الحياةُ تسيرُ في اتجاهٍ واحدٍ: ولادةٌ فطُفولةٌ فصِباً فشبابٌ (فحبٌّ) فنُضًجٌ فخريفٌ فتناثرٌ فنهايةٌ.
ومن يشأْ، فبدايةٌ فهلمّجرّا.
نعرفُ ذلك أو نظنُّ.
والأشياءُ عموماً تسيرُ، من حالةٍ إلى حالةٍ، باتجاهٍ واحدٍ. نعرفُ ذلك أيضاً، أو نظنُّ؛
الرصاصةُ التي تنطلِقُ من فوَّهةِ البندقية أو المسدسِ أو الرشاشِ، لا تعودُ إلى بيتِها سالمةً.
والسيفُ الذي يذبحُ الطفلَ في بلادِ الشام وبلادِ التوتسي، من الوريدِ إلى الوريدِ، غيرُ قادرٍ على استعادةِ براءةِ سيِّدِه ولا سيِّدِ سيِّدِهِ ولا لهْفةِ الثغرِ الصغيرِ إلى ثديِ الحليبِ ولا الحلمِ الجميلِ إلى ليالينا.
الخروجُ من الدم، كما اكتشفَ "ماكبث"، أصعبُ بكثيرٍ من الدخولِ فيه. ومياهُ المحيط تعجزُ عن غسْلِ ضميرٍ ملطَّخٍ.
الذي يُلدغُ مرةً، يفقدُ ثقتَه بالحبْلِ، ويخافُ من جرِّهِ، وقد يختلطُ عليهِ الحابلُ بالنابل.
من يمارسُ الكذبَ على الناسِ، قد يدمنُ عليه. لكنْ من المؤكدِ أن نداءَهُ سيسقطُ في الطريق، فيأكلَهُ الذئبُ.
والأشياءُ، حين تتحوّلُ، لا تعودُ إلى ما كانت عليه. أو يجوزُ:
كسرُ المرايا لا يشوِّهُ الوجوهَ. لكنَّ كسْرَ الوجوه يشوِّهُ المرايا وصفحاتِ المياهِ وألواحَ الوصايا.
يجوزُ أن يصيرَ الإنسانُ لوحاً أو حِماراً أو ثوراً أو تيساً أو أفعُواناً أو ما يتسعُ له الخَيالُ. لكن لا يجوزُ أن يصيرَ اللوحُ أو الحمارُ أو الثورُ أو التيسُ أو الأفعوانُ ابنَ آدم.
يجوزُ أن تتحولَ الدودةُ إلى شرنقةٍ وإلى فراشةٍ. لكن لا يجوزُ أن تتركَ الفراشةُ الأزهارَ والسماءَ والروابي إلى زنزانةٍ من حريرٍ أو إلى حياةِ الزحفِ على بطنِها.
يجوزُ أن نجعلَ من حباتِ البُن المحمَّصِ والهالِ الطريِّ مسحوقاً، ونطبخَه مع الماءِ قهوةً لقصيدةِ الصباحِ. لكن لا يجوزُ أن نُعيدَ الماءَ إلى غيمتِه والبنَّ والهالَ إلى غُصنيْهِما، ولا مردَّ للصباحِ الذي يذهب.
يجوزُ ان نكتبَ ما نشاءُ على ورقٍ. لكن لا يجوزُ أن نستردّ الورقَ إذا كُتبَ عليه أن يأكلَهُ اللهب.
نستطيعُ أن نضيءَ شجرةً، لكنْ حينَ نقطَعُها نطفئُ ظلَّها إلى أبَدِ الآبدين.
نعم. الحياةُ تسيرُ باتجاهٍ واحدٍ. ربَّما.
والذي يتحول غيرُ قادرٍ على استعادةِ شكلِه الأول. ربٌما.
وقد قيلَ قديماً: لا يمرُّ المرءُ في النهرِ نفسِه أكثرَ من مرةٍ واحدة.
أما أنا، كاتبَ هذه السطور، فقد تغيرتُ قليلاً أو كثيراً، وإلى غيرِ رجعةٍ، ما بين الكلمةِ الأولى والأخيرة.
[email protected]
أضف تعليق