لم ينم كما تعوّد. دخل فراشه مبكّرًا. تمتم صلاته بسرعة ككاهن القرية، يأكل نصف الحروف والكلمات وكأنه يقوم بتهريبة خطيرة. أغمض عينيه وتمنّى أن ينام. في البيت تحرّك بخفة دوري. سعادته كانت تقفز أمامه، وتملأ زوايا البيت حيرة. حاولت أمّه أن تفهم دواعي هذا الفرح الصارخ، لكنّها في كل مرّة سألت نالت قبلة شقيّة منه ومداعبة. شعرت براحة، بانت على حافة شفتيها اللتينتبسّمتا بسمة العارفة! "هذا الولد كِبِر"، فكّرت وكأنها تراه للمرة الأولى وقد شارف على إنهاء تعليمه الثانوي في آذار ذلك العام.

أفاق قبل جميع إخوته، ولم يكن في نشاط تلميذ. أنهى حمّامه وحاول أن يختار لباس يومه. في العادة لا تستغرقه هذه العملية إلّا بضع دقائق أمّا اليوم فلقد كانت حيرته ظاهرة؛ نبش جميع الملابس في الخزانة وحاول تلبيق لباسه في كل إمكانيات التلبيق الممكنة.

لبس بنطالًا بلون السكر الوسخ وعليه قميصًا بلون الطين، علته مربعات بعضها بلون البرتقال وأخرى بلون النبيذ المعتق. أمام المرآة وقف قلقًا يضجّ بالغضب. انسلّت "زمّة الشفتين" وتمددت عقدة الحاجبين. اقترب وقام برفع كفّه اليمنى،بخفة راقصة ماهرة، فرك إبهامها على وسطاها وتبسّم للرجل الذي قبالته. على وجهه بدت علامات رضًا أو حتى اعتزاز. رش ما وجده في قارورة عطر كانت في خزانة الحمام ومسّد شعره بكفيه وشمّهما، فلم تتغير قسماته. رفع إبطه وحاول أن يشم ما غاب عن ناظريه هناك، ليتأكد أن برّه آمن وأنه جدير بذلك اليوم من آذار. أمّه، من بعيد، راقبته وتأكدّت أن في بيتها رجل.

لم يسألوه في البيت إلّا ما كان من باب الواجب والحيطة. كانت أجوبته كالندى فبرّد قلب والديه. تمنّوا له التوفيق بصحبة أصدقائه واستحلفوه بأن يعود إليهم سالمًا وقبل المغيب.

أنزلته سيّارة الأجرة في مركز المدينة. مشى لمسافة قصيرة ووصل إلى القهوة التي اتفق وحبيبته أن يلتقيها بها. اختار مقعدًا جانبيًا وتأكّد أن عطره ما زال فوّاحًا وأن قميصه مفتوحًا من الأعلى ويكشف جزءًا من ربيعه الريّان.

بدى المكان له غريبًا. معظم الطاولات خالية، على طاولة في الزاوية المقابلة لطاولته جلس رجلان وكانا يشربان القهوة. ملامحهما قريبة لملامح الشرقيين ولكن لم يكونا عربيين فلقد سمعهما، عندما دخل، يتحدثان بالعبرية. بعد دقائق اشتدَّ صوت صدره فلقد رفع عيناه، ونظر من خلال الزجاج؛ على الرصيف المقابل رآها تمشي واثقة. بنطالها أسود وعليه طرف قميص بلون السماء وتحته سترة بيضاء لتصد نظرة حتى من له عيون خارقة.

وجهها متروك على طبيعته، فكل إضافة تنقصه جمالًا وحسنًا . قطعت الشارع، وقعت عيناها مباشرة على عينيه، تبسّمت بحذر وكادت نظرتها، لولا قحة أحد نزلاء المقصف، أن تغمي عليه فورًا.

