ما أن بسطت الصهيونية سلطتها على جزيرة العرب بعد أن مكنت الوهابية من مكة، حتى سارعت لتحتوي بقية أرض العرب من خلال الإسلام... فلم يغب عن المستشرقين والباحثين في معاهد الصهيونية في أوربا وأمريكا أن بقية أرض العرب ليست كلها كجزيرة العرب والخليج في تخلفها. وهذا يعني أنه قد لا يكون من السهل تصدير الفكر الوهابي لبقية الأرض العربية خصوصاً إذا ما أخذوا في حسبانهم أن تطلع المتعلمين الجدد في مصر وبلاد الشام والعراق كان نحو التحرر أكثر من العودة بالفكر لقرون سابقة لا يعرف عنها المتطلع سوى من نظرة شاعرية ليس لها في الواقع جذور عميقة.

فعرب المشرق شمال جزيرة العرب لا يكفي أن ترضيهم دعوة بسيطة كتلك التي جاء بها عبد الوهاب والتي تدعو لنظرة سطحية في معنى التوحيد الذي لم يفهمه هو اصلاً. فهم كانوا بحكم سبقهم الفكري للأعراب من أهل الجزيرة والخليج يطمعون بفكر يبحث في الربط بين الدولة والدين في ظل عالم جديد تحكم العلاقات فيه مبادئ جديدة مثل الدولة القومية والعلاقات الدولية وقانون اصطلح على تسميته بالقانون الدولي ومعاهدات وتحالفات جلها وضعت خارج نطاق الإسلام ودون تشاور مع المسلمين. أي ان الجيل الناشئ من مسلمي المشرق العربي (وهي تسمية فضفاضة) كان يريد نظرية سياسية قد لا تنفصل عن الإسلام لكنها قادرة على التعامل بواقعية مع العالم الذي يعيش فيه المسلمون بعد انهيار الدولة العثمانية والتي كانت لقرون غطاءً مشوهاً للإسلام. ولم يكن الفكر الوهابي الساذج قادراً أن يرضي هذا التطلع أو حتى أن يتعامل مع الحقائق التي تحيط بالمسلمين.
وليس مهماً أن تكون الصهيونية ساهمت في نشوء حركات إسلامية في المشرق العربي أو أنها إحتضنت تلك الحركات بعد نشوئها. إذ ان المهم ان الحركات الدينية السياسية التي نشأت في المشرق العربي كانت تعمل على وفق المصلحة الصهيونية في أرض العرب. وهذا ليس إستنتاجاً بعد أحداث العقد الأول من القرن الحالي لكنها الحقائق الموضوعية لما جري في أعقاب الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي. وقد يجد عدد من القراء أن هذا تعسفاً في الموقف وإجحافاً بحق بعض الحركات الإسلامية، إلا أني أدعو لنظرة موضوعية في الأحداث.

فلست أعلم ما كان يحمله حسن البنا في سريرته فهذا أمر يختص به رب العزة لكني أحكم على ما قام به حسن البناء وأتباعه من عمل وكيف كان ذلك العمل يصب في مصلحة الصهيونية العالمية ثم أحكم عليهم من خلال ذلك.

فمصر التي كانت قد سبقت بقية الأمة العربية، وما زالت سابقة في بعض الأمور، بحكم أنها أول من خرج من هيمنة العثمانية المتخلفة واطلعت على التطور الأوربي الذي ولد عن التنوير في فصل الدين عن السياسة والنهضة الأوربية التي أعقبت ذلك التنوير والثورة الصناعية التي ولدت عن النهضة.... مصر تلك كانت أسرع من بقية العرب في محاولة تلمس الطريق الجديد بين الإسلام والتطور الفكري والسياسي الأوربي.

فولدت في مصر حركة الإخوان المسلمين داعية لإقامة دولة إسلامية. ولم تكن الحركة بالضرورة متجانسة في فكرها أو حتى تحمل فكراً متكاملاً لمفهوم الدولة الإسلامية التي تطمع أن تراها. كما ان من دعموا تلك الحركة أو إنتظموا فيها لم يكونوا جميعاً يحملون التصور او التطلع ذاته. فحاملوا الحلم الإسلامي في مصر في مطلع القرن العشرين يمكن تصنيفهم في مدى واسع يمتد بين الإسلامي العلماني وبين السلفي الأعمى!

