" ما عندينا بنات يِحبّنْ"..
والنفي على لسان أهل قرية أم الزينات يدخل في عداد العيب إلا إذا كان لدحر الذلّ وردّ العيب. فالبدويُ مضياف عندَه كلُّ ما يشتهي الضيفُ ويحبُّ...ما عدا بنتا تحبُّ.
" ما عندينا بنات يحبّنْ" تنفي جملة وتفصيلا وجود بنات يمارسن فعل الحبّ، والعياذ بالله، في قرية أم الزينات.
لا يغرّنّك اسمها، وهو اسمٌ يُغري بالجمال والحبّ كعنوان قصيدة حبٍّ في كتاب مدرسيّ ...فكلّ الزينات الجميلات في أم الزينات عاقرات حبّا، مختونات قلبا.
" ما عندينا بنات يحبّن" تؤكّد على تفرّد البنات في الحبّ وهو نفسه تفرّدهنّ في الخطيئة والعار.
تقبع القرية وراء جبل يردُّ عنها الهواء والهوى... ولولا الكرم البدويّ وقدسيّة الضيف وهو كالنبي... لكتبت هذه الجملة على مدخل القرية، فلا تسوّل نفس عابر سبيل أن يظنّ ببناتها الظنون..
ولولا الخوف من الفتنة، وهي أشدّ من القتل، لخُتمت بها الصلوات الفرض والنافلة...كانت هذه الجملةُ ناموسَ القريّة المقدّس تُفتتح بها المجالس بعد ذكر خالق الكون وبها تُختتم.
والرجال في أم الزينات لا يثقون إلاّ بالنساء اللاتي تجاوزن طور الشباب والجمال فلا يُخشى عليهنّ من الفتنة، وهنّ فقط يتوليْنَ تلقين عذارى القرية هذا الناموس المقدّس:" ما عندينا بنات يحبَّنْ"... كلٌّ وطريقتها في تلقين شرور الحبّ والذئب و...الغابة المظلمة.
وحسنة كغيرها من الزينات في أمّ الزينات لم يشغلها الحبّ بقدر اللاحبّ...لجأت إلى النفي كي لا تتورط في الإثبات أو تقع في المحظور..منذ أدركت أنّ الكلمة لفظٌ ومعنًى فقدت سلاسة الكلام، فإنّ مقتل الفتاة في أم الزينات على أطراف أنفاسها وبين جوانحها...والويل لها إنْ صدّق لسانُها ما تخفيه جوانحُها..
تجنّبت المفردات المشتقّة من كلمة الحبّ، فلم تستخدمها إلا مقرونة بما النافية: "ما احبّ السهر، ما احب الحلو، ما احبّ اللون الأخظر"
إذا وجدت نفسها مرغمة على الاختيار بين ما تحبّ وما لا تحبُّ كانت تتضاحك بتصنّع:" ما اعرف..ما احبّ شي"
حينما سألت نفسها يوما أيُّ الأشياء تحبًّ؟ كانت الإجابة أنّها لا تحبّ شيئا! خافت ...ثمّ ما لبثت أن اطمئنّت لبداوتها.
فكيف تحبُ شمس الصباح ولا تذوب عشقا في قمر الليل؟ وكيف تحبُّ طعم الطلّ نديا على شفتيها ولا تثمل لندى قبلة متخيّلة؟ وأيّ شيطان يضمن لها إن هي أحبّت سمرة المغيب أن لا تهوى راعي أغنام يستبيحُ صباحاتها؟ وأم كلثوم ما تنفكُّ كلّ ليلة تستبيح خجلها العذريّ من مجالس الرجال "الحبُّ كلّه حبيتو فيك، الحبُّ كلّه...وزماني كلّه أنا عشتو ليك، زماني كلّه..." الله يا ستّ الله! يستضيفها هؤلاء الرجال في مجالسهم ثمّ يرتشفون كلماتها مع قهوتهم وسجائرهم وآهاتهم المكبوتة.. أليس التغنّي بالحبّ كالحبّ في شرع رجالنا؟..أم كلثوم ليست محسوبة على بنات أم الزينات.
ذات يوم اختفت وردة، أجمل بنت في القرية. واختفى معها صوتها الناعم. كنّ يتجمّعن حولها بين أشجار اللوز وهي تغنّي:" الحبُّ كلّه حبيتو فيك
الحبُّ كلّه...وزماني كلّه أنا عشتو ليك". تهامست البنات:" وردة تحبّ".
وردة كانت جميلة وأصبحت أجمل، رجّع الوادي صدى ضحكتها. ثمّ اختفت.
واختفت نورا، ذات العيون السوداء والرموش الطويلة، كانت ترعى الأغنام في الصباح، وابتلعها المغيب ولم تعد. بكت أمّها فنهرتها النسوة. ولم تعد النساء يصطحبن بناتهنّ إلى بيت نورا.
ودلال اختفت كذلك. لم تبك أمّها. قالوا إنّ أخاها رجل، وهكذا يكون الرجال في أم الزينات.
كرهت حسنة قريتها وكرهت ناموسها. ما عندينا بنات يحبّن. في أم الزينات من تحبُّ يزداد جمالها جمالا وتعلو ضحكتها، ثمّ تسكن السماء. لا تزور القرية إلا في كوابيس أمّها، وأحيانا يتسلّلُ شبحها إلى بيّارة اللوز، ويبقى صوتها مخنوقا.
رأت حسنة في حلمها أنّ عيونها سوداء وشعرها ناعم طويل يُلامس الأرض، كانت تغنّي في بيّارة اللوز " الحبّ كلّه حبيته فيك وزماني كلّه أنا عشته ليك"، صوتها كان جميلا، كأنّه ليس صوتها...غنّت وغنّت وتساقط كلّ اللوز على الأرض.
في الصباح سرحت بقطيع الأغنام، وقبل أن يهتدي المساء إلى بيوت القرية تركت القطيع ونزلت عن الجبل، همست في أذن أختها الصغيرة:" سوقي القطيع إلى البيت. سأبحث عن قرية لا ترحلُ فيها البنت إذا غنت وأحبّت".
كبرت الصغيرة، ونسيت أختها. حلمت الصغيرة الّتي كبرت ببيارة اللوز والشعر الطويل وأم كلثوم فتذكّرت أنّ لها أختا رحلت تبحث... عن الحبّ!
[email protected]
أضف تعليق