ليس سؤال الناصرة علي أم رامز؟ هذا سؤال سطحي، لا يستشف هموم الناس، بل يهدف فقط إلى استقطابهم لتسجيل نقاط سريعة وآنية. بل السؤال هو التكلس أم التغيير، المستنقع أم النهر. والنهر حين يجري يحمل الكثير، الصالح والطالح، الماء والزبد، ولكنه يجري.
السؤال مرة أخرى، هو ليس بين شخصين، بل حول شرعية الحراك الشعبي، حول قراءتنا لدوره، وللأفق والإمكانيات التي يطرحها، ولدور الأحزاب فيه.
من وظيفة النخبة، دائما، أن تكون "ضمير الشعب"، أو صوته الطلائعي والتقدمي، ومن هنا أهمية بوصلتها النقدية الواعية، لكن وظيفة البوصلة هو أن توجه لهدف، وأن ترافق مسارا شائكا بشكل عضوي وقريب، وليس أن تبتعد عنه، فتراه منسابا، ولا ترى عثراته، ولا تخبطاته. قد لا تستطيع الجماهير بالضرورة أن تسير الطريق الأنقى، والأكثر جمالية. "ميدان التحرير" كما بدأ، ليس هنا، ونحن نشهد الآن، كم أن النقاء لا يدوم، وإن اكتسح، إذا لم يجد له حاملا سياسيا يقوى على خصومه.
رغم نية البعض، الصافية الصادقة النقية، الحريصة، على "نقاء التغيير"، أولئك، "الناجون من المناخ السائد"، الذين لا يضعون أنفسهم تلقائيا وبشكل غرائزي ضمن استقطاب الجبهة-ناصرتي، إلا أنهم أخفقوا ليس في الإجابة على أسئلة تدور في فلك "شرعية الحراك الشعبي"، بل في إدراكها أصلا.
ووقعت هذه النخبة "الناجية من الاستقطاب" السياسي (علي أم رامز)، في استقطاب فكري، فحكمت على "معنى" أي حراك من خلال أسئلة ضيقة تحكمها محاذير الخوف، الخوف من، والخوف على، ولم تر مدينة خلفهما، ولم تر حراكا شعبيا، ولم تر مغزى هذا الحراك وصدق الناس في الاحتجاج وبحثهم الفعلي عن طريقة للتغيير.
فإذا ما اتفقنا سوية -من "نجا من المناخ السائد"، ولم يرد أن يكون جزءا عضويا في التغيير، ومن "نجا من المناخ السائد"، وأراد أن يكون جزءا عضويا منه ((دور المثقف الصعب)- أن نرى "المدينة" خلف "الثنائي"، فإن السؤال الأساسي يتحول عندها الى سؤال: هو هل نحن مع شرعية هذه الحالة الشعبية أم لا؟
ومهما اختلفت إجابتنا حول السؤال، علينا أن نتفق أن كل من يرى في دعم التجمع الوطني الديمقراطي والقائمة الأهلية لآلاف أرادت أن تخرج نفسها من حالة تهميش وإقصاء عن الفعل السياسي، مجرد دعم لشخص، فإنه يهين الشارع، ويعيد إقصاءه، ويمحو حالة شعبية كاملة، لا تختصر في دعم شخص، بل ترى فيه "مخرجا" من واقع لا تريده.
جوهر الحراك: العنف أم الرغبة في التغيير؟
أحداث الشارع تدار وتفهم بــ"استثمار" وإدارة جوهرها، وجوهرها هنا، هو قطاع واسع، أغلبية، تريد الخروج من حالة الإقصاء، لا ترى في "رامز" شخصا، بل ترى فيه نظام إقصاء، ولا ترى في "علي" شخصا، بل ترى فيه خروجا من حالة الإقصاء والتهميش. وعلى كل حال لسنا نحن من حول علي سلام إلى شخصية عامة، نائب رئيس بلدية، لأكثر من عقد كامل؛ بالعكس، نحن من حاولنا أن نقدم بديلا للمتنافسين في الانتخابات الأخيرة.
الجوهر هو أن هنالك حراكا، يحركه شعور الغضب وحس العدالة، وعلى الأحزاب أن تصب به المضمون السياسي والرؤية والمشروع. الجوهر هو رفض واقع تم به احتكار مصالح الناس اليومية من قبل جماعة محددة أصبحت تشبه فرقة دينية مغلقة، وناديا حصريا في أفضل الحالات. الجوهر هو أنه من حق المجتمع الذي أقصي عن إدارة شؤونه والرقابة عليها أن يقول كلمته.
