ما كشفه الرئيس عباس، حول مجرى العملية التفاوضية بالرعاية الأميركية، للرئيس الفرنسي، وما أدلى به مصدر رسمي فلسطيني من العاصمة الفرنسية، إثر لقاء الثماني ساعات بين أبو مازن ووزير الخارجية الأميركية، يعتبر هذا الكشف الأكثر تفصيلاً لورقة "اتفاق الاطار" الذي يسعى الجانب الأميركي لفرضه على دولة فلسطين، كما يكشف، أيضاً، عن سلسلة التراجعات الأميركية إزاء موقف واشنطن من هذه العملية، عوضاً عن أن هذا الكشف يشير إلى تعثر الجهود الأميركية بهذا الصدد نظراً لتمسك واشنطن بدورها غير المتوازن كراع لعملية السلام، والأهم من ذلك كله، فإن هذا الكشف يشير إلى تمسك ثابت من الجانب الفلسطيني بضرورة أن تتكلّل العملية التفاوضية بالنجاح، وذلك رهناً بالاستجابة إلى الثوابت الفلسطينية واحتياجات الدولة الفلسطينية المرتقبة القائمة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وبدون ذلك، أي تلبية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فليس هناك أية فرصة لكي يصل قطار التفاوض إلى نهايته.

محادثات الرئيس أبو مازن مع وزير الخارجية الأميركي كيري، دلت على أن ما يطرحه الراعي الأميركي لا يتعدى المطالب الإسرائيلية، حتى أن كيري تراجع عن موقف أميركي سابق المتعلق بوجود "طرف ثالث" في المناطق التي من المقرر أن تنسحب منها إسرائيل وفقاً لاتفاق الاطار، فقد تجاهل كيري هذا الأمر، ما يعني بالضرورة الاستجابة للشرط الإسرائيلي الرافض لوجود اية قوات باستثناء الجيش الإسرائيلي للرقابة والتدخل، ومع أن الولايات المتحدة تعتبر الاستيطان غير مشروع، إلاّ أن ما يطرحه كيري حول هذا الأمر، ينطلق، أيضاً، من الموقف الإسرائيلي، ذلك أن هذا الاتفاق يقضي بـ "تبادل غير محدود للأراضي والحدود مع الأخذ بالاعتبار المتغيرات الديمغرافية التي حصلت بإقامة المستوطنات، الأمر الذي يمكن ترجمته بدقة: منح الاستيطان صفة الشرعية باعتباره أمراً واقعاً، وهو ما يشكل من الناحية الفعلية تراجعاً عن الموقف الأميركي إزاء الاستيطان.

وكان من اللافت أن الجانب الفلسطيني توقف عند المصطلح المتداول في "اتفاق الاطار" حول "في مدينة القدس" من دون أن يتم تحديد موقع العاصمة الفلسطينية في الجزء الشرقي المحتل من القدس، ما يشير إلى انسجام بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي، إذ سبق وأن أشارت مصادر إسرائيلية، سياسية وصحافية، على ضرورة أن تبقى القدس موحدة كعاصمة للدولة العبرية، وإمكان أن تقوم العاصمة الفلسطينية في ضواحيها، كأبو ديس مثلاً، وهو الأمر الذي رفضه الرئيس عباس، بالضبط كما يرفضه كل فلسطيني أينما كان.

لا يعترف جون كيري، كما يتبين من مقترحه حول "اتفاق الاطار"، بحق العودة للاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194، الذي ينص صراحة على العودة والتعويض، جاء في تصرح المصدر الفلسطيني "العودة أو التعويض" وهذا خطأ بين ـ لكن وفقاً لاتفاق الاطار يمكن إعادة عدد من اللاجئين الفلسطينيين بناء على القوانين والسيادة الإسرائيلية!

وبينما تتداول وسائل الإعلام المختلفة بعض التصريحات لمسؤولين فلسطينيين، بأن الجانب الفلسطيني سيقر في نهاية الأمر بالاعتراف بيهودية الدولة العبرية، فقد كشف اللقاء بين أبو مازن والرئيس الفرنسي حول جهود جون كيري واتفاق الاطار، ان دولة فلسطين ترفض رفضاً قاطعاً مجرد النقاش حول هذه المسألة، وبذلك فإن الجانب الفلسطيني وضع حداً للشائعات التي صدرت مؤخراً من قبل مصادر فلسطينية تصف نفسها بالاطلاع على خبايا العملية التفاوضية، ولعل اشتراط الجانب الإسرائيلي فرض اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة العبرية، هو أحد المشكلات العويصة التي تعترض نجاح الجهد الأميركي بإملاء الاشتراطات الإسرائيلية على الجانب الفلسطيني، وجاء هذا الرفض القاطع ليضع حداً لتحليلات سياسية ذهبت إلى أن الجانب الفلسطيني، سيرضخ تحت الضغط، وربما بصيغ مختلفة ويعترف بيهودية الدولة العبرية.

ومن المتوقع، أن تستخدم إسرائيل هذه اللاءات الفلسطينية على اتفاق الاطار المقترح، لتعود مجدداً إلى مقولات باتت معروفة: ليس هناك شريك فلسطيني، الجانب الفلسطيني هو الذي يضع العقبات أمام الجهود الأميركية، الأمر الذي يضع على عاتق القيادة الفلسطينية ووسائل الإعلام الفلسطينية خاصة تلك التي تخاطب الرأي العام العالمي، إضافة إلى جهود دبلوماسية حقيقية إلى تبيان حقيقة الموقف الفلسطيني النابع من الالتزام بالشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وان المواقف الفلسطينية هذه انما تنسجم وهذه القرارات، وإذا كان هناك لاءات فهي لاءات دولية سبق وأن اتخذ المجتمع الدولي قرارات بشأنها: لا لعدم عودة اللاجئين والتعويض عليهم، لا للاستيطان الإسرائيلي في المناطق المحتلة عام 1967، بما فيها القدس المحتلة، لا للإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي، هذه اللاءات هي التي تشكل النعم الوحيدة: نعم لقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، كاملة السيادة.

أما بشأن الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، فإن الجانب الفلسطيني ما زال ملتزماً باتفاق أوسلو، وبمقتضاه هناك اعتراف متبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة العبرية، وهو كاف في المفهوم الدولي للاعتراف المتبادل، خاصة وأن الاتفاقيات التي عقدتها إسرائيل مع كل من مصر والأردن، لم تتضمن أي شكل من أشكال الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، ناهيك عن أن طبيعة الدولة ونظام حكمها، مسألة تخص الدولة ولا تخص الدول الأخرى، وبإمكان إسرائيل أن تصف وتصنف نفسها كما تشاء، من دون أن يعني ذلك أنها بصدد فرض هذا الأمر على الدول التي اعترفت أو ستعترف بها.

كان من الجيد أن يتلقى الرأي العام الفلسطيني، صياغة للموقف الرسمي إزاء اتفاق الاطار، وهنا نأخذ على القيادة الفلسطينية أنها قليلاً ونادراً ما تسرب ما يتم تداوله في العملية التفاوضية، بينما يقع الرأي العام الفلسطيني فريسة لما تسرّبه وسائل الإعلام الإسرائيلية حول هذا الملف!!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]