دخلت كنسمة، حيّته ومدّت كفّها فأخذها وصار كلّه نايًا.تحدثا عن أحلامهما وعن كيف لم ينم الواحد منهما وعن كيف "أكلا" نصف الصلاة فنسوا نصف الأدعية والأماني. لكنّهما أجمعا أن الرب سيغفر لهما ذلك لأنه "المحبّة" ويحب الحب وهو الذي أوصانا بالألفة والمحبة والحياة.
لم يحاول أن يمسك كفها مرّةً أخرى ولا أن تدوس قدمه قدمها. لقد كان يستنشق نفسها ولا يخرجه. قال لها كم يحبّها ويحب عينيها الجميلتين. حاول أن يفهمها أنه مغرم بشفتيها فلونهما فريد ومتميّز وفمها منمنم صغير يليق به الشعر. كان كلامه مقطعًا وغير مباشر، لكنّها، في لحظة ما، أغمضت عينيها،لم تطبقهما تمامًا، ورفعت رأسها بحركة جعلته يقع عن الكرسي.

قضيا في ذلك المقصف ساعتين كاملتين. تواعدا على لقاء آخر إذا سمحت الظروف.
كانا على باب المقصف عندما اعترض رجل الفتاة طالبًا هويّتها. كان ذلك هو الرجل الذي جلس في الزاوية. أفهمها أنه رجل مخابرات إسرائيلي. وأنه يريد أن يتعرّف على هويتهما.حاول أن يهدأ من روع الفتاة والشاب واعدًا إيّاهما بالكتمان وعدم الوصول إلى الأهل، فهو يعرف أن مثل هذه الحادثة، خاصة إذا دعّمت بالصور، من شأنها أن تحدث كارثة وتودي بحياة.

"كل ما نريده"، هكذا "طمأن" هذا الشبح تينك الزهرتين،"أن نسجّل تفاصيلكم وأن نتفق متى ستعودان إلينا لنسوي أمورنا المشتركة، فنحن قريبون من هنا، وكل شيء سيكون على ما يرام".

لم يتفوّها بأية كلمة، أبرزا بطاقتي الهوّية وحاولا أن يتملّصا من الموقف. لكنه كان ثقيلًا ومتمرّسًا في صيد ضحاياه.أصرَّ على تسجيل التفاصيل وبدأ يصعّد من لهجته فسمعا بداية تهديد. حاولت الفتاة أن تفهمه أنها ليست خائفة وأنها جاءت الى لقائها برفقة أخيها الذي يعرف قصّتها ويحترمها، حاولت أن تشرح له دناءة ما يقوم به لكنه استفز، صار شرّيرًا يهدّدهما باحتجازهما في الشرطة. في هذه اللحظة ظهر الأخ. توجّه مباشرة إليهم وقام باحتضان أخته وطرح السلام على رفيقها. عرّف على نفسه وخيّب ظن ذلك الصيّاد الشرير.

مشوا في الشارع باتّجاه السيّارة، أحسّ الفتى أنه يطير بأجنحة وأن حبيبته تطير إلى جانبه وتحتهم بلاد كلّها بساتين خضراء وحقول نرجس وربيع لا ينتهي، وأحس بنفسها وشعرها الذي يتطاير على وجهه... وو..
ضربة، ضربتان فهزة على كتفه، فتح عيناه وكان وجه أمّه فوق أنفه، كانت غاضبة كما لم يألفها من قبل. ماذا بك؟ اليوم عطلتي ولا يوجد مدرسة فلماذا أفيق مبكّرًا؟

بغصّة واضحة في حلقها قالت: "لقد وجدوا "ماوية" مقتولة بطعنات خنجر. نعم هي ابنة صاحب الفرن، وقالوا أنها قتلت بسبب "شرف العائلة"، لم أفهم يا أمي من القاتل وليش ولكنها مصيبة .. الله ينجينا وينجيكم يا حبايبي".

جلس الفتى على شرفته وكتب: "أحب من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب، فأجمل الحب ذلك الذي يكون من غير سبب. آذار شهر التردد والتقلّب؛ صفاء، كما يحب اللوز، عابر، وغبار كما يعشق السرو. طقسه يجف أحيانًا، فيصير كيدي فلّاح كادح، ولكنّه عندما يجن يكون كقلب العاشق هدّارًا وأبو "الزلازل والأمطار".

يصل الشتاء إلى وسطه متعبًا، تمامًا كالثور أنهكته سهام "المتادور"، يغضب، يعفط ويثور فيتهالك مخضّبًا بدمائه، وكالرعد الآتي هزيمُهُ من وراء جبال الغيم، ليعلن أن البقاء للحياة، للنماء، للخضرة، فمن آذار يولد الربيع الأول. فلكنَّ فيه، وفي كل يوم، السلامة والنجاة وكثيرًا من الحب. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]