أقلب صفحات كتيب آذار الثقافة الذي يجمع عيّنة شاملة من فعاليات هذا الشهر، هو شهر الثقافة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص.
أعلنا في حيفا عن هذا الشهر قبل عامين ليشكل احتفاء جماهيريا ومؤسساتيا بالثقافة الفلسطينية في الداخل باعتبارها جزء حيا ومتألقا من الثقافة العربية والحضارة العالمية.
نقول ذلك بتواضع لكن أيضا باعتزاز ان ما حققته هذه الثقافة في ظروف احتلال وحصار وقمع وتمييز يكاد يكون معجزة مجترحة اذا تذكرنا أن هذا الجزء من فلسطين دمرت كل مرافقه الثقافية في النكبة وضربت مدنه التي كانت منارات مشعة وشرد القسم الاكبر من مثقفيه ومبدعيه ، وكان علينا ان نعيد ترميم هذه الثقافة في ظروف أحكام عسكرية وسياسات كولونيالية تهدف إلى إكراهنا على التنازل عن لغتنا وعلى الكتابة بلغة المحتل.
نعم من هنا مصدر اعتزازنا لأن في الظروف التي نشأت ولا تزال قائمة، بأشكال مختلفة، كانت الطريق إلى الاندثار الثقافي هي أقصر الطرق، واخترنا أصعبها.
ما الجديد في آذار 2014؟
عندما بادرنا إلى تنظيم شهر الثقافة الفلسطينية، على شرف مناسبات وطنية، كان هدفنا إحداث حراك ثقافي في الداخل يقوم على الكم والكيف في الوقت نفسه.
اما الكم فلأن حالة الركود الناجمة عن إحساس بالإحباط او اليأس أو الإنشغال بهموم الحياة او لظروف خارجة عن المكان او عن الثقافة، هذه الحالة ينبغي ان يحركها دفع من النشاطات المتتابعة والمنتشرة في جغرافية الوطن ويشارك فيها أكبر عدد من المنتجين والمبدعين ومن متلقي الثقافة والفنون. واردنا أيضا في سياق الحديث عن الكم أن نشرك مؤسساتنا الثقافية، ليس بان نملي عليها بل بحثها على مضاعفة انتاجها ونحن لم نعدّ لها البرامج بل هي التي اختارت المضامين والاسماء وعينت المكان والموعد والعمل في نهاية الامر لها ولجمهورها.
وأما الكيف، فقد اتفق مع شركائنا على أن نقدم الأفضل والأرقى وأن نبدأ "بالأقربين" لمكافحة مقولة "لا نبي في وطنه".
نعم، في كل بلدة من بلداتنا فنانون وأدباء ومبدعون يجب أن يبدأ مشوارهم من بلدتهم وحارتهم. هذا هو وطنهم الأول وإذا خرجوا فيه سيصبح وطنهم الثقافي يعودون إليه حتى وأن تألقوا نجوما في السماء، وإن خرجوا منه أو أخرجوا فسيكون منفاهم حتى وإن عاشوا فيه.
هكذا نفهم معنى الارتباط بالوطن والارض والهوية والانتماء ونحن في آذار الربيع ويوم الأرض ومناسبات تعزز مكانة الانسان كانسان.
حراك غير مسبوق...
ليس كل ما نشر في الكتيب هو فقط ما سنراه في هذا الشهر. هناك عشرات من النشاطات التي تنظم وتعرض في هذا الشهر ولا ينشر عنها لضيق المجال، ولكن لا بد من الاشارة إلى بعض مميزات هذا العام والظواهر الثقافية التي تبعث على التفاؤل والفخر:
اولا: عدد كبير من المدارس العربية تنظم لطلابها فعاليات ثقافية في هذا الشهر إما في اطار مشروع "الثقافة الفلسطينية – حقوق وفضاءات" أو التوعية على الانتماء والهوية ، وإما في اطر أخرى مثل أسبوع اللغة العربية او السلة الثقافية.
في كل عام أقوم بعشرات الزيارات إلى مدارسنا للقاءات مع الطلاب في مراحل مختلفة، ولأتحدث عن الثقافة بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص.
في بعض المدارس أشعر بحزن وأعود محبطا من جهل الطلاب لثقافتنا/ ثقافتهم وهذا ناجم عن تجاهل مناهج التعليم وجهل المعلم أو المربي او حتى مدير المدرسة. ولكن هناك مدارس تجد فيها مديرا أو مربيا أو مدرسا للغة العربية يعتبر اطلاع هذه الأجيال على الثقافة الام أهم ما في العملية التربوية، وتكون زيارة المدرسة اجمل ولقاء الطلاب أرقى وأنفع وهنا أيضا يقوم هؤلاء المربون بإعداد الطلاب للّقاء بتوزيع مواد عن الثقافة الفلسطينية وإعداد معرض صغير وتحضير أسئلة ويكون لقاء شيقا ومثيرا.
