ثلاثة أشهر مرت على الاحتجاجات في أوكرانيا، على خلفية رفض الرئيس يانكوفيتش عرضاً للشراكة التجارية مع الاتحاد الأوروبي، الذي اختار بدلاً عنه التقارب مع روسيا والتوصل إلى صفقة مع الرئيس بوتين، تستهدف تقديم تسهيلات اقتصادية وتجارية لكييف.
أبعاد الأزمة الأوكرانية أكبر من اعتبارها داخلية، ذلك أن عوامل كثيرة جداً تدخل في الحسبة الأوكرانية، ليس أولها البعد الجيوسياسي الذي يشكل منطلقاً مهماً لفهم هذه الأزمة وتداعياتها، وليس انتهاءً بالبعد الديمغرافي الذي يقسم البلاد إلى فرقاء متناقضين في الأفكار والتوجهات.
قد تكون المعركة في أوكرانيا بين الداخل والخارج، بين النظام المنحاز لروسيا وبين المعارضة التي تناصرها أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يعني أن هناك حرباً باردة بين اللاعبين الكبار لتأمين أوكرانيا كلٌ على مقاسه وما يريد.
من يريد أن يفهم الأزمة الأوكرانية عليه أن ينظر إلى الأوضاع في سورية، فهذا البلد الذي أنهكته الحرب والقتال بين طرفين متناقضين محسوبين على دول مختلفة فيما بينها، نقول هذا البلد يشكل ميداناً للصراع الدولي بمفهوم الحرب البادرة.
لا حاجة في سورية لأن تندلع حرب حقيقية بين روسيا الناهضة وحلفائها من جهة، وبين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، إنما تجسد سورية بكل تناقضاتها الداخلية، هذه الحرب على أمل أن ينتصر أحد اللاعبين الكبار على الآخر.
نعم إنها حرب بالوكالة وإعادة صياغة للنظام الدولي تقوم في أساسها وشكلها على تعدد للأقطاب والقوى، وعلى الأرجح أنها ستنتهي عند هذا الشكل، بالرغم من وجود قوتين عظميين هما الولايات المتحدة وروسيا، لكن أيضاً دون إغفال قوى جديدة صاعدة وفتية مثل الصين والهند ووجود قوى تقليدية قوية ومؤثرة في المشهد العالمي مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الأخرى.
ما يحدث في أوكرانيا حقيقةً يشبه إلى حد كبير ما يجري في سورية، اللهم أن الأولى تشكل امتداداً جيوسياسياً متصلاً بالدول المختلفة حولها، وهي الحصن الاستراتيجي والحيوي الذي يراهن عليه اللاعبون الكبار، خصوصاً روسيا والولايات المتحدة اللتين تنظران باهتمام وقلق شديد لما يجري الآن في أوكرانيا.
ثمة من يتساءل: وما دخل واشنطن بأوكرانيا ولماذا ستبدي حماساً تجاهها؟ للإجابة على هذا السؤال لابد أولاً التأكيد على أن روسيا اليوم ليست كما كانت بالأمس وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانحسار النفوذ الروسي وتقوقعه في سبات عميق.
روسيا اليوم تسعى لفرض نفسها بقوة وإعادة حضورها كما كانت أيام الحقبة السوفيتية، ورئيسها بوتين يمتلك طموحات كثيرة لإعادة الاعتبار للقوة الروسية، ليس على الصعيد العسكري فحسب وإنما على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وهناك مشروعات من ضمنها وليس آخرها، الدعوة البوتينية لاستبدال الاتحاد الجمركي باتحاد اقتصادي أوراسي تدخل فيه عدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق، مثل بيلاروسيا وكازخستان... إلخ.
يريد بوتين أن يتوسع سياسياً واقتصادياً في منطقة بحر قزوين الواقعة غرب آسيا مروراً بالبحر الأسود إلى بحر البلطيق في الشمال الأوروبي، ويسعى لتشكيل قوة نفوذ اقتصادية متينة تواجه المد الأميركي والأوروبي، ومعروف للجميع أن الولايات المتحدة حين أعلنت انتصارها بتأكيد نظام القطبية الواحدة أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عمدت إلى تحجيم النفوذ الروسي على حساب زيادة رقعتها في المنطقة، وتحديداً الشرقية من أوروبا.
