قبل ان ندخل في عمق الصوم الاربعيني لا بد وان نعود الى الكتاب المقدس لنتعرف على ما يقوله بخصوص الصوم، فقد توجه دانيال النبي الى الرب بالصلاة والصوم والتضرعات ليتفتح قلبه بالنور الالهي، وكان الشعب يصوم ويتذلل امام الرب قبل القيام بمهمة شاقة ليستجيب الى طلباتهم، كما صام اخاب طلبا للصفح، وصام داؤد النبي ملتمسا الشفاء لصبي اشرف على الموت، كما صام هو وغيره اثناء المناحة على شاؤل ويوناثان ابنه، وكذلك بكى الشعب وصاموا بعد حرق اورشليم، وبعد كل نكبة وطنية، ولوقف اية كارثة وشيكة، وكذلك لترقب النعمة الالهية لاتمام رسالة ما، والاستعداد الى ملاقاة الله.

وفي العهد الجديد تعتمد الكنيسة على الشواهد الواردة في الكتاب واهمها صوم المسيح والرسل من بعده وقد بدا الصوم منذ القرون الاولى للمسيحية كما تؤكد المخطوطات والتقليد والقوانين الكنسية ذلك.

ولماذا سمي هذا الصوم بالصوم الاربعيني؟ إن عدد الأربعين تحدد في القرن الرابع تحت تأثير الرموز الكتابية، دام الطوفان أربعين يوما ، صام موسى وإيليا ويونان أربعين يوما ، قطع الشعب اليهودي في الصحراء أربعين سنة ، صام يسوع أربعين يوما ولذلك سمت الكنيسة الصوم الكبير " بالصوم الأربعيني.

وامام هذه الشواهد الكتابية والتقليد المسيحي ماذا نحن فاعلون بخصوص الصوم وكيف يتوجب علينا فهم معاني الصوم ومن اجل ذلك لنتأمل فيما يلي:

اذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين، فانهم يكحلون وجوههم، ليظهروا للناس انهم صائمون. الحق اقول لكم انهم أخذوا اجرهم. أما أنت فاذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس بأنك صائم. فالسيد المسيح رسم لنا الخطوط الرئيسية للصوم، ناهيا ايانا عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركا التفاصيل للكنيسة لتبت فيها، ولتفسر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسبا لتحقيق مفهوم وهدف الصوم.

ويبقى السؤال المهم، كيف نسمع كلمة الرب، ونفهم معنى الصيام، وكيف نطبقه ونعيشه، لنتقرب منه، ولنجني فوائد الصيام المتعددة؟.

الصوم في المسيحية هو صوم روحي بوسائل مادية، مثل الانقطاع عن الطعام والشراب لمدة من الوقت، وتخصيص وقت للصلاة، وتوفير ما نصوم عنه وبعض المال للاخرين.

انه تجدد ودخول في سر المسيح الفادي، نموت معه لنحيا معه في قيامتنا من عبودية الخطيئة الى حرية أبناء الله، انه استحضار لعيد الفصح وهو تجلي تدريجي له، كأن نصعد السلم درجة درجة الى ان يحين العيد، الصوم الاربعيني هو فترة تبدأ بتحويلنا الى فصحيين حتى اذا جاء الفصح نعيد العيد متهللين فرحين، انه شوق وانتظار للقيامة المجيدة بفرح ورجاء كبيرين.

الصوم هو عبارة عن ممارسات استغفارية، واستدرار لرحمة الله أمام خطايانا البشرية، والكتاب المقدس حافل بالادلة على ذلك، انه نكران الذات، والتقرب من الله وسماع كلمته والعمل بمشيئته،وسماع وصاياه ووصايا الكنيسة والعمل بها، انه هبة من الله يمنحها لمؤمنيه ليدخلوا من خلالها الى بحر المحبة والتسامح والعطاء.

اذن مقومات الصوم الاربعيني هي الرجوع الى الله وطلب رحمته بكل لجاجة من خلال اعمال التوبة والصلاة والصدقة، وبالطبع هناك اعمال روحية ذات صلة بهذا المثلث وهي الاهتداء ،المصالحة الغفران، محبة القريب، والابتعاد عن الكراهية والحقد والانتقام، الصوم يعني طلب القوة الروحية الإيمانية للانتصارعلى قوة الشر والشيطان والخطيئة، كما يعني الخدمة والمهام الجليلة التي يكلفنا بها الرب، كما ان الصوم يعني الابتعاد عن الغضب والمشاحنة والكراهية، وعن محاكمة الاخرين وادانتهم، وكذلك نبذ اليأس والاحباط والتذمر، انه يعني باختصار التعبير عن الايمان والعمق الروحي والنمو في محبة الله.

