شكل صمود عكا بأهلها وسورها العظيم في وجه نابليون بونابرت ، وارتداده على عقبيه، سببا قوياً في فشل محاولات الغرب حينها لاحتلال المشرق الاسلامي، وشكل هذا الصمود مثلا ومثالاً لصمود عكا في وجه الترحيل والتهجير، هذه المدينة العربية العريقة التي بناها العرب الكنعانيون في فجر تاريخها المدوّن ، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، وتوالى عليها عابرون كثيرون، الى أن استقرّت في حضن الخلافة الاسلامية على مدار أكثر من 1400 عام، وكانت بعمرانها ومينائها وسورها وعظمة معالمها، شاهدة على حضارة وصمود هذه المدينة في وجه المحتلين الغرباء، الى أن سقطت في يد العصابات الصهيونية عام 1948م ، فأرادت المؤسسة الاسرائيلية لها خراباً وتدميراً وطمساً لمعالمها ، بيوتها ، مقدساتها الاسلامية والمسيحية ، مقابرها، مساجدها وكنائسها، خاناتها وحماماتها التاريخية ، ومن أهمها المعالم الأثرية التاريخية العثمانية، وهي الأكثر وجودا وانتشاراً في عكا .
عكا العراقة
تربعت عكا منذ قدم الزمان على عناوين كبيرة في كتب التاريخ في عراقتها وصلابتها ، وساعدها على ذلك موقعها الاستراتيجي، بين السهول والتلال والساحل البحري، الذي شكل لها دافعا إقتصاديا قويا، فكانت بوابة دولية في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخها ، سماها المنشئون الأوائل بهذا الاسم ومعناها الرمل الحار، وكان لعكا ميناء في القرن الرابع عشر ق.م ، وكان ميناؤها محصن .
فتحت عكا خلال الفترة الاسلامية في زمن خلافة عمر بن الخطاب على يد شرحبيل بن حسنة عام 16 هـ ، وفي عهد معاوية بن ابي سفيان رممت وطور بناؤها، وأُنشىء فيها أسطول بحري، بعد أن كان أنشأ فيها داراً لصناعة السفن، ومنها انطلق نحو جزيرة قبرص عام 28هـ ، حيث فتحت في عهد خلافة عثمان بن عفان، وتوالى الاهتمام بها في الفترة الاموية ثم العباسية والمملوكية وانتهى بها المطاف في فترة الخلافة العثمانية ، وفي عهدهم شهدت المدينة ازدهاراً وشّيد فيها الكثير من المعالم التي ما زال قسم كبير منها الى اليوم يصارع آلة التهويد والأسرلة .
يمكن أن نبكي على الأطلال طويلاً ، لكن ماذا يمكن أن ينفع أو يدفع هذا البكاء من ضرر، يمكن أن نشيد بالتاريخ العريق ، لكن هذه الإشادة والمدائح وحدها لا يمكن أن تغيّر أو تواجه من يريد تغيير الواقع ومحو هذا التاريخ ، نحن في "مؤسسة الأقصى للوقف والتراث" انحزنا الى خيار آخر ، واعتمدنا وسيلة المتابعات الميدانية، ألحقناها بمشاريع الترميم والصيانة للمقدسات ، ومنها المساجد والمقابر، وهي لا شك معالم حاضرة شاهدة على الهوية والانتماء والملكية ، وهكذنا تعاملنا مع مدينة عكا ومقدساتها .
زيارات مستمرة لعكا
في سنوات مضت وخاصة الأشهر الأخيرة كانت هناك زيارات مكوكية من قبل طواقم "مؤسسة الأقصى" لمدينة عكا تنقلنا فيها بين مساجدها التي علمنا على ترمميها، مسجد الزيتونة ، ومسجد الرمل ، ومسجد المجادلة ومسجد الميناء، علما أن أعمالنا في الترميمات والصيانة في مدينة عكا شملت في السنوات الأخيرة أغلب مقدساتها .