ثم بدأت الصهيونية تشعر أن نشوء الدولة القومية في المشرق العربي نتيجة لسايكس بيكو بعد إنهيار الدولة العثمانية ربما لم يكن الحل الأفضل لضمان مصالحها في أرض العرب، إذ ولدت حركات وطنية وأخرى قومية تتحدث عن الحق في الإستقلال السياسي والإقتصادي عن الهيمنة الصهيونية

. ولم تكن الصهيونية لتتخلى عن مشروعها الكبير في الهيمنة على المنطقة والتي عملت لقرون على تنفيذه وبدأته بالمشروع الوهابي قبل قرن ونصف. وحين دققت في الأمر وجدت أن الحركات الإسلامية هي الضمان الأفضل لها في التصدي للمشروع الوطني والقومي الناهض في أرض العرب. فقد وجدت الصهيونية العالمية نفسها أمام تيارين رئيسين في أرض العرب هما التيار القومي الداعي لتوحيد أرض العرب وتحقيق نوع من العدالة الإجتماعية وبين التيار الشيوعي الموالي لموسكو والذي كان يؤمن بوحدة الحركة الإشتراكية العالمية ويحلم بدولة عالمية تقوم على أسس من الماركسية. وكلاهما كان مناقضاً لأهداف الصهيونية.

فكان للصهيونية سبيلان في مواجهة هذه الحقيقة التأريخية الفاعلة على الأرض. وأول السبل كان تأجيج الصراع بين القوميين والشيوعيين والذي دخل فيه قادة المشروعين السذج وانتهى الأثنان يقتل بعضهم بعضاً ويسفه بعضهم بعضاً حين كانت الصهيونية تضحك عليهم وانتهى الإثنان بعد ثمانية عقود بشبه إفلاس! أما السبيل الثاني فكان دعم حركة الإخوان المسلمين... ذلك لأن أغلبية العرب متدينة بالسليقة ويمكن أن توالي بشكل أسهل حركة دينية منها حركة علمانية وطنية.

فإذا قال قائل وما هو الدليل على أن حركة الإخوان المسلمين كانت في ركاب الصهيونية؟ فإن نظرة واحدة على تأريخ الحركة في مصر منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى اليوم تكشف أن سياساتها كانت جميعاً متفقة مع المشروع الصهيوني، وحيث إن هذه ليست دراسة تحليلية في تأريخ الحركات السياسية أو الدينية فإني لن أعرض لكل مرحلة من مراحل الثمانين عاماً الماضية وما فيها من سلوك ومواقف تثبت ذلك لكني أستعير نماذج سريعة لتبيان ذلك تاركاً لمن أراد المزيد أن يعيد النظر في التأريخ.

1. فحركة الإخوان المسلمين في مصر لم تأخذ موقفاً معادياً للملك فاروق ولحكمه والذي كان في جوهره حكماً مواليا للصهيونية إن لم يكن من صنيعتها، وهو، أي حكم فاروق، كان بهذا مناقضاً لشرع الله الذي كانوا ينادون به.

2. لكن حركة الإخوان المسلمين وجدت في ثورة مصر عام 1952 عدواً ونقيضاً رغم أنها كانت ثورة تحرير أخرجت مصر من قيود وضعها فيها الإستبكار العالمي والصهيونية. ويكفي مصداق ذلك ما كتبه أحد رجال الإخوان المسلمين الذي كان يتخذ مجلساً للوعظ والإفساد بين جهلة الخليج حين صرح أنه سجد ركعتي شكر لله حين إحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، فلا غفر الله له!

3. ولم تكتف حركة الإخوان المسلمين في مهادنتها لحكم فاروق وعدائها لثورة التحرير المصرية بل إنها حاولت إغتيال المرحوم جمال عبد الناصر والذي كان المعبر عن مرحلة من أكثر مراحل القرن العشرين صدقاً وإخلاصاً في تحرير الأمة. ولا يمكن لأي مراقب أو قارئ للتأريخ إن يحكم على محاولة قتل ذلك القائد الرمز إلا بأنها خدمة للصهيونية العالمية. وستبقى تلك العملية عاراً في تأريخ الحركة حتى قيام الساعة.

