في 23 أكتوبر الماضي شهدت الناصرة هزة أرضية بدرجة خامسة في سلم ريختير السياسي. في 22 مارس ضربت الهزة مجددا وهذه المرة كانت ساحقة بدرجة عشرة آلاف صوت ونيف في سلم الجماهير وربما أكثر وهي بنكهة تاريخية بمقدار الانقلاب التاريخي في 1975.
حتى علي سلام في سياق دعايته الانتخابية لم يجرؤ على توقع فارق عشرة آلاف صوت ونيف بينه وبين الرئيس السابق زميله رامز جرايسي. بسره لابد أن علي سلام فوجئ مرة ثانية بهذا الجرف من مرتفعات الجبهة نحو مروجه.
كما جاء في الجولة الأولى،فإن نتائج المنازلة الأخيرة جاءت احتجاجا صارخا من أهالي الناصرة على إدارة الجبهة للبلدية. بعد مسلسل تركي قضائي حسم النصراويون قولهم الفصل. في صناديق الاقتراع المنتشرة في حواري الناصرة أشهر النصراويون بطاقات حمراء بوجه الجبهة ومرشحها.
من جال شوارع المدينة والتقى مختلف شرائح أهلها لم يكن بحاجة لسماع النتائج عند منتصف ليلة الثلاثاء. المكتوب يقرأ من عنوانه ودللت نسبة الإقبال على الاقتراع في المساء على أن المواجهة ستنتهي بـ " النوك أوت " هذه المرة.
انقسام بيروت
لقد خسرت الجبهة المنافسة والكثير مما لديها عندما سمحت بنشوء حالة كادت فيه تنقسم المدينة كانقسام عاصمة لبنان بين بيروت شرقية وبيروت غربية، بل حاولت استثماره متجاهلة أن ذلك خطيئة ولعب بالنار. خسرت عندما توقفت بمرحلة ما عن الزرع مكتفية بحصد ثمار ما زرعه الراحل زياد ورفاقه وعن عدم تأهيل قيادات شابة لمواصلة المشوار بدلا من إجبار رامز جرايسي رغما عنه في محاولة مأساوية لإطالة عمر الجبهة بالبلدية بالأوكسجين الاصطناعي.
تم الكشف عن النتيجة الحلوة لناصرتي والمرّة للجبهة في غضون ساعتين لكنها ثمرة تراكمات عمرها سنوات بل عقود. منذ اليوم الأول لم يطرح علي سلام مشروعا كبيرا حقيقيا ومقنعا للنهوض بالناصرة بكل نواحي حياتها.
لكن عيون النصراويين كانت تبحث عن طريق للاحتجاج على الجبهة ووقف إدارتها بل إسقاطها من سرايا البلد فوجدت بعلي سلام فرصة مواتية.
لا يتفرد علي سلام برؤية وأدوات تضمن للناصرة الفوز بوجبة تطوير دسمة لكنه عرف بفطرته كيف يزرع ويعد للحصاد فظل قريبا من الفئات الشعبية المنتمي لها،أصغى له فاستجابوا له عندما هاتفهم.
السلطة مفسدة
من يبتعد عن الناس يبتعد عنه ومن يدع السلطة تفسده يعاقبه الجمهور فهذا يمهل ولا يهمل ولا يمكن التغرير به كل الوقت.
قوة علي سلام في ضعفه وجاهزيته للتضحية بالكثير من أجل هذه العلاقة التبادلية مع الجمهور،وفي مخاطبته لهم بلغتهم وبالسعي للتخفيف عنهم في مساعدات عينية ناهيك عن المجاملات الاجتماعية على مدار الساعة.
بذلك تمكن فرد من إلحاق هزيمة بحزب سياسي عمره 100 سنة وتغلب على بقية الأحزاب العربية في الجولة الأولى فجاءت للالتفاف حوله بالثانية.
لم يكن بمقدور علي سلام ولا غيره أن يلحق بالجبهة مثل هذه الهزيمة لو أنها حافظت على صلاتها مع جمهور هدفها الأساسي الفقراء والمهمشون ولم تستبدل الضواحي والأطراف بالمركز وصار رموزها يتحدثون للناس خلف نظارات من ماركة كريستيان ديور.
الأرنب والسلحفاة
طيلة سنوات استعد سلام لهذه المنافسة وهي منافسة بدت شبه مستحيلة لكنها انتهت كما في السباق بين الأرنب المغرور وبين السلحفاة المجتهدة.
صحيح أن المجتمعات كائنات حية متغيرة وتتأثر بما يجري من حولها محليا،إقليميا وعالميا وثمة أسباب موضوعية تتعلق بتحول سلوك وقناعات الجمهور في فترات معينة لكن اقتصار تحليل الهزة الأرضية وعواملها على ذلك ينم عن خطأ أو محاولة تضليل. عوامل الهزة متوفرة في الجبهة ذاتها بعدما اهترأت قلاعها وحصونها من الداخل رويدا رويدا وبعدما وقعت بأخطاء تكتيكية أيضا خلال الشهور الأخيرة. في المرتين تداعت مرة واحدة عندما تحركت طبقات الأرض الدنيا. ولذا من غير الممكن القيام بمشروع إعادة بناء(ليس ترميما) دون التشخيص السليم للواقع والحالة المطروحة.