الاّ ان زياراتنا المتتابعة في الأسابيع والأشهر الستة الأخيرة كانت متواصلة ، دون انقطاع، تنقلنا فيها بين مسجد المجادلة شمالا، وبين مسجد الميناء- أو مسجد سنان باشا- حيث نفذت المؤسسة مشروع إعادة بناء مئذنة المجادلة – أنظر تقريراُ خاصاً أعده الزميل أنس غنايم- ومشروع ترميم الواجهات والمدخل الرئيسي لمسجد الميناء، وهو لا بد أن نسجل الدور التاريخي الأصيل الذي قامت به جمعية ميراثنا التركية بتمويل هذه المشاريع وغيرها لحفظ التراث الاسلامي العثماني العريق ، في البلاد ، فجعلت هذه الجمعية التركية من العمل والتنفيذ الميداني ، تحقيقاً لا شعارات .
في الأسبوع الماضي وقفت سيارتنا عند مسجد المجادلة ، لنشهد آخر مراحل تنفيذ إعادة بناء مئذنته، كم كان الأمر عظيما، مؤثرا، معيداً الذكريات المجيدة، ومحيياً الأمل بالنفوس، كان موعدنا التالي أن نلتقي في مسجد الميناء، قررت أن أذهب الى هناك مشياً على الأقدام ، أتجول في أزقتها العتيقة ، استنشق عبق تاريخها المجيد، مررت بحارة المجادلة ، ثم بمسجد الشاذلية، فالبازار التركي ، فمسجد الزيتونة، فسوق عكا الشعبي( رائحة ومشهد الأسماك كان الأكثر حضوراً – اشتهرت عكا على مدار العصور بصيد السمك-، ثم رائحة البخور المنتشرة) ، لكن هناك وشوشات وقلق وخوف لمشهد ومخطط التهويد والتشريه والترحيل والتطهير العرقي ، أحسست ، خاصة عند زياتي البازار التركي، أن المؤسسة الاسرائيلية بشركاتها تريد أن تستولي وتهوّد وتأسرل كل شيء في عكا ، لكن هيهات .. هيهات فمن منا ل يعرف المثل المشهور :" لو خافت عكا من هدير البحر لما سكنت على شاطئه".
ميناء عكا
هناك على شاطىء بحر عكا ، على الساحل الفلسطيني، هناك على جانب ميناء عكا التاريخي، هناك على النافذة والبوابة الدولية ، هناك حيث خان العمدان المهدد بالتهويد ، هناك حيث حارات عكا القديمة، هناك عند أسوار عكا الجنوبية ، هناك حيث هدير الأمواج ، يقع مسجد تاريخي ،مسجد الميناء ذو التسميات العديدة ( البحر، الجرينة، سنان باشا ) ، يستقبل الزائرين والوافدين، يشهد على إسلامية وعروبة عكا ، يقف صامداً يواجه ويتحدى التهويد والتطهير العرقي، يلجأ اليه أهل عكا يدعون الله بالثبات ، ويعتلي المؤذن المئذنة ويرفع الأذان خمس مرات : الله أكبر الله أكبر .... لا اله إلاّ الله ) .
من منا لا يعرف المهندس المعماري العثماني سنان باشا ، الذي بنى في عهد الدولة العثمانية أروع المساجد والمباني العملاقة ، على امتداد دولة الخلافة العثمانية العملاقة، وفي عكا بنى مسجد الميناء ، في القرن السابع عشر الميلادي ( ولعل أكثر المساجد العكية على ما يبدو بنيت ابتداء في الفترة الأموية وما لحقها من حقب، لكنها رممت وأعيد بناؤها في فترات متلاحقة أبرزها في فترة الدولة العثمانية، في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي هدم جزء من الجامع أثر هزة أرضية ، وفي عام 1807م قام والي عكا سليمان باشا بإعادة بنائه .
مع مرور الزمن وتضييقات الاحتلال تعرض مسجد سنان باشا الى تشققات وتصدعات، وقامت "مؤسسة الأقصى" بأعمال ترميم وصيانة داخلية وخارجية في كل مرافق المسجد ، كان آخرها ترميمات أثرية لواجهات المسجد الخارجية ومن ضمنها البوابة الرئيسية ، وبطبيعة الحال كان التمويل من "جمعية ميراثنا" التركية .
[email protected]
أضف تعليق