في معراب، يدرّب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع زوجته النائبة ستريدا ونواب كتلته، أنطوان زهرا وشانت جنجنيان وإيلي كيروز، على لعبة جديدة: عدّ النواب. يفتح يده ويبدأ: بدر ونوس على إبهامه، عماد الحوت على سبابته، وفريد مكاري على الوسطى... ولا يكاد يفرد أصابعه حتى تكمل زوجته العدّ، يليها زهرا فجنجنيان ثم كيروز.
كتلة المستقبل 39 نائباً (المغترب الكبير عقاب صقر ضمناً)، القوات ثمانية، والكتائب: سامر سعادة، إيلي ماروني، فادي الهبر. تنتهي الأصابع ولا ينتهي النواب. ينادون ملحم رياشي ليضعوا سامي الجميّل على إبهامه الأيمن ونديم على السبابة. والمستقلون المضمونون 4: بطرس حرب وفؤاد الأسعد ودوري شمعون ومروان حمادة. أصبحنا 56. لا يمكن ميشال المر ونايلة تويني إلا أن يصوّتا معنا، يصرخ أحد الحاضرين، فيحرّر رياشي إصبعين إضافيين من يده اليسرى. صاروا 58. ينقص جعجع سبعة نواب فقط، إن ضمن كل هؤلاء، ليفوز بالرئاسة بالنصف + 1. ماذا عن الثلاثي الطرابلسي: نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وأحمد كرامي، يسأل أحد الحاضرين؟ فيذكره آخر بأن ما قاله جعجع عنهم في العامين الماضيين يفترض أن يدفعه إلى عدم قبول تصويتهم له حتى لو أرادوا ذلك. ماذا عن هنري الحلو؟ يسأل آخر. يذكر أحد الحاضرين أن خط وليد جنبلاط غير مقفل وكل شيء وارد. يقترح ثالث إيجاد ثُغَر ما للدخول على النواب العونيين يوسف الخليل وفريد الخازن وغسان مخيبر وسليم سلهب. ليس كل ما سلف متخيَّلاً، هذا يحصل فعلاً.
في الرابية، يجلس رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون وحده على طاولة مطبخه. يحصي الأصوات المؤيّدة له بينه وبين نفسه: كتلته 22، والثنائية الشيعية 26، والمردة 4 والقومي والبعث 4، ويضاف إليهم النائبان طلال أرسلان ونقولا فتوش ليغدو العدد 58. هؤلاء مضمونون مئة في المئة. ينقصه سبعة. يمكنه أن يقايض النائب ميشال المر بصراحة: صوتاه الرئاسيان (مع حفيدته نايلة تويني) مقابل تبني عون ترشيح ابنته ميرنا على لائحته المتنية. وزراء طرابلس الثلاثة السابقون يعلمون أن مصلحتهم السياسية، بغض النظر عن علاقاتهم الوطيدة بقوى 8 آذار، تقتضي مجيئه هو رئيساً، لا سمير جعجع أو غيره ممن سيعيدون مفاتيح السرايا للرئيس سعد الحريري فور انتخابهم. صاروا 63. ينقصه صوتان فقط. لا يرى بصيص أمل في اجتذاب نائب مستقبليّ أو آخر جنبلاطيّ؛ هو لا يعرفهم أساساً على المستوى الشخصي، ويشك في وجود اختراق لحزب الله على هذا المستوى. أتراه بحاجة للرئيس أمين الجميّل مرة أخرى للوصول إلى قصر بعبدا؟ يعلم أن التفاهم مع الكتائب وارد. فبعيداً عن الحسابات السياسية والمالية وغيرها، يفضّل الجميّل وصول عون إلى بعبدا أكثر بكثير من جعجع، لكنه غير مطروح حتى الآن.
إنها معضلة حقيقية. يشبه عون وجعجع تلميذين لم يدرسا طوال العام، لكنهما توقفا عن النوم قبل الامتحان بأسبوع للدرس أملاً بالنجاح. لا رئيس تكتل التغيير والإصلاح فكّر بحاجته، يوماً، إلى خالد ضاهر وغازي يوسف و(...) وخضر حبيب للوصول إلى بعبدا حين كان يصعّد ضد تيار المستقبل ويستمتع بالإيحاء لجنبلاط بما سيفعله «تسوناميه» به. ولا رئيس القوات قدّر، أيام المجلس العسكري، حاجته يوماً إلى أصوات المر والكتائب الجميّليين، أو ميقاتي والصفدي ونواب الاشتراكي وأمل وحزب الله وكل الآخرين الذين يدأب على مهاجمتهم، مفترضاً أن بشري وباب التبانة وعرسال وحدها تنتخب الرئيس.
