سارع النّائب فلان بالتّصريح لوسائل الإعلام؛ وتسابقت النّاشطة علّانة بالكتابة في أحد مواقع التّواصل الاجتماعيّ؛ وبادر "المثقّف" إلى حملة احتجاج واستنكار؛ و...؛ و...؛ وكلّ ذلك لهدف خطف الأضواء واللّعب على وتر "الوطنيّة"! "متّهمين" الاحتلال وسياساته ومؤسّساته الحكوميّة بانهيار مبنًى مؤلّف من ثلاث طبقات على ساكنيه في مدينة عكا، ومقتل 5 منهم وجرح أكثر من 11 شخصًا، من جرّاء انفجار أنابيب غاز. مستغلّين الحادثة، من دون دراستها وانتظار نتائج التّحقيق في القضيّة، والّتي تشير – حتّى كتابة هذه السّطور – إلى أنّ حادث الانفجار جاء على خلفيّة جنائيّة من جرّاء خلاف على نصب هوائيّات (أنتينات) خلويّة على سطح المبنى؛ فلا علاقة هنا للوطنيّة ولا لسياسة الحكومة ولا للاحتلال بهذا الانفجار والانهيار..!!

سياسات إسرائيلة اهتمت بتهميش وإهمال العرب

لا شكّ أنّ سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة اهتمّت – منذ قيام الدّولة – بتهميش وإهمال عرب هذه البلاد في جميع المناحي الحياتيّة، المجتمعيّة، التّربويّة، الثّقافيّة، الدّينيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة، والإنسانيّة؛ ما انعكس سلبًا على حياتنا وأحيائنا.. ولكن، ألا تعتقدون – أيّها المثقّفون، الوطنيّون، النّاشطون – أنّنا أجرمنا هنا – كما في حالات عديدة – بحقّ أنفسنا وأبناء مجتمعنا؟!.. فبدل إلقاء اللّوم – في كلّ كبيرة وصغيرة – على الاحتلال؛ لأنّها الطّريقة الأسهل للتّنصّل من جرائمنا ومشاكلنا، يجب أن نكدّ ونعمل جادّين على النّهوض بمجتمعنا وتوعيته وتثقيفه وتربيته بشكل سويّ ومدروس، وألّا نكتفي بشَلح (رَمي) المشاكل من خلفنا واتّهام الاحتلال وإصدار البيانات..!!

اعتداءات

ومؤخّرًا، "استشبشرنا" بالاعتداء على إحدى المعلّمات داخل حرم مدرسة حيفاويّة أهليّة، على مرأًى ومسمع الطّلّاب والطّاقم التّدريسيّ؛ وبزوجة عربيّة مشتبهة بدسّ السُّمّ في وجبات فطور زوجها ليتسنّى لها ملاقاة عشيقها (زوج شقيقتها)!؛ وبعمليّات سطو وسرقة ونصب واحتيال وقتل؛ وغيرها الكثير الكثير من "بطولاتنا" الإجراميّة – الجنائيّة واللّا-أخلاقيّة.. فهل الاحتلال مسؤول عن ذلك، أيضًا؟ لا أعتقد ذلك!

لوم المؤسسات الحكومية أم منع السلبيات؟!

بات من الأسهل لنا – كما ذكرت، آنفًا – الإلقاء باللّائمة على الاحتلال والمؤسّسات الحكوميّة بدل العمل على درء ومنع هذه الظّواهر واجتثاثها من مجتمعنا، وتصدّر وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة، ببيان وشجب ولوم واستنكار بدون طرح أيّ أجندة مدروسة لحلّ هذه المشاكل المتراكمة والمتفاقمة والمتأزّمة.. إنّ مشاكل مجتمعنا العربيّ في الدّاخل عديدة وتحتاج إلى حلول فوريّة وجذريّة، تتطلّب تدخّل اختصاصيّين ومِهْنيّين، لا إلى متصدّري عناوين – من "مثقّفين" و"وطنيّين" – يتسابقون إلى اتّهام الاحتلال بكلّ ما يصيبنا – بشكل مباشر أو غير مباشر – من موبقات وانحلال وانهيار!