الأزمة الأوكرانية أعادت إحياء ما يسمى بمصطلح الحرب الباردة، وأنتجت تموضعاً للتحالفات قائم في طبيعته على المصالح والمنافع، كما هو الحال في الأزمة السورية وكما يجري أيضاً والآن في كل من تايلند وفنزويلا حيث الاحتجاجات قائمة بين حكومات هاتين الدولتين والمعارضة المدعومة من الغرب.
لكن يبدو أن هناك خلافاً أميركياً- أوروبياً في كيفية معالجة الأزمة الأوكرانية، ذلك أن المكالمة الهاتفية المسربة التي جرت مؤخراً بين مساعدة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند، وسفير الولايات المتحدة لدى أوكرانيا جيفري بايات، تؤكد قلق واشنطن من ما يجري في أوكرانيا.
نولاند بصريح العبارة وبخت الاتحاد الأوروبي بسبب طريقة تعامله مع الأزمة في أوكرانيا، وجاء في المكالمة المسربة أنها ناقشت والسفير الأميركي من هم زعماء المعارضة الذين ينبغي أن يشاركوا في الحكومة الجديدة.
ومع أن الخارجية الأميركية نفت تدخل واشنطن في الشأن الداخلي الأوكراني، إلا أن نولاند قدمت اعتذاراً للاتحاد الأوروبي على ألفاظها النابية تجاهه، الأمر الذي يؤكد هذه المكالمة لجهة الاختلاف بين الحلفاء ولجهة التدخل الأميركي في أوكرانيا.
ثم إن الاتحاد الأوروبي لا يعمل بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية، وهو يضعها في كل صغيرة وكبيرة، وقد جرى مؤخراً احتواء مكالمة نولاند وتأكيد التنسيق بين الحليفين، خصوصاً مع اقتحام القوات الأوكرانية ميدان الاستقلال ومحاولات فضه بالقوة.
التداعيات الأخيرة التي حصلت مع وقوع 28 قتيلاً وأكثر من 200 جريحاً في أوكرانيا، جعلت من الولايات المتحدة وأوروبا تتحركان باتجاه البحث لفرض عقوبات على هذا البلد، في حين سعى الرئيس يانكوفيتش لتهدئة المعارضة بإقالة قائد أركانه والاتفاق معها على هدنة حفاظاً على السلم الاجتماعي.
الأميركيون بالفعل ابتدؤوا بخطوات عقابية تتعلق بمنع 20 مسؤولا أوكرانيا من الحصول على التأشيرة الأميركية، بسبب ما أسمتهم واشنطن ضليعين في انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالقمع السياسي في أوكرانيا.
أما الرئيس الأميركي باراك أوباما فبدا حذراً من هذه الهدنة التي شكك في إمكانية تثبيتها، لكنه ألمح إلى ضرورة أن تذهب أوكرانيا نحو حكومة ائتلافية حتى لو كانت مؤقتة، وعلى أن تُجرى انتخابات نزيهة لتشكيل واحدة جديدة، ولعل هذا دليل إضافي على الاهتمام الأميركي بمستقبل أوكرانيا.
ويجوز القول إن مكالمة نولاند تعبر حقيقةً عن أن الولايات المتحدة تنظر إلى الوضع الأوكراني وبالذات المعارضة بدرجة عالية من الاهتمام، وإذ كانت هناك مساعدات جدية وقوية من جانب الاتحاد الأوروبي لهذه المعارضة وهي موجودة، فإنها تأتي بتنسيق مع الأميركان.
لكن يرغب الأميركيون والأوروبيون أيضاً، الحوار مع المعارضة الأوكرانية المعتدلة، باتجاه دعمها وإقوائها على حساب المتشددين الآخرين في صفوفها عموماً، الذين لا تتناسب توجهاتهم ومطالبهم مع مطالب المعارضة المعتدلة.
أخيراً، ربما أصيبت أوكرانيا فعلاً بالعدوى السورية، لكن السؤال هنا هل ستواجه كييف مصير ما يجري في سورية من قتال شرس دام لأكثر من ثلاثة أعوام، والذهاب في أسوأ السيناريوهات إلى القسمة على اثنين، أم أنها أمام حالة من الصراع السياسي الذي سيلقي بظلاله على مجموع الخريطة السياسية للبلاد؟ لعل مقبل الأيام يحمل هذه الأجوبة.
[email protected]
أضف تعليق