان كذلك، فالواقع أكبر منها جميعًا، وهذا الواقع يقول إن إقامة دولة فلسطينية هو حلم تأبى الجغرافيا إلا أن تحطمه يوما بعد يوم، حجرا فحجرا، حاجزا فحاجزا وجدارا جدارا.

فالحاجة للتفاوض إذا تنبع من محاولات ترويض واقع وحالة الدولة الواحدة التي نعيشها فعليا، فالجغرافيا تقول إن هناك ما هو أكبر وأعظم من التقسيمات الاصطناعية، فثمة طرف (إسرائيل) يسيطر على رعايا الطرف الآخر (الفلسطينيين) في جميع مناطق تواجدهم، حيث تتخذ هذه السيطرة أشكالا عدة ووجوها مختلفة، احتلال المدرعات والجدار والحواجز والمستوطنات في الضفة الغربية، وحصار الجوع والهواء والبحر والكهرباء في غزة وهيمنة الدولة اليهودية والعنصرية المقوننة وسياسات الإقصاء والتهميش في الداخل. أما عن السيادة فحدث ولا حرج، فلا ملامح ولا أفق.

المفاوض الفلسطيني والطرف الإسرائيلي على دراية تامة ومعمقة بهذا الواقع الذي ليس ثمة فرصة لتغييره وفقا لشعار دولتين لشعبين. ولذلك فقد طفا على السطح - سرًا وعلانية - خطاب "الحلول الإبداعية " القائل بترويض الواقع، وإدخاله في إطارات قانونية برعاية دولية أو حتى عربية متفق عليها من قبل الطرفين كأن يغدو جدار الفصل العنصري أو الحواجز مثلًا أمرا واقعًا قانونيا، أو أن تصبح المستوطنات والبناء فيها حقيقة يجب التعامل معها لا الاختلاف على شرعيتها. وقد يكون الادعاء الفلسطيني القائل أن ثمة شعبا فلسطينيا يطمح إلى أن ينال حقوقه التاريخية أمر ستقبل به إسرائيل بشروط تطوع سيطرة إسرائيل الفعلية في إطار "السيطرة القانونية" أو قل الاحتلال القانوني الذي سيقبل به المفاوض الفلسطيني كمقاول ينفذ هذه السيطرة على الأرض مقابل أبدية سيطرة الفئة الفلسطينية المفاوضة على مستقبل الفلسطينيين.

المفاوضات إذا تدور حول تنظيم واقع الدولة الواحدة الموجودة على الأرض بقوة من باب انعدام الفرص لوجود حل لدولتين يمثل طموحات الفلسطينيين والإسرائيليين من جهة أو قبول إسرائيل بحل دولة واحدة ديمقراطية معرفة المعالم ينعم بها الجميع بالعدل والمساواة من جهة أخرى (أي نهاية حلم الدولة اليهودية). بكلمات أخرى نحن بصدد إحدى الحالتين: إما سيطرة إسرائيلية قانونية متفق عليها بمعاهدات تضمن هيمنة خطاب دولة اليهود على مختلف أطراف فلسطين التاريخية ؛ وإما سيطرة إسرائيلية بصيغة الابرتهايد على واقع الدولة الواحدة التي نحن بصددها فعليًا.

الخيار الاستراتيجي الإسرائيلي سيكون حتمًا نحو الحالة الأولى التي تضمن استمرار الواقع كما هو ضمن إطار قانوني معرف ومتفق عليه، لأن إسرائيل لن ترضى بخيار الابرتهايد في المدى البعيد، لا لأخلاقيات إسرائيل وحرصها على حقوق الفلسطينيين ولكن لأن إسرائيل تعرف جيدا أن نظام الابرتهايد إلى زوال في حال انعدام مشروع تحرر وطني جامع لدى الفلسطينيين وانسداد أي أفق لحل سياسي يضمن الطموحات الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي سيحدث طفرة في إستراتيجيات المطالب الفلسطينية حيث ستتحول المطالبة بدولة ذات سيادة إلى المطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية وحتى بحقوق سياسية كالانتخاب والمشاركة في الحياة السياسية مما سيؤسس لواقع الدولة الواحدة التي تهدد الهيمنة اليهودية.

قد يبدو هذا التحليل ضربا من ضروب الخيال، ولكن ما من تفسير للخضوع الإسرائيلي لهوس جون كيري عبر الموافقة الشكلية للمس ببقرات مقدسة كتجميد الاستيطان وتحرير المزيد من الأسرى سوى القلق من سيناريوهات مسار الابارتهايد الرسمي "القانوني" الذي يتضمن ضم معظم المناطق الفلسطينية لسيطرة وسيادة القانون الإسرائيلي عليها مما سيقود حتما لعزلة اقتصادية ومقاطعة دولية منتهيًا بمطالبة إسرائيل إعطاء حقوق مدنية وسياسية للفلسطينيين. وإذا نظرنا إلى حال المفاوضات اليوم فيبدو أن الهنجعية الإسرائيلية والهوس بسيطرة خطاب دولة اليهود إلى جانب تخاذل المفاوض الفلسطيني وفقدانه الشرعية تماما على المدى البعيد، ستودي إلى واقع الأبارتهايد المقونن الذي لن يعمر طويلا كحال أي نظام أبارتهايد في التاريخ.

هذه النتيجة ستعيدنا إلى أصل الصراع متمثلا بمقارعة الدولة اليهودية والخطاب الصهيوني القائل إن فلسطين التاريخية هي وطن قومي لليهود قوامه المحافظة العنصرية على أكثرية وهيمنة يهودية وترويض كل ما هو غير يهودي عبر الصهينة والأسرلة. مدى التحديات التي سيواجهها الفلسطينيون في مختلف أماكن تواجدهم لخوض هذا الصراع القديم من جديد على جبهات عدة سيكون ضخما وجللا، ولنا أن تخيل مسؤولية الحركة الوطنية في الداخل في صياغة وقيادة هذا الصراع المطول والشائك.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]