نحن نفتقر إلى الأخلاقيّات، ولم تعُدْ لدينا محرّمات ولا ممنوعات؛ فحتّى وإن قصّرت المؤسّسات الحكوميّة معنا وزادت من تضييقاتها وضغوطاتها، لا يعني ذلك أن نقترف بحقّ أنفسنا جرائم أسوأ وأخطر بكثير ممّا يقترفه الاحتلال بحقّنا! ولا حاجة للتّسابق إلى وسائل الإعلام أو الكتابة من على صفحات التّواصل الاجتماعيّ – حتّى في الحالات الجنائيّة/الإجراميّة – لاتّهام المؤسّسة لمجرّد خطف الأضواء وتصدّر العناوين بوطنيّة.. فالوطنيّة الفعليّة تعني العمل على حفظ أبناء الوطن من الضّياع. فإن ضاع المجتمع وانحلّ وانصهر، فحينها لن ينفعنا النّدم، ولن يعود هناك معنًى أو قيمة أو فائدة لهذا الوطن – أيّها الوطنيّون – طالما سيفتقر إلى مجتمع سويّ سليم!

نختلق الأسباب

وكما ذكرت في مقالة سابقة لي، أعيد وأذكّر بأنّنا نحاول أن نختلق ألف سبب ومُسبّب لنعلّق – من خلالها – مشاكلنا السّياسيّة والثّقافيّة والتّربويّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة – حتّى الخاصّة منها – على شمّاعات الآخرين! غاضّين الطّرف عن أخطائنا وعيوبنا ومفاسدنا وحقدنا وتخلّفنا و"قرفنا"، متنصّلين من مسؤوليّتنا المباشرة ومتناسين الأسباب الرئيسيّة والحقيقيّة الّتي آلت بنا إلى ما نحن عليه.. فهل يُعقل أن نبقى داخل مجتمعنا نلعب دور المساكين والضّحايا دومًا، نلوم في كلّ صغيرة وكبيرة "الظّالم"، ونحن أكبر الظّالمين في حقّ أنفسنا ومجتمعنا؟!

ليس تبييضًا لصورة الاحتلال

لم آتِ، هنا – في مقالتي هذه – لتبييض صورة الاحتلال وضمان ماء الوجه له، ولا حتّى للمؤسّسات الحكوميّة المختلفة، الّتي تعمل جاهدةً على تفريقنا و"تقزيمنا" وتشتيتنا، ومصادرة أراضينا واعتقالنا وتهميشنا، وطردنا من وطننا.. وأنا في حِلّ عن أن أسوّغ ما أقول بضرورة عدم التّسابق إلى تحميل الاحتلال ومؤسّسات السّلطات كلّ سوءَاتنا وعوراتنا؛ فموقفي من الاحتلال وما تمارسه مؤسّسات الدّولة ضدّ أبناء شعبنا وأرضنا، كان وسيظلّ ثابتًا وواضحًا كشمس آب اللّهّاب؛ باعتباره فعلًا غير إنسانيّ وغير أخلاقيّ وغير حضاريّ، تجب مقاومته، أبدًا، حتّى يزول.. لكن من الضّروريّ عدم خلط الحابل بالنّابل..!

نعم.. لقد أصبحنا لا نجيد الكلام؛ مجتمعنا العربيّ في مأزِق حقيقيّ؛ تتبدّل فيه، يوميّـًا، لغتنا وتتحوّل إلى مفردات قتل وتهديد ووعيد وانتقام وعنف وطائفيّة وحقد وطمع وجشع.. وبدل أن نحلّ مشاكلنا، بدأنا ننحلّ إنسانيّـًا وأخلاقيّـًا وفكريّـًا وثقافيّـًا واجتماعيّـًا وسياسيّـًا.. "اِصحوا يا عرب"، ويكفيكم تذرّعًا بأنّ الاحتلال، دائمًا، هو السّبب..!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]