عندما سمعت نبأ جريمة اغتيال رائد علاء زعيتر، على معبر الكرامة، وهو في طريقه إلى مدينة نابلس الخالدة في :»جبل النار» عادت بي الذاكرة إلى أوائل سبعينات القرن الماضي عندما تعرفت على وائل زعيتر إبن أسرة الأدب والعلم.. والده عادل شيخ المترجمين العرب وعمه أكرم القامة الوطنية الأردنية والفلسطينية الشاهقة.. كان وائل أحد رموز رواية :»رجال في الشمس» التي أبدعها غسان الكنفاني في عام 1963 وكل هذا وهو كان قد عمل في وزارة الأشغال في الكويت قبل رواية غسان الكنفاني بنحو ستة أعوام.. وأذكر أنه قد وصف لي وصفاً دقيقاً كيف كانت قدماه المحشوتان في «بسطار» عسكري قديم تلتصقان في «أسفلت» الشارع الذي كان يعمل في تعبيده مع آخرين وكيف كان زملاؤه يبذلون جهوداً كبيرة لإنتشاله من ذلك الإلتصاق.
لم أعرف في حياتي مؤدباً ومثقفاً ومتواضعاً مثل وائل زعيتر وكنا نمضي معه وزملاء آخرين ساعات طويلة في ليالي بيروت الشتائية ..من المساء وحتى إنبلاج فجر اليوم التالي وكان يحدثنا بتفاؤل عن حلم «العودة» وحلم «التحرير» وعن الربابة والموسيقى وعن الرقص الشعبي ودلالاته الإجتماعية والدينية وكان يأكل القليل ولا ينام طويلاً وكان عند ذكر «الثورة» لا يتحدث عن الرصاص ولا عن الدماء وإنما عن ثقافة شعب عريق ورث أمجاد الفينيقيين والكنعانيين وأمجاد العرب والإسلام وأمجاد دمشق وبغداد والأندلس وأمجاد رهبان الأديرة المترجمين الذين بإبداعاتهم العظيمة لاقحوا ما بين الحضارة العربية-الإسلامية وبين ثقافات شعوب المتوسط إمتداداً نحو الشرق إلى الهند والصين.
لم يذهب وائل زعيتر إلى روما كموظف وكرئيس لمكتب منظمة التحرير في العاصمة الإيطالية وإنما ذهب كأديب وكمثقف سارع لتأسيس لجنة للتضامن مع القضية الفلسطينية ساهم فيها الكاتب الإيطالي الكبير ألبيرتو مورافيا والمسرحي الفرنسي المعروف جان جينيه الذي أقام فترة في جرش والمؤرخ العظيم مكسيم رودنسون والمسيقار برونو كاليي كما ساهم فيها كبار القادة من الإشتراكيين والشيوعيين الإيطاليين.. لقد كان همه أن يدحض الأكاذيب الإسرائيلية وأكاذيب بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية التي كانت تدعي أن فلسطين أرضٌ بلا شعب وأنها يجب أن تكون لشعب بلا أرض وأن الفلسطينيين هم مجموعات من المتوحشين والقتلة والإرهابيين.. وكان عليه أن يؤكد أنَّ فلسطين أرض لشعب هو الشعب الفلسطيني وأن هذا الشعب أبدع في كل شيء وساهم في ثقافة وحضارة هذه المنطقة وأنه أرسل إلى أربع رياح الأرض من الولايات المتحدة وحتى اليابان من أثْروا الإبداعات البشرية.. وأن هناك أسماءً كثيرة معروفة ومشهورة.
لقد أخاف هذا النهج الإسرائيليين وهم شعروا أنَّ الأخطر على مشروعهم الإستيطاني الإمبريالي ، الذي يستند إلى الخرافات والأساطير، هو أن يعرف العالم الوجه الحضاري والثقافي لفلسطين وللشعب الفلسطيني وهو أن تترسخ هذه الحقائق لدى المبدعين مثل ألبيرتو مورافيا وجان جينيه ومكسيم رودنسون وبرونو كاليي وغيرهم كثيرون من القادة الشيوعيين والإشتراكيين الذين كانوا يشكلون طليعة للمثقفين الغربيين الذين يؤيدون كفاح الشعوب ضد مغتصبي أوطانها ولذلك فإن الدوائر الرطبة والمعتمة في إسرائيل قد أرسلت إليه رجال «الموساد» المنتفخين بالأحقاد ليقتطفوا حياته برصاص رشاشاتهم الملثمة بـ»كواتم الصوت» في الساعة العاشرة من صباح يوم السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1972 عند مدخل شقته في ساحة هانيبال في أحد أحياء العاصمة الإيطالية التي تعتبر راقية.
لم يستهدف «الموساد» الإسرائيلي برصاصه وبكواتم أصوات رشاشاته وائل زعيتر فقط .. لقد استهدفوا الإبداع الفلسطيني واستهدفوا ما يعتبرونه الخطر الحقيقي على رواياتهم التاريخية الكاذبة لفلسطين ولهذه المنطقة كلها وإنما إستهدف أيضاً غسان كنفاني وكمال ناصر ومحمود الهمشري واستهدف سعيد حمامي.. واستهدف أيضاً مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت خلال غزو عام 1982 وحيث تم التشنيع بالمخطوطات التاريخية وتدنيسها وسرقتها والتخلص من معظمها بالنيران وبالتمزيق.
وبالعودة إلى جريمة إغتيال القاضي رائد علاء زعيتر فإن الأهم من مجرد إطلاق الرصاص على إنسان فلسطيني وهو في الطريق إلى بلده وبلد آبائه وأجداده منذ بداية التاريخ وحتى نهايته هو أنَّ الإسرائيليين كلهم.. كلهم وبدون إستثناء يتقصَّدون إهانة الفلسطينيين ويتقصدون إحتقار العرب وحضارتهم ودورهم في التاريخ ولذلك ولأنهم ما زالوا يتعاطون مع الآخرين بعقلية «الغيتو» التي تعاطوا فيها مع الألمان ومع الغربيين وكانت سبباً ومسبباً للمذابح الهمجية المرفوضة التي تعرض لها اليهود على أيدي النازيين وغيرهم فإنهم تعاملوا مع العائدين إلى وطنهم لـ»الزيارة» فقط ليس كبشر وإنما كغرباء و»كبهائم» ، والعياذ بالله, وهكذا ولأنهم تقصدوا إهانة هؤلاء أطفالاً ونساءً ورجالاً فإن هذا كان يجب أن يثير مشاعر القاضي العادل وأن يدفعه للردِّ على المعلقة بنادقهم فوق صدورهم والذين لا يريدون الإعتراف بأن هؤلاء بشرٌ وأنَّ هؤلاء أهل الأرض الحقيقيين وأنهم يجب أن يتعاملوا مع الفلسطينيين بكل إحترام بدل أن يتعاملوا بالأساليب والوسائل الإستعلائية التي تعزز الأحقاد ودوافع الثأر في صدورهم.
لقد قضى رائد علاء زعيتر رحمه الله شهيد قضية إنسانية قبل أن تكون قضية وطنية وسياسية.. ولهذا علينا أن نتعامل مع هذه القضية بكل هذا المستوى الخطير.. فإمَّا أن يرتدع الإسرائيليون وأن يكفوا عن إحتقار الفلسطينيين فوق أرضهم الفلسطينية وإلاَّ فإنه علينا أن نعاملهم بالمثل وأن نفتشهم كما يفتشوا أهلنا وأبناءنا ونرعبهم كما يرعبون أطفالنا ونساءنا.. فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم!!.
[email protected]
أضف تعليق