4. وحين وصل الإخوان المسلمون للسلطة لأول مرة فإن ستر النفاق السياسي، الذي نشروه بين الناس خلال العقود الماضية والذي اتهموا فيه الجميع بالخيانة، انهتك فجأة حين قرر الإخوان الإعتراف بكل معاهدات الذل التي وقعها من سبقوهم مع الصهيونية العالمية والتي اعترفت مصر فيها بالدولة اليهودية المغتصبة لقدس الأقداس، وادعوا أن الظرف السياسي الذي يحتاجونه لبناء الدولة الموعودة يلزمهم بذلك. لكنهم لم يشرحوا للناس سب الغزل السياسي الذي جاء في رسالة رئيس مصر الإخواني لرئيس إسرائيل الصهيوني!

ثم نشأت حركة للإخوان المسلمين في سورية والعراق بعد مصر. ولم يكن لحركة الإخوان في العراق الدور نفسه الذي كان لها في مصر أو سورية وذلك بسبب إختلاف الصراع السياسي الديني في العراق لبنائه على أسس مذهبية مما قد أعرج عليه لاحقاً. أما إخوان سورية فقد اثبتوا أنهم أكثر الإخوان المسلمين العرب عنفاً وتطرفاً وأشدهم عداءً للمشروع القومي وبالتالي أفضلهم للصهيونية. فقد لجؤا لعمليات القتل والتخريب منذ مرحلة مبكرة من حكم البعث.

وقد ينطلي على بعض العقول الساذجة من العرب والمسلمين إدعاء إخوان سورية اليوم أنهم يقاتلون سلطة العلويين "الكافرة" كما يسمونها دون أن يعطوا حتى غطاءً شرعياً يكشف عن من أعطاهم حق تكفير الناس وإذا ما وقع هذا التكفير من أعطاهم حق قتل معارضيهم حتى إذا كانوا كفاراً.

لكن حقائق الأمور تكشف خلاف ذلك لأن أول تمرد لهم ضد المشروع القومي وقع في زمن المرحوم أمين الحافظ عام 1964.

ولم يكن حافظ الأسد قد وصل لقيادة الحزب والسلطة بعد. فإذا كان ما يدعونه الآن من أن قتالهم هو ضد العلويين وليس ضد المشروع القومي فكيف يمكن لهم أن يجدوا تسويغاً لمواجهة أمين الحافظ وقيادته؟ إن حقيقة الأمر هي أن إخوان سورية يريدون دولة دينية على مزاجهم ورغم التأريخ وهم بهذا يصطفون مع المشروع الصهيوني الذي ليست لديه أية مشكلة مع دولة إسلامية أجيرة

.. فما الذي يضير الصهاينة أن يصلي المسلمون عشرين مرة في النهار وأن يلعنوا الشيعة والدروز والعلويين والإسماعيلية واليزيدية والكشفية وغيرهم ويقاتلوهم ما داموا يعدون اليهود والنصارى من أهل الذمة ممن يجب حمايتهم وما داموا غير معترضين على النظام الرأسمالي الصهيوني العالمي الذي يحكم كل شيء ويقسم أرزاق رب العزة كما يشاء فيأخذ ما يشاء ويعطي ما يشاء ويصادر ما يشاء ويحجز على من يشاء؟

وإخوان سورية في هذا كانوا أول من أثبتوا سيرهم في المشروع الصهيوني حين هاجموا حكم البعث في عهد الرئيس البعثي أمين الحافظ. فالذي فعلوه ويفعلونه اليوم في الهجمة المدمرة على المشروع القومي هو ليس إلا حملة جديدة أكثر شراسة وتنظيماً مما وقع قبل خمسين عاماً..