زلة لسان ؟
في خطاب نعي الخسارة داخل بيت الصداقة بدا رامز جرايسي واثقا من نفسه رغم الهزّة المدمرة وسرعان ما حمل على ناصرتي وفتح بالنار على التجمع والإسلامية وهذا ما ينطبق على رئيس الجبهة النائب محمد بركة.
المرء لا يؤخذ بزلة ولا بزلتين لا سيما حينما يكون محاطا بآثار زلزال لكن النزاهة والعقل والمصلحة الشخصية والحزبية تقتضي دفن الخسارة والتخلص من خطاب التخوين والتشكيك والبحث عن عيوب الآخرين وهو الخطاب الذي زاد طينة الجبهة بلة في الناصرة. وهل يعقل أن يتم التغرير بـ 27 ألف إنسان في الناصرة واعتبارهم ضحية مؤامرة شاركت فيها الأحزاب من التجمع حتى الليكود ؟ وكيف تفسر الجبهة تراجع قوتها في معاقل بارزة أيضا في كل أرجاء المدينة كحي الروم وحي البشارة؟
وهل جاءت الخسارات الجبهوية في شفاعمرو،طمرة،سخنين،عرابة،دير حنا وغيرها وليدة مؤامرة أيضا؟ وأين مناعة الجبهة كجسم مركزي وأين مسؤوليتها عن ضعف المناعة الاجتماعية في المدينة بعد أربعة عقود من إدارتها لدفتها؟
خطاب التخوين
إن الاستمرار بتخوين من يترك الجبهة أو ينافسها لم يعد سلاحا مجديا وهو يذكّر بسلوك تاريخي مشابه وخاطئ مع " الحركة التقدمية " و" أبناء البلد".
المضي بمثل هذه الرؤية والتمسك بروح الحملة الدعائية إياها يعني أن الجبهة تسير نحو هاوية جديدة. ولا شك أن الحملة الدعائية للجبهة في هذه الجولة قد تورطت بكل الأخطاء الممكنة وقد صممها وصب مضامينها مستشارون بعيدون عن نبض الشارع ومحاطون بجدران الوهم ودللت النتائج أنها خدمت علي سلام أكثر مما خدمت رامز جرايسي لاعتمادها الترهيب والطعن الشخصي والاستعلائية في الخطاب.
دعاية غبية
هذا لا يعني أن الحملة الناجحة كانت ستسعف الموقف لأن الحالة كانت مستعصية على التجميل ويحتاج شفاؤها لعمليات جراحية.
النتائج في الناصرة وشقيقاتها تكفي بعد هبوط غبار المعركة أرضا لأن يبادر رامز جرايسي وبقية قادة الجبهة لتغيير التوجهات وإجراء الحسابات وتصحيح المسيرة لصالح مستقبل الجبهة عامة لا سيما أن تصعيد اللهجة مع العدو الخارجي لن يخنق الأصوات الداخلية الداعية للإصلاح وتحمل المسؤوليات وهي أصوات قادمة لا محالة.
ليس عيبا أن يسقط الفرد أو الحزب أرضا بل العيب ألا يحاول النهوض ونحن كمجتمع عربي بحاجة لأن تعيد الجبهة حساباتها لتبقى كما هي جسم وطني علماني وعقلاني لها رصيد كبير في الناصرة والبلاد،وهي بتجربتها وعراقتها وثقتها وجودة قياداتها قادرة أن تسير منتصبة القامة قولا وفعلا وتحول دون انهيارات في مواقع وساحات أخرى إن قامت بالمجهود المطلوب بدلا من البقاء أسيرة وهم " نظرية المؤامرة" .
خسرت الجبهة ليس بالمؤامرة بل عندما غفلت عن أخطاء تراكمت وظللت على إنجازات هامة. قبيل رحيله بقليل،في 1993، طلبنا من الرئيس الراحل توفيق زياد تعقيبا على معلومات بحوزتنا(" كل العرب" وقتها) تفيد بأن موظفين في البلدية يهاتفون بنات الهوى على حساب خزينة البلدية( عشرات آلاف الشواكل) فدعا لفضحهم ونفذ ما تعد به فأبعدهم عن العمل. هكذا ينبغي أن تتعامل إدارة كل بلدية،بشفافية وحزم وإصغاء للشكوى، دفاعا عن الصالح العام.
ما قيل عن الجبهة ينطبق الكثير منه على التجمع في الناصرة بما يتعلق بالعلاقات مع الجمهور وإن رغب القيام بدور غير هامشي فعليه باستخلاص دروسه ودروس غيره فنتائجه في الجولة الأولى كانت فقيرة وتثير الشفقة. التجمع الذي أعلن نيته قبل عام عامين موازنة البرلماني بالميداني والاهتمام بالجبهة الداخلية حري به عدم الاكتفاء بضعف الجبهة وبالتعلم من أخطائه وأخطائها.
[email protected]
أضف تعليق