"شأنٌ داخلي بدويّ"، هكذا وصفت نائبة وزير الداخلية الإسرائيلي، فاينا كرشنباوم، ظاهرة تعدد الزوجات أثناء ردها على تقرير "يديعوت أحرونوت" الأخير حول تعدد الزوجات في المجتمع الفلسطيني في النقب، "الموضوع سيحلّ عندما ينتقلون إلى بلدات منظّمة" أضافت. كرشنباوم ليست وحيدة، لطالما رافقت هذه التصريحات ممثلي السلطات الإسرائيلية حينما يتعرضون للمساءلة حول تشريعات وممارسات متعلقة بمكانة المرأة الفلسطينية في الداخل. "هذا الموضوع ليس للتشريع"، "نحن لم نوافق على القانون احترامًا لتقاليد المجتمع العربي"، قال رئيس الكنيست ريفلين أثناء نقاش دار في أعقاب رفض اللّجنة الوزارية اقتراح قانون رفع سن الزواج الذي قدمته حينها المرأة العربية الوحيدة في الكنيست، النائبة حنين زعبي، محددًا بذلك للنساء العربيات وللمجتمع العربي مفهوماً مستهجناً لـ"احترامه".
في لجنة حماية حقوق الطفل تصرّح مندوبة وزارة "الأمن الداخلي" في معرض حديثها عن تطبيق قانون تحديد سنّ الزواج: "أنا لا أريد أن أشرح لكم كم يشعر رجال الشرطة بالحرج أثناء أداء هذه الوظيفة، ببساطة محرج!". مؤسسات دولة مؤتمنة على تطبيق القانون تشعر بــ"الحرج" من تطبيقه في جرائم تتراوح عقوبتها بين عامين إلى خمسة أعوام، هل يمكننا تخيّل تصريحات مماثلة في سياق الحديث عن جرائم مثل السرقة أو القتل أو "الأمن" مثلًا؟! ولماذا تبدو التشريعات المتعلقة بالجرائم المرتكبة بحق النساء، دون سواها، "ليّنة" بنظر المؤتمنين على تطبيق القانون؟
تنمّ هذه التصريحات وغيرها عن خلفية استشراقية واستعلائية، حيث تفترض المؤسسات الإسرائيلية وجود "قطيع عربي متجانس ذي رغبة جماعية أحادية" تحترمها بانتقائية وفقًا لمصالحها، فتشعر بالحرج إزاء تقويض المنظومة الأبوية القامعة للنساء الفلسطينيات، بينما لا تشعر بالحرج حين تشرّعن وتطبّق سياسات عنصرية. فإسرائيل التي تسلب إرادة الإنسان الفلسطيني وتحرمه من حقه في تقرير مصيره وتحرمه من حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية، تعزّز باسم "الليبرالية" واحترام "الحقوق الجماعية" انتهاك حقوق أساسية للنساء الفلسطينيات، حيث تتبنّى، عمدًا، مفهومًا مشوهًا للتعدديّة الثقافيّة وتتصالح بل وتتحالف مع "قيم" أبوية قمعية، وتستخدم "ديماغوغيّة حقوقيّة" بإعطاء "حق جماعي" لسيطرة مجموعة ما على حرية أفرادها، في الحالات التي لا يتعارض هذا "الحق" مع مصالح الدولة. وذلك بهدف حرف الأنظار عن السيطرة الاستعمارية الحقيقية للدولة على كافة مناحي حياة الفلسطينيين والإبقاء على ممارسات تحول دون نهضة المجتمع وأفراده.
تبدو سياسة الكيل بمكيالين صارخة للعيان حين تتناقض سياسات الدولة، سابقة الذكر، في تطبيق القانون مع مصالحها "الأمنية" والاقتصادية، فعند قيام امرأة فلسطينية في عائلة متعددة الزوجات بتقديم طلب للمّ الشمل أو بالمطالبة بمخصصات التأمين كأم في عائلة أحاديّة الوالدين، لا تدّخر المؤسسة جهدًا ووسيلةً بغية الكشف عن الزيجات غير القانونية، ليس هذا فحسب، فبدلًا من معاقبة الجناة تقوم بمعاقبة النساء، المتضررات أصلًا، عبر حرمانهنّ من لمّ الشمل مع أطفالهنّ أو من تلقّي مخصصات التأمين بحجة رفض شرعنة الجريمة.
في مقالها "سياسة الشرف: البطريركية، والدولة وقتل النساء باسم شرف العائلة" تتحدث منار حسن عن التقاطع بين المصالح السياسية للنظام الأبوي وتلك وليدة سلطة الدولة، ونتاج هذا التقاطع وأثره على استمرار ممارسة قتل النساء باسم "شرف العائلة" في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل. تشير حسن إلى حالات كثيرة قررت فيها النساء الفرار من بيوتهنّ حفاظًا على حياتهنّ، فقامت الشرطة بالتنصّل من المسؤولية وبإعادتهن إلى قتلتهن المحتملين ليلقين حتفهن. تؤكد حسن أن هذه السياسة ليست بمبادرة تقتصر على الشرطة المحلية ولا بسياسة داخلية للشرطة، بل سياسة عليا يحددها ما يسمى بــ"مستشار الحكومة للشؤون العربية".
قام هذا الجسم تاريخيًا بتحديد سياسة كافة الوزارات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين مواطني الدولة، وسعى لإحكام سيطرة إسرائيل عليهم، وكجزء من "لعبة السيطرة"، شجّع هيمنة "العشيرة" و"الطائفة" وسعى لإضفاء الشرعية على التقاليد الأبوية والدينية، لتكسب الدولة، هي الأخرى، الشرعية من المستفيدين من الحفاظ على الوضع القائم: رجال الدين التقليديّن والقيادة الأبوية.
ليست هذه السياسات حكرًا على إسرائيل وحدها، لطالما انتهج المستعمر الأبيض سياسة الكيل بمكيالين تجاه الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، ففي حين سادت في موطنه قيم الديمقراطية وحماية حقوق الفرد، امتنع عن إحلالها في الدول الواقعة تحت الاستعمار، وأبقى تلك الشعوب خاضعة لتقاليد غير ديمقراطية. في كتابه "في مواجهة أزمة عصرنا" يقول المفكر سمير أمين إن المستعمر الفرنسي في الجزائر لم يلغ الاحتكام إلى الشريعة بل قام بتعزيزها، ومنح حقوقًا واسعة لعلماء السلفية في تأويلها. ويحيل أمين ذلك إلى رغبة المستعمر بتوظيف التقاليد والقيم القمعيّة لتكريس حكمه ولإحكام سيطرته، عبر الإبقاء على الاستقطاب بين ما أسماه بــ"الأطراف المتخلفة" و"المراكز المتقدمة"، وإخراج الشعوب الواقعة تحت الاستعمار من مجال تطبيق القيم الديمقراطية المرتكزة على العمومية ودعم الخصوصية بما ينسجم مع مصالحه ورغبته بالحد من تطورها.
عودةً لإسرائيل، حين تُرفض التشريعات الرامية للنهوض بمكانة المرأة، وحين يرفض المؤتمنون على تطبيق القانون إيقاف الجرائم المرتكبة بحقها، من قتل وتعدد زوجات وتزويج قاصرات، وحين تُغلق غالبية الملفات الجنائية، القليلة، ضد الجناة لـ"عدم وجود مصلحة للجمهور"، علينا الالتفات للمصلحة الحقيقية للتحالف السلطوي مع المنظومة الأبوية: أي إحكام السيطرة على النساء بهدف السيطرة على المجتمع عامةً.
* محامية وناشطة
[email protected]
أضف تعليق