من الصّعب التخيّل بأنّ ممثّلي الثلاثين دولة الذين اجتمعوا في جنيف يعتقدون فعلا ً أنّ بمقدورهم ايجاد حلّ سياسي للحرب الأهليّة السوريّة. فبالنظر إلى المصالح الإستراتيجيّة المتباينة في سوريا للدول داخل وخارج المنطقة، يتّضح بأن التوصّل لإجماع ٍ في الرأي من أجل إنهاء الأزمة في هذه المرحلة الحاسمة هو أمر ٌ خارج عالم الإمكانيّات. فالظروف على أرض الواقع في سوريا وميزان القوى بين الثوار ونظام الأسد يجب أوّلا ً أن تتغيّر لصالح الثوار لإجبار الأسد على تغيير حساباته قبل التمكّن من صياغة أيّ حلّ سياسي.

قد يحتضن الرئيس أوباما وبقوّة اتفاقيّة التخلّص من أسلحة سوريا الكيماويّة أو البحث عن حلّ سياسي عن طريق عقد مؤتمر جنيف الثاني. ولكن للأسف وحسب المتوقّع عملت الإتفاقيّة الكيميائيّة فقط لتقوية الأسد حيث أنها منعت ضربة أمريكيّة ومنحته مزيدا ً من الوقت لتثبيت مكاسبه. وأوباما الذي قرّر عدم إشراك أمريكا في صراع ٍ آخر في الشرق الأوسط قد ترك سوريا لنزوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أظهر حماسا ً مفرطا ً لملء الفراغ واغتصاب الأجندة السياسيّة لضمان مصالح روسيا على الأمد الطويل في سوريا. وهناك عدّة عوامل تعقّد إمكانيّة التوصّل لأي حلّ سياسي، وهذه يبدو أنها غابت عن إدارة أوباما أو أنها عوملت بنوع ٍ من الإزدواجيّة أو التناقض.

أوّلا ً، علاوة ً على روسيا وإيران، هناك العديد من اللاعبين السياسيين، بما في ذلك دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربيّة السعوديّة، ثمّ تركيا وعشرات المجموعات الجهاديّة من داخل وخارج المنطقة ممّن لها أجندات سياسيّة مختلفة وهؤلاء سيقومون بكلّ ما بوسعهم من قوّة لإحباط أي حلّ لا يخدم مصالحهم.

ثانيا ً، لقد تحوّلت الحرب الأهليّة الآن إلى حرب ٍ بالوكالة ما بين المملكة العربية السعوديّة سنيّة المذهب وإيران الشيعيّة. ويُنظر إلى العراق والآن إلى سوريا كأراضي معركة لصراع ٍ يغلي منذ أمد ٍ طويل بين هذه الدول ومن غير المحتمل أن ينتهي في المستقبل المنظور.

ثالثا ً، لا يخفي "التعاون السياسي" المريح ما بين الولايات المتحدة وروسيا حقيقة وجود خلافات جوهريّة بينهما ليس فقط بخصوص مصير الأسد بل أيضا ً حول نوع النظام الذي سيخلف الأسد.

رابعا ً، لقد منحت الحرب فرصة تاريخيّة لعشرات المجموعات الإسلاميّة المتطرّفة، شاملة جماعة الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) وجبهة النصرة ومجموعات جهاديّة أخرى تنتمي للقاعدة. هذه المجموعات مصمّمة على استغلال الفوضى في سوريا، هذا بصرف النظر عن الثمن الذي سيدفعونه وعدد القتلى والضحايا السوريين. وأخيراً، وفيما الحرب تطحن وعدد القتلى ورقعة الدّمار والمعاناة الإنسانيّة في تصاعد حتّى وصلت أبعادا ً مأساويّة كارثيّة، نرى الأسد والثوار قد تخندق كلّ منهما بعمق وينظرون للحرب من زاوية إمّا الحياة أو الموت. وبالنظر لهذه المعطيات، لا يستطيع المرء حقيقة ً أن يتصوّر أنّ بإمكان الجانبين أن يتصالحا سياسيّا ً ويتكاتفا في حكومة ٍ انتقاليّة.

