يدرك الرأى العام المصرى جيدا أن تصاعد جريمة التحرش بالنساء فى المساحة العامة (الميدان، الشارع، وسائل الانتقال، الجامعة، مواقع العمل، أمام دور العرض السينمائى، وغيرها) وكذلك جرائم العنف والاعتداءات الجنسية ضد النساء فى المساحة العامة والخاصة (العنف المنزلى) يرتبط سببيا بغياب منظومة عقوبات قانونية رادعة وتراخى مؤسسات إنفاذ القانون (الشرطة والنيابة العامة والمحاكم) عن تعقب ومحاسبة مرتكبى هذه الجرائم.
يدرك الرأى العام هذا جيدا، بالقطع بعد أن عملت المنظمات المدافعة عن حقوق المرأة طويلا على نشر الوعى وصناعة حالة من الاهتمام بالانتهاكات المستمرة والمتصاعدة التى ترد عليها، وتتعاطف قطاعات منه مع مطالب وضع عقوبات رادعة للجرائم ضد النساء والمحاسبة الناجزة لمرتكبيها.
إلا أن وعى وتعاطف الرأى العام، وكما دللت مجددا جريمة التحرش بطالبة جامعة القاهرة، يشوهان بفعل الثقافة الذكورية التى مازالت تسيطر على الكثير من الكتاب والصحفيين والإعلاميين الذين يدفعون وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة إلى وضع النساء المتحرش بهن أو الواقع عليهن جرائم العنف والاعتداءات الجنسية فى خانات الاتهام.
تنتهك كرامة النساء وحرمة أجسادهن ويعبث بتماسكهن الشخصى والنفسى، يتوحش بعض الذكور ويفرض عليهن دونية العنف فى المساحة العامة والخاصة، يتحول كل الذكور إلى مصدر تهديد مستمر لحقهن فى الوجود الآمن فى المساحة العامة والخاصة والى مجرمين ومرتكبى عنف محتملين، يفقد المجتمع تدريجيا إنسانيته وتمدنه وتحضره ويعتاد قبح جرائم التحرش والعنف والاعتداءات الجنسية وكارثية تكررها.
نتورط فى كل هذا، ثم تدفع الثقافة الذكورية كتابا وصحفيين وإعلاميين إلى الخروج على الرأى العام لاتهام النساء بتحمل مسئولية الجرائم الواقعة عليهن، إما بإشارة متهافتة إلى مظهر «المتحرش بها» أو بإشارة أكثر تهافتا إلى سلوكها أو بعنف لفظى يبرر العنف الجسدى ضد النساء بادعاء عدم «حماية المرأة لنفسها» وغير ذلك من غث القول. نتورط فى كل هذا، ثم يمارس كتاب وصحفيون وإعلاميون الاستعلاء المزدوج باتجاه النساء بتحميلهن «مسئولية» ما يعانين منه وبتغييبهم بالكامل لمسئولية أقرانهم من الذكور المتوحشين، بل وبرفض شجاعة بعض النساء اللاتى يجعلن من جرائم التحرش والعنف والاعتداءات الجنسية قضايا رأى عام ويواجهن الثقافة الذكورية التى تجعل منها مسكوت عنه. نتورط فى كل هذا، ثم تدفع الثقافة الذكورية بعض المتعاملين على مواقع التواصل الاجتماعى إلى تدوال مرضى لمادة فيلمية تسجل جرائم التحرش الجماعى بالنساء وإلى تعليقات أكثر مرضية.
لا مواجهة حقيقية لجرائم التحرش والعنف والاعتداءات الجنسية إلا بالمزج بين تعديل القوانين لتقر عقوبات رادعة، وبين الضغط على مؤسسات إنفاذ القانون للمحاسبة الناجزة لمرتكبى هذه الجرائم، وبين تفنيد الثقافة الذكورية المسيطرة على الإعلام والتى يستمر توحشها وتنتج تشويها مستمرا لوعى الرأى العام.
[email protected]
أضف تعليق