هذا غيض من فيض لكنه شاهد على حقيقة سياسة الإخوان الموالية للصهيونية. وليس عسيراً فهم هذه المحاولات، ذلك لأن الحركة السياسية الإسلامية بشكل عام ليست معنية ببناء دولة مستقة ذات مشروع سياسي أو وطني مستقل أو متحرر لأنها معنية فقط بقيام دولة إسلامية، فإذا كانت تلك الدولة ستقوم بدعم ومباركة صهيونية وتحت هيمنة تلك الأخيرة فليس هناك من مانع ما دام قيام الدولة الإسلامية قد تحقق....

وهذه الحقيقة تنطبق على كل الحركات الإسلامية التي نشأت في العالم الإسلامي خلال قرن من الزمن فليس هناك من فرق فيما إذا كانت الحركة وهابية أو إخوانية أو قاعدية...

فالوهابية كانت وما زالت في حضن الصهيونية في كل مشروع سياسي في القرن الماضي بشكل علني وواضح... وحركة الإخوان المسلمين في العراق وسورية تعاونت مع الصهيونية في كل مرحلة لمواجهة المشروع القومي لحركة البعث...

والقاعدة نشأت على أيدي المخابرات الأمريكية بمعرفة الجميع حيث أوكلت إليها مهمة محاربة الإتحاد السوفيتي أول الأمر بحجة الجهاد في سبيل الله وكأن الله صهيوني وليس شيوعياً!
وحركة حماس وافقت على الهدنة مع إسرائيل ما دامت الأخيرة راضية بالدولة الإسلامية الهزيلة المنزوعة الإرادة في قطاع غزة... والهجمة البربرية على سورية قامت وما زالت تمون وتدعم من قبل الصهيونية العالمية وليس لدى الإخوان المسلمين حرج في أنهم مع الصهيونية العالمية ما دامت تلك توافق على قيام دولة إسلامية في بلاد الشام!

ولعل من الواجب التوقف هنا وإلقاء نظرة على حقيقة مهمة وهي أنه خلال المائة عام المنصرمة لم نشهد كاتباً إسلامياً واحداً قدم لنا نظرية في الدولة الإسلامية المرجوة. فهل يراد منا أن نقبل بقيام دولة إسلامية فقط لأنها تحمل إسماً كهذا؟

أم أن من حقنا أن نسأل ما هي تلك الدولة وما الذي تريد أن تحققه وأية شريعة تريد أن تطبق وأية علاقات دولية مع الآخرين وما هو موقفها من القانون الدولي إذا تعارض مع الشريعة الإسلامية كما يفهمونها وأين تقف الدولة الإسلامية من النظام الإقتصادي الرأسمالي وأين تقف من حق المرأة بشكل خاص ومن حقوق الإنسان بشكل عام وأين تقف من غير المسلمين الذين يعيشون داخلها؟؟ وأين وأين؟؟....

فليس هناك كتاب واحد يمكن أن يجيب المتسائل عن هذه الدولة المرجوة. إن الحديث عن العودة للسلف الصالح لا يعدو أن يكون سخفاً في سخف. فمن هو السلف الصالح الذي يراد الإقتداء به؟ وهل ما صلح للوليد بن يزيد أو المعتصم بن هارون يصلح للقرن الحادي والعشرين؟ واين ذلك من قوله تعالى "كل يوم هو في شأن"؟

ثم من قال إن هؤلاء كانوا صالحين فعلاً؟ إن مجرد حكمهم للمسلمين ليس كافياً للدلالة على صلاحهم ذلك لأنه ليست هناك قاعدة سماوية تقضي بأن كل من حكم المسلمين لابد أنه كان صالحاً. ولو كان ذلك حقاً لما كتب الله على بغداد أن يستبيحها هولاكو!


وقد يسأل سائل عن الحكمة في خلق أكثر من حركة إسلامية إذا كانت واحدة تغني عن ذلك.

