من حق اللبنانيين المنتشرين في مواقع التواصل الاجتماعي، أن يستقبلوا الحكومة الجديدة على طريقتهم. لديهم كفاءة وطنية عالية، ومنها يطلقون لموهبتهم السليطة ولغتهم الثرية في إبداع الصفات التي تستحقها هذه الحكومة، وكل من يمت إليها بصلة التكليف والتأليف والتوظيف والتوليف... سيل من الجمل القصيرة المعبرة عن لامبالاة أو تجاهل أو سخرية أو تهكم، وأحياناً يتورط بعضها في بذيء القول، الذي لا يرقى أبداً إلى بذاءة الواقع السياسي الراهن، وهي بذاءة من صنعنا.
هذا حقهم، ولكنه ليس الحقيقة. فالأكثرية تقيس لبنان بقياس الدولة، وقياس الديموقراطية، وقياس الدستور. للأسف، لبنان ليس كذلك. بل، لم يكن كذلك أبداً. وإن كانت حالته المَرَضية في العقود الماضية، ليست بمستوى حالته التي بلغت حد النزع الأخير... لبنان الذي اقترب من الاحتفال بمئويته الأولى، لا يشبه إلا نفسه، وإن كان البعض يرغب بأن يتشبه به في المنطقة، فيصبح نموذجه «الحضاري» في التعايش والحكم والنظام، مستنسخاً في العراق وقريباً في سوريا.. وعلى الأبواب في اليمن، ذي الأقاليم الستة.
المشروع اللبناني، منذ نشأته، كان مشروع سلطة، لا مشروع دولة حديثة. دستوره يؤهله ليكون دولة بالمعنى الحديث، ولكن ميثاقيته «الوطنية» لا تسمح له بذلك. والميثاقية، قيد مُتفلّت من النصوص، ومتصل بالنفوس، فإذا اعتلت أو اعتكرت أو تطيّفت أو تمذهبت، أطاحت النصوص وحلَّت مكانها. وحوّلت الاجتماع اللبناني، إلى مجتمع خائفين ومخيفين، وذئاب ونعاج مستذئبة.
علة اللبنانيين تكمن في تصديقهم أن بناء الدولة متوافر الشروط ومكتمل الظروف. علتهم أنهم يتصوّرون أن بإمكانهم أن يكون لبنان شبيهاً بمنظومة الدول الديموقراطية وفق النموذج الغربي المتعدد... لدينا دستور وقوانين طالقة. لا زواج ممكناً بينها وبين الحواضن الاجتماعية. لذلك، أقصى ما يستطيعه اللبنانيون، تركيب سلطة أو إعادة تركيبها مراراً، بمعونة خارجية وتدخل خارجي وأحياناً بأوامر لا قدرة للبنانيين على ردها. فكيف لمجتمع منقسم أن يبني دولة واحدة، وكيف لجماعات متناحرة أن تقيم سلطة، وكيف لحركات وتيارات متعادية أن تتشارك في حكومة، وكيف لمنظمات تلجأ إلى التسلح لحماية نفسها أن تمنع عنفاً أو تتجنب حرباً؟
فليتواضع اللبنانيون وليقبلوا بمنطق الحد الأدنى: البناء على التسوية التي تحتاج إلى تسويات حاضنة، لتعيش حظاً من الوقت المناسب، قبل أن تدهمها عواصف الخارج وتعتورها إنهاكات الداخل... التوافق، ولو على الغلط المشين، أفضل من استمرار النزاع، وإعلاء الاتهام بالخيانات والعمالة والقتل.
لذلك، تبدو هذه الحكومة في الظروف اللبنانية المأساوية، وفي العواصف الإقليمية الداهمة والدائمة، إنجازاً كبيراً، يستحق الذين تبرعوا بتوليفها، أن يقال لهم: «عفاكم». فالكحل أفضل من العمى. فما كان مستحيلاً قبل شهور وأسابيع، بات مقبولا، برغم التنافر الحاد بين أطراف الحكومة. وعدم قدرتنا على التصديق، بأن بإمكان هؤلاء أن يجلسوا إلى طاولة واحدة، ليحكموا ما تيسَّر من لبنان، أو ما تبقى من البلد، تحت سلطة الحكومة.