«ترشيح جعجع أخذ كمزحة بداية»، يقول أحد النواب السابقين. بدأ يأخذ منحى جدياً بعد مبالغة عون في تسريب أجواء إيجابية عن حواراته مع المستقبل. بدا الرئيس الجميّل وحرب والنائب روبير غانم وغيرهم من مرشحي 14 آذار عاجزين عن فرملة الاندفاعة العونية. حتى البطريركية المارونية وجدت نفسها، لوهلة، أمام مرشح ماروني واحد، قوي وجديّ، لا يسعها إلا أن تدعمه. هنا بدأ جعجع هجومه: كان المستقبل في حاجة إلى تصعيده أكثر فأكثر ليصدّق عون أن المهمة الحريرية ليست بالسهولة التي يتخيّلها الجنرال، ويتملص المستقبليون، بالتالي، من إيحاءاتهم الإيجابية السابقة. كما يحتاجه الرئيس أمين الجميّل، وكل المرشحين الآخرين، للقول إن عون بالنسبة إلى تيار المستقبل، يماثل جعجع بالنسبة إلى حزب الله فيحترق الاثنان. البطريركية المارونية، أيضاً، تحتاج إلى هذا التصعيد لتقول لعون إن ثمة مرشحين غيره أقوياء ولا يسعها سوى الوقوف على الحياد.
هكذا غدا جعجع مرشّحاً جدياً لرئاسة الجمهورية. لم يفعل «الحكيم» شيئاً حتى الآن أكثر من الإعلان أنه الممثل الأول للمسيحيين على المستوى الوطني. يعتقد أن تصريحاته الصحافية تفرض أمراً واقعاً على تيار المستقبل والكتائب وبطرس حرب، فتتبناه قوى 14 آذار من دون تشاور أو تنسيق كمرشحها الأوحد للرئاسة. يفترض أن وحياً ما سيسحر حزب الله وحركة أمل والحزب الاشتراكي وكل خصومه الآخرين، فيهرعون إلى المجلس لانتخابه رئيساً. ويرى أن فريقه السياسي يحقق، دولياً وإقليمياً ومحلياً، تقدماً استثنائياً يخوّله الفوز بالرئاسة الأولى. هو لا يحتاج إلى الحديث مع الرئيس الجميّل والنائب حرب لينسحبا لمصلحته، ولا مع تيار المستقبل ليتبنى ترشيحه، ولا مع الثنائية الشيعية والنائب جنبلاط ليعرض عليهم برنامجه الرئاسي، ولا مع الدول الإقليمية والدولية التي تجد نفسها معنية بهذا الاستحقاق. إنه مرشح جديّ. جديّ أكثر من المرشح رشيد لبكي.
في المقابل، كان عون يعلم، هذه المرة، أن صراخه بأنه الممثل الأول للمسيحيين لا يوصله إلى المجلس النيابي، حتى ولو كان تكتله أكبر بثلاثة أضعاف من كتلة القوات. لذلك كثّف منذ ثلاثة أشهر، على نحو خيالي، اتصالاته ضمن فريقه السياسي ليضمن أنه المرشح الأوحد لهذا الفريق. نشط لإصلاح ما يمكن إصلاحه في علاقته مع المستقبل والحزب التقدمي، آملاً إسقاط فيتو مرجعية إحدى الطائفتين، السنية أو الدرزية، عليه. لمعرفته بأن الديموقراطية التوافقية تحول دون انتخاب رئيس ترفضه مرجعية طائفية واحدة، فكيف الحال بمرجعيتين تتوجسان منه. وبذل، طوال عامين، جهداً استثنائياً من السعودية إلى الولايات المتحدة ليغلق صفحة ويفتح أخرى، لإدراكه أن الطريق إلى بعبدا لا تمرّ في وسط بيروت وكليمنصو وعين التينة والضاحية ودمشق فحسب، بل بالرياض وواشنطن، وأيضاً الفاتيكان الذي لا يعيره الزعيم الآخر للمسيحيين أي اهتمام، فيما ينغل عون فيه.
ترشح عون للرئاسة فعل حقيقي. أما ترشح جعجع فمجرد رد فعل: «أنت مرشح... إذاً أنا مرشح». ما بدأ كنكتة انتهى نكاية.
جعجع ليس مرشحاً جدياً لرئاسة الجمهورية. إنها مجرد دعاية كاذبة في غير محلها. المرشح الجدي هو من يجمع فريقه السياسي (علانية أقله) عليه، لا من يزاحمه اثنان على الأقل من فريقه السياسي. والمرشح الجدي من يحاول طمأنة المرجعيات التي ستنتخبه لا من يمضي بتهديدها يومياً بالويل والثبور. وهو من يأخذ حسابات الدول الإقليمية والدولية في اعتباره، لا من يفترض أن موازين القوى في أحلامه هي موازين القوى الحقيقية.
[email protected]
أضف تعليق