نرجو من المدارس التي ستنظم هذه اللقاءات أن تعد طلابها وأن تحثهم على البحث عن مصادر وأن تطلعهم على النصوص الفلسطينية الجميلة والراقية.
ثانيا: المكتبات أيضا وضعت برنامج لقاءات مع كتاب يجيدون التحدث إلى الأطفال او اليافعين ويوم الحكاية العالمي هو أيضا يوم لحكايتنا الفلسطينية.
نحن شعب يتقن فن السرد الشفوي، لنا حكايتنا وخرافتنا وأسطورتنا ولنا ذاكرتنا أيضا. رائع ان يلتقي حكاؤونا بهذه الأجيال ليحدثوهم عما كان في واقع ملموس او في خيال لا يعرف الحدود.
ثالثا: في آذار هذا العام سنشهد عددا من الاحتفالات الافتتاحية : افتتاح صالة عرض وافتتاح معرض رسوم تشكيلية وافتتاح مسرحيتين وافتتاح أمسية فنية. هذه مشاريع جديدة تضاف على ورشة شعبنا الحضارية. نحن شعب قادر على التجديد والابتكار والثقافة لا تتوقف عند منجز إلا عندما تكون مأزومة. ولعل في ما شهدته الحياة الثقافية الفلسطينية بعامة وهنا بخاصة في السنوات الأخيرة، أزمة جعلت الحنين والبكاء على الأطلال والتغني بانجازات الماضي محورحديثنا عن ثقافتنا ومصدر اعتزازنا. في العام 2014 نتمنى أن ننتقل من الاعتزاز بالماضي إلى التغني بالحاضر. إلى رؤية هذا الحاضر عبر منجزه الثقافي الذي يعكس حالة نهوض وتفاؤل وامل نحن بأمس الحاجة إليها.
رابعا: أردنا لآذار الثقافة أن يخلق فسحة للتنافس ليس فقط بين مؤسساتنا بل بين بلداتنا أيضا، وفي هذا العام نثمن عاليا تجربة مدينة طمرة في إحداث حالة غير مسبوقة من النهوض الثقافي نتمنى أن تكون القدوة لكل بلداتنا وأن لا تتوقف هذه المدينة الناهضة في آذار بل تجعل كل شهور السنة ورشة ثقافية راقية كتلك التي أعدتها لآذار الثقافة. وقد اجتمعت بمبادرة نشطائها كل أسباب العمل الخلاق لتحقيق منجز عظيم، فالتقت البلدية بمبادرات فردية والتقت مؤسسات وجمعيات كلها غيورة على مجتمعها واختيرت فعاليات أدبية وفنية وتشكيلية وندوات سياسية وفكرية وادبية تقدم وجبات من الثقافة الفلسطينية من طمرة وحتى رام الله. هذا النموذج الراقي من العمل الثقافي الجماعي نرجو أن يشكل لبنة في المشروع الثقافي الفلسطيني الذي نعمل على تشكيله في الداخل.
خامسا: في السير نحو صياغة مشروعنا الثقافي نعمل على تنظيم حياتنا الثقافية وماسستها باقامة أطر تنظيمية توحد أبطال هذه الثقافة ومبدعيها وسيلتقون تحت عنوان: فسحة للحوار ومساحة للحراك.. حول طاولات مستديرة لمناقشة اوضاعهم وعرض طموحاتهم وطرح برامجهم واختيار السبيل الافضل لتنظيمهم، اتحاد الكتاب يدعو لحوار حول حياتنا الادبية والاستعداد لمؤتمر عام. وفكرة اقامة اتحاد للتراثيين الفلسطينيين أصبحت واقعا باعلان اقامة الاتحاد في حفل افتتاح مركز جديد للتراث في كفر مندا وبعد لقاء حول طاولة مستديرة. وهكذا يستعد المسرحيون والسينمائيون لتشكيل اطرهم..
هذه التنظيمات ستشكل مداميك المشروع الثقافي الفلسطيني في الداخل والذي سيعلن عنه في نهاية هذا العام.
سادسا: يقدم آذار 2014 كوكبة من الشعراء الشباب في ندوتين يشرفنا أن نستضيفهما في حيفا، ومنهم من يقرأ نصوصه للمرة الأولى وهم من الجليل والكرمل والمثلث والقدس. يلتقون في حيفا ليصغوا إلى بعضهم ولنصغي إليهم بكثير من الحب والاحترام . إنهم ينتمون إلى جيل ال "ما بعد بعد" وجيل "اللايك واللواتس أب"، والصوت بلا حدود، فهل يختلف صوتهم عن الأصوات الشعرية التي ألفناها؟
ليكن هذا الشهر، بما فيه من جهد، رافعة عام نجعله بداية لمرحلة جديدة في مسيرتنا الثقافية ولتكن هذه المرحلة مقدمة لعهد ثقافي جديد في الوطن وخارجه.
[email protected]
أضف تعليق