وتكثر التخمينات حول كيفيّة إنهاء هذه المأساة ولو من أجل الشعب السّوري المغلوب على أمره، هذا في الوقت الذي لا تريد أيّة قوّة متصارعة على الساحة كما يبدو وضع نهاية لها. لم يستطع مؤتمر جنيف الثاني التوصّل حتّى لاتفاق قابل للتطبيق لتوفير الغذاء والدواء للأطفال الذين يمرضون ويجوعون حتّى الموت. هذا في الوقت الذي يبدي فيه القادة الحاضرون في المؤتمر ارتياحهم لجلوس ممثلي الثوار ونظام الأسد وجها ً لوجه يتقاذفون الإتهامات فيما بينهم.

وبالنظر لهذا الواقع المأساوي الكئيب يتساءل المرء من أين سيأتي الحلّ السياسي لإنهاء مأساة سوريا الإنسانية المتفاقمة ؟!!

أوّلا ً، لقد طُرحت فكرة أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على صيغة تجبر الأسد على التنحّي عن الحكم ثمّ يتبع ذلك إقامة حكومة انتقاليّة. وكان على روسيا بدورها أن تقنع إيران – التي تزوّد نظام الأسد بالأسلحة والمساعدات الماديّة – بدعم هذا المشروع. هذا يعني من ناحية جوهريّة بأن روسيا وإيران ستحتفظان بنفوذهما التقليدي في سوريا وأنّ أية حكومة انتقاليّة ستخضع للإملاءات الإيرانية والروسيّة، وهو أمر ٌ تعارضه بشدّة المملكة العربيّة السعوديّة ودول خليجيّة أخرى.

أمّا السيناريو الثاني الذي قد ينهي الحرب الأهليّة قد يبدأ بقيام قوات الأسد بقصف الأحياء السكنيّة بدون تمييز متسبّبة بقتل آلاف السوريين فورا ً. والإفتراض هنا أن يثير هذا القصف غضب الولايات المتحدة فتصبح مجبرة ً بعد ذلك لضرب بعض منشآت الأسد العسكريّة وإجباره على تغيير حساباته. وهذا السيناريو أيضا ً بعيد الإحتمال لأنّ الأسد يعلم أنّه في حالة ارتكابه مثل هذه الفظاعة ستحدث هذه على الأرجح ردّ فعل أمريكي غاضب، وبالأخصّ الآن لأنّ أوباما تحت ضغط ٍ متزايد لإعادة النظر في سياسة عدم التدخّل التي ينتهجها حتّى الآن. وبدلا ً من ذلك، سيستمرّ الأسد في استخدام عمليّات القصف المنهجيّة التي ستقتل "فقط" عشرات في وقت ٍ واحد لتجنّب موجة الغضب الدوليّة. هذا وسيعيد الأسد تحت هذه الظروف تدريجيّا ً المناطق التي خسرها للثوار كما فعل في الأشهر الأخيرة ويستمرّ في نفس الوقت في قتل شعبه على أمل أن يسيطر أخيرا ً.

وأمّا السيناريو الثالث فهو الإبقاء على الأوضاع الحاليّة حيث تستمرّ المملكة العربيّة السعوديّة ودول خليجيّة سنيّة أخرى بتزويد الثوار بالأسلحة وبمساعدات ماديّة أخرى ولو ليس بأنواع الأسلحة والكميّات التي بإمكان الولايات المتحدة تقديمها لتغيير ميزان القوى على الأرض. ومن الناحية الأخرى تستمرّ إيران وروسيا بتزويد الأسد بالأسلحة والمساعدات الماليّة فيطيلون بذلك أمد الصّراع مانحين الأسد المزيد من الوقت للتوسّع في مكاسبه والتخلّي عن فكرة حكومة انتقاليّة.

هذا السيناريو من غير المرجح أن يحدث أيضا ً بالنظر إلى العداء العميق ما بين المملكة العربيّة السعوديّة سنيّة المذهب وإيران الشيعيّة اللتان تحاربان حربهما بالوكالة في سوريا. فبالنسبة لهاتين الدولتين تعتبر الحرب الأهليّة السوريّة حرب تعريفيّة وكلّ منهما مستعدّ أن يصرف كلّ ما تستلزمه هذه الحرب لكي تستمرّ، وذلك بصرف النظر عن الأعداد الرّهيبة التي ستموت من السوريين في العمليّة.