ومن يريدنا أن ننتقد "الشارع"، ويحكم عليه، دون أن يرى جوهره هذا، سيبقى هو أيضا أسير ممارسات عنف، لم يخلقها الشارع الآن، بقدر ما خلقها نظام كامل كرسته الجبهة في الناصرة بأساليب الاستبداد، والترهيب، وشراء الذمم.
الممارسات الفردية العنيفة، الموجودة طبعا، -والنقاوة في الكتب والخيال، وفي "ميدان تحرير" اختفى عن المشهد-، سواء بإجبار الناس على الإغلاق، أو بسلوكيات أخرى، فيحولها البعض إلى "جوهر" عندما لا يرون الجوهر.
أليس هذا ما تريده الأحزاب الوطنية، التي تنتظر لحظات خروج الناس من لا مبالاتها وحيزها الخاص، إلى حيز وفعل عام؟ نفس هذه السلوكيات لو كانت في صالح الجبهة لتبنتها ودافعت عنها كأصالة جماهيرية.
كما أن "العواقب" السلبية، من حركة الشارع، ومن خطاب طائفي مرافق، ومن شعور البعض بالتهديد، هو ليس من فعل الحراك نفسه، بل هو نتاج لحقبة سابقة طويلة الأمد، زرعتها مؤسسة البلدية وذهنيتها، والخوف من "الشارع"، هو نتاج تبني خطاب سياسي شعبوي وتحريضي عنيف ضد "خصوم السلطة" خلال عقود. وما يمكن لهذا الحراك فعله، هو بالضبط أن يخلصنا من طغمة المصالح المغلقة هذه، ومن هذه النفسية التي تزرع في البلد الواحد خوفها من نفسها، وخوف بعضها من بعضها.
قيادة تحرض وتنتج ثقافة استعلاء وتحريض
ومن يتكلم عن "عنف وعربدة الجماهير"، هكذا بجرة قلم، وباستخفاف كبير بالناس، وهو في المعارضة، وفي خضم حملة انتقادات وتراجع شعبي كاسح، يبرهن لنا سهولة ممارسته لهذا الاستخفاف وهو في السلطة. والاستخفاف في الجماهير عندما تكون في السلطة يتحول لاستبداد مهين.
هذا الاستخفاف بالناس، هو نفسه الذي يقود الجبهة، إلى استخفاف بالعمل السياسي والوطني نفسه، فتحرض إحداهن بأنني لا أشارك في المظاهرات كوني لم أقرر هل سأشارك ضمن صفوف النساء أم الرجال.
وأعذرها، أنها لا تعرف أن النساء في المظاهرة الأخيرة اختلطن في الصفوف الأمامية مع الرجال، وبعضهن انفصلن وشاركن ضمن الصفوف الخلفية. أعذرها، لأنها تخجل أن تقترب من مجتمعها وترى عن قرب ما يحصل فيه من تغيرات، ليست وفق مقاييسها ربما. وأنوه هنا أنه حتى لو سارت النساء ضمن حراك سياسي منفصلات، فإنني أحترمهن وأحترم قرارهن، وأرى في مجرد مشاركتهن في مظاهرة وحراك سياسي حراكا مباركا.
وأذكر تحديدا ضمن هذا السياق، رد عضوة المكتب السياسي للتجمع عرين هواري، وأقتبسه كاملا لأهميته: "يعلمنا العمل السياسي الوطني والنسوي (إن صح الفصل بينهما) التواضع، يعلّمنا العمل السياسي أن معركة التغيير تبدأ من الموقع الذي يتواجد الناس فيه، وليس من موقع تواجدنا نحن. يعلمنا العمل النسوي أن نساء مجتمعنا لسن هن مركبتنا إلى التغيير، فعلينا ألا ندوس عليهن وعلى معتقداتهن من أجل تغيير المجتمع. يعلمنا نشاطنا السياسي والنّسوي أن نحترم خيار الناس، دون أن نتنازل عن مشروعنا للتغيير. يعلمنا أيضا أن نعمل مع الناس ولأجل كل الناس، لا أن نعمل "نحن" باستعلاء من " أجلهم" وكأنهم الآخر. هنالك مع الأسف من يعيش في الناصرة ولا يعرف سياقها ولا يعرف إحياءها، هنالك من لم يشارك بعمل سياسي أصلا فلا يعلم أن العديد من المهرجانات الشعبية في معظم قرانا العربية تجلس بها النساء منفصلة عن الرجال.
