لا تزال الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية وكذلك ظاهرة "احتلوا وول ستريت- Occupy Wall Street" الامريكية خلال الأعوام الماضية تشكل مادة دسمة للعديد من الباحثين في مجالات الاعلام وعلم الاجتماع وكذلك العلوم السياسية. وفي وقت انصب تركيز العديد من الباحثين على دراسة استخدام نشطاء هذه الانتفاضات لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات الحديثة، وبالأخص مواقع التواصل الاجتماعي في نقل تطورات الاحداث والاتصال بين جموع المتظاهرين لتعظيم الفعل الجماعي على الارض، رأت وسائل الاعلام التقليدية في هذه المواقع وما توفره من معلومات حية منافس قوي لها كمصدر تقليدي للمعلومات، حيث اضطرت بدورها الى اللحاق بهذا الركب عبر استقاء معلوماتها خلال تغطيتها للأحداث الميدانية من فضاء الانترنت وتحديدا من مواقع النشطاء البارزين، وعمدت ايضا الى انشاء صفحات خاصة بها على شبكات التواصل الاجتماعي للوصول الى جمهور الانترنت الواسع.
ورغم اهمية وسائل الاتصال هذه، الا ان الخلاف بين الباحثين لا زال قائما حول مدى أهمية هذه التكنولوجيا وقدرتها على احداث التغير. صحيح ان هذه الادوات فعالة لما توفره من سهولة الاتصال بأسعار زهيدة، وقدرة على التنظيم السريع والتواصل بين النشطاء السياسيين والمجتمعيين، وهي عوامل تحتاجها الحركات الاجتماعية لتبقي على حالة العمل الجماعي قائمة، الا ان الفعل على الارض وديمومته ربما يحتاج الى اكثر من ذلك.
يدافع كلاي شيركي استاذ الاعلام الجديد في جامعة نيويورك عن قدرة التكنولوجيا الحديثة على تفعيل العمل الجماعي اذ يرى بان أي وسيلة توثر على قدرة الفاعلين على احداث التغير بالأغلب سيكون لها تأثير على المجتمع ككل، مشيرا الى ان ما اسماها "الادوات الاجتماعية" تشكل وسيلة بديلة قادرة على احداث العمل الجماعي، نواته مجموعات فضفاضة تعمل دون توجيه اداري وطابعها غير ربحي.
وفي حين يعتبر سيدني تارو استاذ العلوم السياسية والاجتماع الامريكي ان الانترنت اصبح يشكل وسيلة للتنظيم واداة لنقل رسالة الحركات الاجتماعية والسياسية، يشدد عالم الاجتماع الاسباني مانويل كاستيلس الرائد في نظرية "مجتمع الشبكة" ان التواصل بين نشطاء الحركات يحدث عبر صفحات الانترنت وخارجها، الا ان الشبكات الحركية تشكل بين الفاعلين في الميدان وليس عبر فضاء الانترنت. وكذلك بالنسبة لعالم الاجتماع الايطالي ماريو دياني الذي يرى في ان انخراط اي حركة اجتماعية-التي تشكل عبر تجمع احزاب ونشطاء- داخل شبكات ذات طابع سياسي او اجتماعي يؤثر على قرار الفرد بالانخراط في العمل الجماعي، موضحا ان العمل الجماعي يأتي نتيجة لبناء التحالفات بين الحركات والنشطاء وبالتالي توثيق عرى الصلات بين هؤلاء الفاعلين.
وفي الحالة الفلسطينية، قد يكون من الصعب الحديث عن وجود حركات اجتماعية تقليدية لما لهذه الحالة من خصوصية عنوانها الصراع التحرري الوطني ما انعكس على شكل العمل الجماعي ليكون موجها نحو مقاومة الاحتلال. هذا الواقع جعل الحركات الوطنية التحررية ذات الفكر السياسي تعمل منذ نشأتها على توسيع قاعدتها الشعبية ليصبح الاستقطاب الحزبي حالة عامة ، وليصل تأثير الانتماء الحزبي الى جميع مفاصل التشكيلات والهيئات والنقابات الشعبية. سيطرة الفكر الحزبي حال دون تشكل حركات وتحالفات اجتماعية خارج الاطار الحزبي، فنادرا ما نجد أي من مكونات الحركات الشعبية سواء نقابات او اتحادات وغيرها لا تطغى على تشكيلتها الخلفيات السياسية الحزبية لأعضائها.
هذا الواقع ينعكس ايضا على الواقع الشبابي، بحيث نرى ان أي مبادرة لعمل شبابي جماعي لا بد وان تتأثر بالمواقف السياسية الحزبية لهذه الفئة من الشباب او تلك. ويمكن ملاحظة ظاهرة الدفاع عن المواقف الفصائيلة والحزبية جليا بين الشباب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي عند نقاش أي قضية عامة. وقد يكون من المنطقي الدفاع عن مواقف الحزب الذي ينتمي اليه المرء على قاعدة ان مواقف الحزب السياسية تجاه القضايا الوطنية ذات العلاقة بمواجهة الاحتلال الاسرائيلي ناجمة عن مبادئه التي قرر الفرد اعتناقها والايمان بها. لكن ان ينسحب ذلك على تمترس الشباب خلف الحزب حتى وان تنافى اداء الحزب تجاه القضايا المجتمعية مع مصالح الشباب فهو امر ربما يجافي المنطق.
ابتعاد قطاع الشباب المسيس عن التمترس خلف مواقف صناع القرار في احزابه-وتحديدا شباب فصائل منظمة التحرير الفلسطينية- قد يشكل ارضية لخلق حالة شبابية فاعلة تقوم على اساس شراكة عملية عنوانها الدفاع عن مصالح فئة الشباب في الوصول الى مراكز صنع القرار والانخراط في صنع القرار الاجتماعي والسياسي وغيرها من المطالب المشروعة.
قدرة الشباب على بناء تحالف قطاعي متوفرة، حيث هموم وقضايا الشباب، وهو القطاع المهمش الاكبر فلسطينيا على اختلاف توجهاتهم، هي واحدة، فلا ضير في بناء تحالفات تخدم مصالح قطاع الشباب دون ان ينتقص ذلك من حقه الافراد في الدفاع عن مواقفهم ومواقف احزابهم السياسية. فالشباب الفلسطيني بمختلف انتماءاته طالما عمل سويا على مواجهة الاحتلال الاسرائيلي تحت لواء الدفاع عن الوطن، قادر ايضا على العمل سويا تحت اطار الدفاع عن قضاياه المجتمعية الداخلية.
الشباب الذي يجد في الاعلام الالكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي متنفسا للتعبير عن همومه ومنصة لتوجيه نقده للواقع الاجتماعي والسياسي، لا زال يفتقد الحلقة التي تنقله من هذه الحالة الى التأثير الفعلي الذي يحمي مصالحه. وقد يكون تفكير قادة القطاعات الشبابية داخل الاحزاب الوطنية بعقد لقاءات فيما بينهم بعيدا عن التأثير الحزبي مقدمة لتشكيل حركة اجتماعية شبابية نوعية تدافع عن مصالح القطاع الاوسع في المجتمع، يساعدها في ذلك توفر ادوات التعبير والتواصل الجديدة التي يمكن ان تسهم في تعزيز صلات عناصر شبكتها الشبابية وتعينها على ادامة عملها الجماعي.
[email protected]
أضف تعليق