من يزور الاردن هذه الايام يكتشف دون عناء حالة الخوف والرعب التي تسود اوساط الشعب والقيادات الفكرية والسياسية معا، من جراء تصاعد الاحاديث عن احتمالات "تسخين" الجبهة الجنوبية السورية المحاذية للاردن (منطقة درعا) واستخدام الحدود والاراضي الاردنية لتدريب وعبور المقاتلين والاسلحة الحديثة الى من ينتظرها في الجانب الآخر لاستخدامها من اجل اطاحة النظام السوري.

الولايات المتحدة الامريكية تشعر انها تعرضت لخديعة كبرى في مؤتمر جنيف من قبل خصمها الروسي، مثلما تشعر ان النظام السوري خرج الفائز الاكبر من هذا المؤتمر سياسيا واعلاميا والاهم من ذلك ترسيخه لشرعيته مجددا، ودون ان يقدم تنازلا واحدا للمعارضة السورية ووفدها.
الهدف الاساسي من انعقاد جنبف بنسختيه الاولى والثانية هو الانتقال السلمي للسلطة بجوانبها كافة الامنية والسياسية والسيادية الى هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة، ولكن النظام السوري بدعم روسي صلب، استبدل هدف مكافحة الارهاب بهذا الهدف، ونجح في ذلك نجاحا ملحوظا، الامر الذي احرج واشنطن وقيادتها، ودفعها للعودة الى الخيار العسكري جزئيا للضغط على روسيا، والنظام بطبيعة الحال، من اجل التنازل عن السلطة والقبول بهيئة الحكم الانتقالية.
***

المعركة المقبلة هي معركة دمشق، بعد ان فشلت معارك الاطراف في حمص وحلب ودير الزور في اسقاط النظام طوال ثلاث سنوات من الحرب وهذا يتطلب العودة الى البوابة الاردنية التي لا تبعد عن العاصمة السورية الا بحوالي تسعين كيلومترا فقط عبر طريق سهلي سلس خال من المعوقات الطبيعية من جبال وهضاب ووديان مثلما هو حال منطقة القلمون الوعرة المؤدية الى الحدود والعمق اللبنانيين.

العاصمة الاردنية عمان مليئة بالاشاعات، والجلسات المسائية في البيوت والمقاهي، لا موضوع يتقدم فيها على موضوع تسليح المعارضة السورية باسلحة حديثة متطورة وصواريخ مضادة للطائرات (مان بادز) تحمل على الكتف وتعتزم السعودية تزويدها للجيش الحر والجماعات الاسلامية المعتدلة، لاقامة منطقة آمنة، محظورة على الطيران الحربي السوري.

الغالبية العظمى من الاردنيين ابتداء من سائقي التاكسي وانتهاء بغيث من الوزراء السابقين وطابور طويل من المفكرين والسياسيين، باتوا محللين عسكريين، وخبراء استراتيجيين، يطلقون الفتاوى في كل صغيرة وكبيرة، وتعتقد ان معظم هؤلاء، ان لم يكن كلهم، كانوا في معية العاهل الاردني عبد الله الثاني اثناء لقائه مع الرئيس باراك اوباما الذي استمر ثلاث ساعات في مزرعة حكومية في كاليفورنيا، واضطلعوا على خطط التدخل المقبلة في سورية.

الاردنيون يتساءلون، ومعهم كل الحق، عن امريين اساسيين: الاول، هو الثمن الذي سيدفعه الاردن مقابل حصوله على مليار دولار كتسهيلات قروض من الولايات المتحدة اثناء زيارة العاهل الاردني الاخيرة، والثاني، هو رد الفعل السوري الرسمي في حال لعب الاردن دورا حاسما في تسخين "جبهة درعا"، وتحول الى قاعدة للتدريب والتسليح، وممرا للعبور في الاتجاهين.

زرت الاردن في السنوات الثلاث الماضية من عمر الازمة السورية حوالي اربع مرات في زيارات عمل، التقيت خلالها العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني مرتين، والعديد من رؤوساء الوزرات (الاردن يغير رئيس الوزراء مرة كل عام تقريبا ان لم يكن اقل) والوزراء ورجال النخبة السياسية والفكرية والاعلامية.

في بداية الازمة، وعندما كانت الثورة السورية سلمية من اجل التغيير الديمقراطي، و"الجزيرة" واخواتها تلعب دورا كبيرا في التحريض وتفتح صدرها ليل نهار لشهود العيان، كانت الغالبية الساحقة من الشعب الاردني بمختلف منابته واصوله، مع هذه الثورة ومع اسقاط النظام السوري، لكن الصورة، وبعد ثلاث سنوات، وحوالي مليون لاجيء سوري، وازمة اقتصادية حادة، وتراجع في الخدمات، وتحول الثورة الى حرب او صراع على السلطة، وتدخلات خارجية واضحة، وصمود النظام، وتراجع تاثير الجزيرة والعربية، ووسائل الضخ الاعلامي، تغيرت الصورة تدريجيا، وتغير معها الراي العام الاردني ايضا، وباتت نسبة كبيرة منه تراجع موقفها السابق، وتميل اكثر الى نظرية "المؤامرة" وتتشكك بنتائج الربيع العربي واهدافه من الاساس.
***

الاردنيون الذين تحدثت معهم يعرفون النظام السوري جيدا، وكبار السن منهم، وما زالوا يتذكرون السيارات المفخخة التي كان يرسلها الى الاردن بعد مجزرة حماة عام 1982، ودعم حكومة البلاد للاخوان المسلمين الذين لجأوا الى الاردن، ولا يخفون خوفهم من تكرار المشهد، وامتداد السنة لهب الازمة السورية الى العمق الاردني بعد ان ظلت حتى الآن محصورة في جوانبها الانسانية، اي اللاجئين، وبعض المشاكل الامنية والاجتماعية الصغيرة والثانوية.

الخوف الاردني، على المستويين الشعبي والرسمي مشروع، فتركيا اغلقت بوابتها الشرقية الجنوبية مع سورية جزئيا بعد ان انعكست الازمة سلبا على امنها واستقرارها الداخليين، وهددت وحدتها الوطنية الترابية والبشرية، والاردن لا يحتل المرتبة 17 عالميا كاقوى قوة اقتصادية مثل تركيا، ويقدر دينه العام بحوالي 30 مليار دولار لدولة عديمة الموارد يصل عدد سكانها الى سبعة ملايين نسمة، وتعاني من بخل متعمد من قبل اشقائها الخليجيين الذين يضخون عشرات المليارات لدعم مصر، ويقطرون بالقطارة في حلقهم وبعد عويل واستجداء غير مسبوقين.

الاردنيون يضعون اياديهم على قلوبهم خوفا وقلقا، بعد هدوء استمر عامين على الاقل كان عنوانه الحديث عن الحلول السياسية، ولكن بعد عودة الحلول العسكرية المدعومة امريكيا، وفشل مؤتمر جنيف، واقتراب موعد اعلان جون كيري لاطاره للحل النهائي للقضية الفلسطينية او تصفيتها بالاحرى، وظهور مع استحياء لبعض الخبراء العسكريين الامريكيين مجددا، يجب تفهم قلقهم واحترامه، وربما نعود للموضوع نفسه ثانية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]