وجواب ذلك لا يختلف كثيراً عن قاعدة معروفة في العلاقة البشرية السائدة في الأرض والتي تقضي أنك إذا أردت حكم قوم ففرقهم كي ينشغلوا بخلافاتهم عنك أولاً كي يتسابق كل طرف مع آخر لكسب ودك ثانياً. فحين اكتشفت الصهيونية العالمية كما أسلفت ان العرب خارج الجزيرة ليسوا كعرب الجزيرة فقد كان طبيعياً أن يتطلع المسلمون فيها لحركة تختلف في نهجها عن الوهابية فكانت حركة الإخوان المسلمين. فإذا وقع خلاف بين الوهابيين والإخوان فهو في صالح الصهيونية لإن كلا الطرفين هو في ركاب الصهيونية فأياً كان المنتصر فهو في صالحها. ثم إن تنازع الإثنين سوف يضعفهما وهذا بالتالي يقود لحاجة كل طرف منهما أن يقدم المزيد من التذلل للسيد الصهيوني وهو ما حدث ويحدث اليوم....
ومرت السنون على الوهابية والإخوان... ووجدت الصهيونية حاجة لتأجيج الوضع وتحريك الساحة بعد أن ضعف ثقل الإثنين تحت تأثير النجاح الجزئي للحركة القومية المتمثلة في بعث العراق وسورية وحكومات العسكر في دول مثل ليبيا والجزائر والسودان واليمن.. فجاءت ببدعة القاعدة والتي لم تخف الصهيونية أنها أسستها أو دعمتها بالمال والسلاح والتدريب والمعلومات الإستخبارية. ولسنا بحاجة لإثبات ذلك فقد صرح به قادة الصهاينة ومن ما زال يجهل ذلك فهو إما لايريد أن يقر بالحق وإما يعرف ويحرف!
وقد تفتق الذكاء الصهيوني عن إستغلال أفغانستان ساحة لتنفيذ تلك المرحلة من الهيمنة الصهيونية على الإسلام والتي ولدت في مشروع خلق الوهابية قبل أكثر من قرنين... وقد كان ذلك القرار ذكياً لعدة أسباب. أولها إن إستعمال أفغانستان ميداناً لخلق تلك الحركة تجاوز تعذر تحقيق ذلك على أرض العرب في ثمانينات القرن الماضي.

وثانيها ان عواطف العرب كان من الأسهل إستمالتها لدعم مجموعة خارج أرض العرب تدعي أنها تدافع عن الإسلام منها في إستمالة العرب للدفاع عن نظام إسلامي في أرضهم. وهذا أمر قد لا يبدو واضحاً للكثير من الناس. وسببه هو أن العرب يعدون الإسلام نتيجة طبيعية لوجودهم فهم بذلك لا يشعرون بالحاجة لتوكيده. لكن الأمر يختلف بالنسبة للمسلمين من غير العرب والذين يكون الإسلام هو هويتهم فالباكستاني يعد الإسلام هويته التي تميزه عن الهندوسي بل هو يستاء كثيراً إذا ما وصف بالهندي. وهكذا فإن العرب قد يتعاطفون بشدة مع المسلمين من غير العرب إذا طمعوا في تثبيت هويتهم الدينية.

وهكذا جمعت الصهيونية من قدرت عليه من مسلمي الأرض وأمرت أجراءها في جزيرة العرب لتموين المشروع كلياً مغطية بذلك كلفة السلاح وإدامة المقاتلين وعوائلهم وكلفة التدريب الذي قامت به القوات الخاصة الأمريكية بتنسيق وسيطرة المخابرات المركزية الأمريكية. وقد رضخت حكومة جزيرة العرب لذلك رغم تخوفها من إمكانية خروج هذه الحركة عن سيطرتها وإفقادها لإدعائها زعامة العالم الإسلامي.
وقد حققت الصهيونية العالمية هدفين من تأسيس القاعدة وما عرف "بمجاهدي" أفغانستان. وأول هدف كان إنهاك الجيش السوفيتي في قتال مرعب في طبيعته لذلك الجيش حيث إن "مجاهدي" افغانستان كانوا يقاتلون بطريقة لم تعرفها الحروب من قبل فكان كافياً أن يسمع الجندي الروسي أن المجاهدين كانوا يلعبون كرة قدم بجماجم رفاقه في معركة سابقة كي يرتجف رعباً

... وهكذا هيأت الصهيونية العالمية العالم لقبول ثقافة القتل وبقر البطون وقطع الرؤوس تحت غطاء محاربة الشيوعية في أفغانستان الإسلامية. وما نراه اليوم في العراق وسورية من القتل وقطع الرؤوس ولد في قتال "المجاهدين" في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. وأعجب حين يظهر الصهاينة إستغرابهم من الإرهاب الذي استشرى اليوم في أرض العرب وكأنهم لم يؤسسوا له قبل ثلاثة عقود. فليس عسيراً أن نجد العشرات من الذين يقودون زمر الإرهاب اليوم ممن يفخرون أنهم قاتلوا في افغانستان.