ليس مطلوباً من هذه الحكومة إلا معجزة الاستمرار. ليس لدى اللبنانيين من طموح سوى أن لا تنفجر من الداخل، ليس مأمولاً منها سوى القليل القليل، من سد الفراغ، إلى أن تحين ساعة الحلول الإقليمية البعيدة.
يسجّل للبنانيين، أنهم الوحيدون في هذا الإقليم المشرقي المنخر، أنهم استطاعوا تأليف حكومة الأضداد. هذا الأمر ليس سهلاً. فالعراق، محكوم بحكومة ذات غلبة طائفية. كل غلبة في سلطة في مجتمع منقسم طائفياً ومذهبياً، هي مشروع فتنة. العراق في فتنة دائمة ومستفحلة. شعور السنّة بالغلبة الشيعية، تنتهي إلى أن تصبح عنفية أو حاضنة لعنف يستبسل في استدراج «الآيات» و«الأحاديث» لتبرير العنف بمحاربة الكفار.
أما سوريا، فهي تعيش في ظل حكومة لا تحكم، ونظام أمني متحكم، والمطلوب بعد ثلاثة أعوام من العنف التدميري الهائل، أن تفضي فيها المساعي الدولية الى تأليف حكومة انتقالية، تتشارك فيها «الأضداد»، التي خاضت وتخوض حروباً من كل الأنواع والأجناس والأساليب الجهنمية... لقد تفوّق اللبنانيون، في لجم حالة الانفلات السياسي، وألّفوا حكومة، يناط بها أن تبدأ حواراً عاقلاً لتجاوز المخاطر الكبرى الإقليمية والأخطار الصغرى الداخلية، على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»، و«عفا الله عما مضى» عبر أسلوب التناسي والتغاضي والتراضي وتدوير الزوايا، ومكافأة الجميع، بنعم المحاصصة، التي توفر «السلم الأهلي» وتديم «الظلم الاجتماعي» والتمايز الطبقي والفساد المحيي للاقتصاد والسياسة معاً، والتي تنفِّر جيل الشباب اللبناني الغاضب، من استمرار لبنان ككيان بلا دولة وبلا أفق وبلا مستقبل، إذ جل همّ الواقعيين السياسيين، أن يلجموا السرعة التي يتدحرج فيها لبنان إلى الخلف والتخلف.
الانقسام الفلسطيني له فضل السبق. فالسلطة موزعة بين حكومتين، واحدة في غزة والأخرى في الضفة. الأولى توالي في الإقليم خصوماً لحكومة أبو مازن، وهذه تستقوي على «حماس» بقوى تخالف نهج «حماس». ولا يبدو في الأفق القريب، غير المزيد من الانقسام والاقتسام. سلطتان وحكومتان بلا دولة، تعانيان من احتلال لفلسطين، واستيطان متوحش في الضفة وحصار خانق لغزة... وبرغم فلسطين الجامعة في مأساتها للحكومتين، فإنهما لم يجتمعا، ويخشى أن يصبح الفلسطينيون مجتمعين: مجتمع غزة، ومجتمع الضفة.
أثبت اللبنانيون جدارتهم الدائمة في التأسيس للنزاع والصراع، ولكنهم أيضاً برهنوا طواعيتهم لتدخلات الخارج وإشاراته وأوامره، وسارعوا إلى تسوية، جديرة بأن تحتذى في العراق والشام وفلسطين... واليمن أيضاً.
هذه الحكومة الوليدة، بكل ما يربك العقل والنفس، وبكل ما تثيره من علامات تعجب واستفهام، وبكل ما يلحق بها من شماتة واتهام وتبخيس، هي «خير ما فينا» وأبدع إنتاجاتنا، ويا ليت العرب يحتذون خطواتها.
هذه الحكومة، المبنية على جمع التناقضات، هي الوحيدة الصالحة كنموذج يجمع التناقضات في العراق وسوريا وفلسطين واليمن.
هذا هو حظنا... وما عدا ذلك، أضغاث أحلام، ورحلة انفصام. المجتمعات المعتلَّة بالانقسام، لا قدرة ولا طاقة لها على إقامة دولة. فلا دولة في لبنان، ولا دولة في سوريا، ولا دولة في فلسطين... الممكن، هو مجرد سلطة لخفض منسوب النزاع والصراع، على أمل الارتقاء في ما بعد، وما بعد بعد إلى مستوى بناء الدولة.
[email protected]
أضف تعليق