ولو نظرنا إلى السيناريو الرابع نجد أن هذا يقترح إقامة حكومة انتقاليّة أوّلا ً ولكن بعد هدنة شاملة لا يحرّك بموجبها أيّ طرف ( الثوار والقوات العسكريّة الحكوميّة) شيئا ً من موقعه، أي بمعنى أن تبقى كلّ جهة مسمّرة في مواقعها، ثمّ تتبع ذلك المساعدات الإنسانيّة للمناطق التي يسيطر عليها الثوّار، الأمر الذي سيساعد في بناء الثقة وتمهيد الطريق لإنشاء حكومة انتقاليّة. ولكن هذه الخطوة تفترض مقدّما ً أن يكون هناك اتفاق حول مصير الأسد، وهو أمرٌ تختلف عليه مبدئيّا ً الولايات المتحدة وروسيا.

وبالنسبة للسيناريو الخامس، الذي على الأرجح سيُطبّق، فهذا يعتمد على أنّ الحرب الأهليّة السوريّة ستنتهي عند وصول كلا الطرفين لنقطة الإعياء أو حدّ الإنهاك ولا يرون بعد ذلك مبرّرا ً لمواصلة القتال لأنّ الطرفين بكلّ بساطة قد فقدا الأمل بكسب مواقع جديدة أو حتّى بتحصين مواقعهما الحاليّة.

أما توافد الأعداد الهائلة من الجهاديين لداخل البلد وتعهدهم بمحاربة أية اتفاقيّة وحتّى بعضهم البعض للتقدم بأجنداتهم السياسية، فهذا يزيد من إطالة أمد الحرب لأنّ القتال لم يعد لغرض ٍ واحد. هذا ما يحدث غالبا ً في حرب أهليّة عندما تكون الأطراف المتحاربة منشغلة ً في قتال طال أمده ولا يستطيع أيّ من الأطراف حسم المعركة لصالحه. ويصبح هذا الوضع أكثر تعقيدا ً عندما تستمرّ قوى من الخارج في دعم جهات مختلفة ويكون دعمها غير كافيا ً لإزاحة ميزان القوى بشكل ٍ قاطع بطريقة أو بأخرى. قد تستمرّ الحرب الأهلية في سوريا تحت هذه الظروف مدة 10 إلى 15 عاما ً أو أكثر، فالحرب الأهليّة في لبنان استمرّت من 1975 لغاية 1990 وهناك أمثلة أخرى لحروب ٍ أهليّة طويلة الأمد وموهنة منها أفغانستان والسودان.

إذا انكشف هذا السيناريو ستتفكّك سوريا حتما ً وسيموت المزيد من مئات الآلاف من السوريين وسيتفشى الجوع والمرض بشكل ٍ ليس له مثيل، وستصبح معظم البلد تحت الأنقاض. هذا ولا يستطيع أحد أن يتكهّن كيف ستؤثّر هذه الكارثة على دول أخرى في المنطقة، ولكن شيء واحد أكيد: لن تكون دولة واحدة بمنأى عن هذه الكارثة واحتمال حدوث "حريق" هائل في المنطقة سيكون وشيكا ً.

هذا يتركنا مع الخيار العملي الوحيد الذي بإمكانه أن يضع نهاية لهذه الحرب المرعبة وهو يجب إفهام الأسد بأنه يقف على أرض ٍ خاسرة حتّى مع الدعم المتواصل من روسيا وإيران.

وليحدث هذا، يجب على الولايات المتحدة أن تغيّر حسابات الأسد بتغيير معادلة القوى على الأرض وإعطاء الثوّار المعروفي الهويّة الأسلحة التي هم بحاجة لها لوقف الأسد في تحركاته وإخراجه بالقوّة، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي بإمكانها أن تفعل ذلك. وفقط بعد القيام بذلك، يستطيع المجتمع الدولي أن يركّز على إقامة حكومة انتقاليّة تمثيليّة للشروع في المهمّة الجبّارة، ألا وهي إعادة بناء البلد.

الوقت ينفذ، وكلّ يوم نستمرّ في اعتناق وهم حلّ سياسي. فبدون تغيير ميزان القوى أولاَ على الأرض، آلاف الرجال والنساء والأطفال السوريّين سيموتون وملايين السوريين اللاجئين لن يجدوا بيتا ً يعودون إليه. فكلّما أسرعت إدارة أوباما في اتخاذ الإجراء الحاسم بدعم الحلفاء الغربيين والعرب، قرّبت نهاية هذه الكارثة الإنسانيّة الغير معقولة في سوريا.

* أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]