فهل يراد منا أن نصدق أن المخابرات الأمريكية التي جندت ودربت هؤلاء لا تعرف عنهم شيئاً ولا أين انتهوا بعد إنتهاء المهمة في أفغانستان؟ أو أنهم قطعوا علاقاتهم مع الصهيونية بعد إنتهاء الحرب في أفغانستان كي يتجمعوا فجأة ليظهروا في شوارع سورية والعراق؟

وحتى لا يختلط الأمر على القارئ في أن يتصور أن الحركات الدينية السياسية التي حصرتها في ثلاثة ألوان من وهابية وإخوانية وقاعدية تختلف في جوهرها الواحدة عن الأخرى فإني أود أن أؤكد أن الأمر ليس كذلك وإن بدى للعيان وجود خلافات بينها. فجميع هذه الحركات تطمح في بناء دولة إسلامية وقد لا تتفق جميعها في شكل تلك الدولة المرجوة لكنها في الوقت نفسه لا تمتلك صورة واضحة لما تريد لأنها لا تعرف حقاً ما تريد أكثر من دولة تدعي الإسلام وتكون تلك الحركة قائدة لها. ثم إن هذه الحركات جميعاً هي في ركاب الهيمنة الصهيونية أي أنها جميعاً ليس لديها إيمان بالإستقلال السياسي لأنها لا تؤمن أساساً بالدولة العصرية وهي بهذا تعتقد أن قيام الدولة الإسلامية الأممية سوف يحل إشكالية الحاجة لنظام سياسي. وليس صعباً على كل ذي عقل أن يدرك أن الصهيونية العالمية التي تمتلك زمام الأمر في العالم لا يمكن أن تسمح لهذا الحلم أن يتحقق لكنها ما دامت تعرف أن هؤلاء الأطفال الذين يعيشون بعقلية الطفولة السياسية المبنية على قناعة غيبية بأن الله سينصرهم حين يحين الوقت، ليست في عجلة من أمرها لكي تقصر الحبل وتشد من أعناقهم.

اما سبب الإختلاف الذي قد يقع بين هذه الحركات والذي قد يكون صادقاً في بعض الأحيان فله أكثر من سبب. فليس من العسير فهم الصراع بين المدينة والبداوة ورغبة إسلاميي كل طرف في قيادة المرحلة السياسية المرجوة.

كما أنه ليس غريباً أن يكون الصراع لأسباب شخصية أو قبلية أو حتى محلية كما هو الحال في أي إنتماء حزبي في العالم. وقد تفسر هذه الحقيقة سبب السهولة التي ينتقل بها مقاتلو الحركات الإرهابية في سورية من واحدة لأخرى فلا يجد أحدهم حرجاً في أن يبايع حركة أو "أميراً" جديدا متى شاء، مما يجعل الحديث عن أن الحركات المقاتلة في سورية يمكن أن تصنف بين معتدل ومتطرف حديث خرافة، فليس في الإرهاب المغطى باسم الدين إعتدال فكل إرهاب هو تطرف.

فالذي يقتل النفس التي حرم الله لا يمكن إلا أن يكون متطرفاً قاتلاً خارجاً عن حدود الآدمية ولا علاقة له بالإسلام سواءً استشهد بحديث أو مائة حديث مختلق أو اقتدى بسلف أو أكثر أو فقيه أو خمسة فقهاء...

لكني بعد هذه النظرة العاجلة في أزمة المشروع السياسي للحركات الإسلامية السنية لا بد أن أعرض شيئاً عن الحركات السياسية الشيعية ودورها في القرن الماضي والحاضر في صياغة المسرح السياسي الإسلامي والعربي... وهذا ما سأحاول عرضه في الحلقة القادمة بإذن الله.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]