الصوم المقبول من الله هو الصوم النابع من قلب المؤمن المسلم نفسه للرب، والخاضع لمشيئته، والممتلىء بالثمار الصالحة، والتصرفات المستقيمة، لان الله ينظر الى القلب وليس للمظهر، فإن كان الداخل أي قلب الإنسان مملوءا بنعمة المسيح، فان صومه يكون مقبولا، لذلك أضاف المسيح له المجد صفة أخرى هامة لهذا الصوم المقبول حينما قال "وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً، ومن هنا نجد ان العلاقة في الصوم يجب ان تكون بيننا وبين الاّب وفي الخفاء وهو القادر على فحص القلوب والكلى والذي سيجازينا.

لا يوجد جواب قاطع حول الصيام كأن نقول كل كذا او لا تاكل كذا، ولا يقوم على الزمن كأن تصوم النهار كله او نصفه، كما لا يقوم على كمية الاكل بان تاكل قليلا او تخفف من اكل كذا وكذا، ولا يقوم على النوعية كان تمتنع عن المنتجات الحيوانية.

الصوم يقوم على النوايا والتكفير عن الذنوب وحرمان النفس من الملذات والتفكير بالفقراء وعمل الخير بالاضافة الى الصلاة والتقرب من الله اي ليس ان تصوم لتظهر للناس انك صائما، انه يقوم على الحرية، وكل انسان يدرك اهمية الصيام وفائدته الروحية، وبالتالي يختار برنامجا يناسبه، فيختار اوقاتا للصلاة، وانواعا معينة من الماكولات يحرم نفسه منها، ويلتزم باعمال الخير، وكل ذلك يجب ان يتم بترغيب ويسر وقناعة وايمان.

الكنيسة الكاثوليكية منفتحة في هذا الخصوص تحترم حريتنا وتعطينا المجال للاختيار فهي تعرض ولا تفرض، ولكي يتم تجنب الفوضى تحدد مثلا عمر الصائم وفترة الصوم وانواع الماكولات وغايات الصوم وطرقها وتطلب من المؤمنين تطبيقها طواعية وليس بالاكراه من باب الروح يحيي والحرف يقتل.

وبقي هناك ملاحظة لا بد من الاشارة اليها وهي لماذا صوم الاربعاء والجمعة؟

صامت الكنيسة منذ أيامها الأولي الأربعاء والجمعة لأنَّ الأربعاء تمًّت فيه المؤامرة علي السيد المسيح عندما وعد يهوذا رؤساء الكهنة أنْ يسلمه لهم مقابل ثلاثين من الفضة ويوم الجمعة لأنَّه اليوم الذي صُلب فيه السيِّد المسيح ومات على الصليب.

القديس يوحنا فم الذهب قال في احدى عظاته عن الصوم اشحذ منجلك التي اتلفتها الشراهة ، اشحذها بالصوم انه لم يلغ الصوم ابدا وانما تكلم عن متطلبات الصوم الحقيقي ومنها الامتناع عن الخطيئة وانه ليس على الفم ان يصوم وانما العين والاذن والقدمين واليدين وكل اعضاء الجسم
وهو يقول لا اسالك عن التبدل الذي طرأ على طعامك بل على قلبك الصيام وحده لا يوصلك الى السماء بل يلزمك لتصعد اليها على اجنحة المحبة.

ولكي نرد على ادعاءات الذين ينكرون الصوم القائلين بان السيد المسيح قد الغى الصوم، نقول لهم بأن السيد المسيح لم يلغ الصوم لرسله بل اجله، الى بعد صعوده الى السماء، والالغاء شي والتأجيل شي اخر، لا بل ان السيد المسيح كان في العهد الجديد أول الصائمين كما ورد في انجيل متى ولوقا، وهناك دلائل كثيرة في الكتاب المقدس سواء بالعهد القديم او العهد الجديد نستطيع ان نرد فيها على تلك الادعاءات.

خلاصة الموضوع:

الصوم ليس هدفا بحد ذاته وانما وسيلة للوصول الى الهدف.
ما نصوم عنه ليس من حقنا فيما بعد وانما هو من حق الفقير.
الصوم كالطير لا يطير الا بجناحين الصلاة والصدقة.
الصوم الروحي مكمل للصوم الجسدي.

واخيرا فليكن طعامنا في زمن الصوم الاربعيني الكلمة التي تخرج من فم الله لانه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله، والعمل بمشيئته وهو القائل طعامي ان اعمل مشيئة الذي ارسلني، وان نلبي دعوته ونقبل بتوبة وايمان الى تناول جسدة وشرب دمه وهو القائل: ان جسدي ماكل حق وان دمي مشرب حق.

لنصم جميعا بفرح ونشاط، وبتهذيب للجسد والروح، وبيقظة وانتباه، وباحسان ورحمة، وبمحبة وسلام، وبمسامحة وغفران، ناظرين الى الرب يسوع المصلوب الذي طعناه بخطايانا، ومتحدين معه، ولنشبع انفسنا من معين حبه وحده الذي لا ينضب ابدا، وبذلك ننال جزاء صيامنا من قوة روحية ومحبة وسعادة وسلام ، اّمين.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]