من لا يعرف فهو جاهل، ومن يعرف ولا يحترم فهو استعلائي ومن يعرف ويحترم ويحفظ لنفسه الحق في العمل من أجل مجتمع تتشارك به النساء والرجال في الحيز العام، ويمارس مشروعه بإخلاص محترما الأفراد وغير مستغل لهم فهو شريك لنا في معركة التغيير".
هذا هو نفس نمط الاستخفاف، والتحريض الذي يؤدي بالجبهة إلى تجاهل نمط سلوك بلطجي عنيف يبالغ في تقدير الشخص ومديحه إذا كان "معنا"، ويدينه ويحوله إلى شيطان إذا كان "ضدنا". ليس الناس مجرد متلقين يقال لهم عن الشخص نفسه تارة أنه عظيم، وأخرى أنه مجرد بلطجي. هذا النمط من الإملاء وإعطاء العلامات السلوكية للناس هو البلطجة وهو المدان.
وحتى هذه الساعة، وشهورا طويلة، منذ الإصرار على السير في طريق المحاكم والمتاهات، ما زالت أسماء "قيادية" من الجبهة، تتورط في العنف والتحريض. ومرة أخرى، وبشكل همجي ساخر، يحولون ارتياد المقاهي إلى عمل نضالي، بينما تتحول جلسات الغير في مقهى إلى مادة للتصوير والتحريض.
الابتعاد عن الجماهير، والاستخفاف بها، والتحريض عليها، جعلهم يغفلون أن الناس البسيطة لا تريد إغلاق المقاهي، بل تريد ارتيادها، دون أن تقتصر تلك المقاهي على النخبة، وعلى ساحات بعينها. نحن المدافعون عن الحياة، وعن الحق في الحياة الأفضل للجميع. ومن يحترم الحياة اليومية للناس وحقهم في الحياة لا يمضغ شعارات حركة 14 آذار في لبنان، هذه ليست دليلا على موقف بل على قصور في الموقف وفي معرفة الناس وحياتهم اليومية وتطلعاتهم.
دور الفعل السياسي – ترشيد الغضب والاحتجاج الشعبي
مرة أخرى، وليست الأخيرة ربما، إن من يريد تحويل "عربدات فردية" إلى جوهر حراك سياسي لبلد لا يعرف غير الخمول واللامبالاة، عليه أن يسأل، هل من النضوج السياسي بشيء، أن نتوقع من شارع، طال تهميشه، أن يتحرك حراكا ديمقراطيا كاملا دون أخطاء، وعثرات، وسلوكيات عنيفة؟ هل يخرج شارع من حالة خمول وانعدام فعل، وهو مثقف تماما ومتمرس في أدوات الحراك الديمقراطي؟ هل فعلا هذا ما تتوقعه نخب سياسية وغيرها؟ أم هي تريد التنصل من مسؤوليتها في عقلنة وترشيد هذا الشارع؟
ألا يجب أن نرى علامات النضج أيضا؟ لقد شهدت تلك النخب فيما شهدته، أن خيمة استمرت بضعة أيام، لم تسجل حالة عنف واحدة، بل وربما لجمت ونظمت حالة الغضب والانفلات الفردي؟ ألم تسجل أن مظاهرة مرت بشكل منظم، وأخرجت للشارع آلافا لم يعتادوا المظاهرات ولا التعبير عن موقف يحمل مضمونا عاما؟
من لا يرى ذلك، ولا يرى فيه سوى "علي سلام"، يهمش الناس وفعلها، ومن يضع فعل الناس وراء عنوان واحد ووحيد هو "دعم علي سلام"، يفعل فيهم ما فعلته الجبهة تماما: إنه لا يرى الناس، لا يراهم.
هدفنا، كحركة سياسية، هو ليس "التحذير" من "عواقب" حراك صحّي، ونحن لسنا لجنة أمم متحدة تأتي لمراقبة "نزاهة الانتخابات/ الفعل السياسي". فقد قدمنا البديل السياسي العربي الديمقراطي والاجتماعي غير الطائفي.
ومن يحمل مشروع تغيير في مجتمعه، وإن أخطأ، أو قصر، إلا أنه يعرف أن الواقع لا يغيره قراءة خائفة له، تبدأ بمحاذير وتنتهي بها. بل يغيره قراءة صريحة وجريئة، وخطاب يضيف بعدا عقلانيا وطنيا على غضب الناس الشرعي، وإرادتها ورغباتها بالتخلص من الاستبداد والهيمنة. بالتالي لا يقتصر دورنا كحزب سياسي على "إعطاء علامات" وشهادة "تقدير" أو "فشل" للشارع، بل على إعطاء مضمون ومعنى سياسي وطني لحراك الناس.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
كل الشكر والتقدير لانسانه مثقفه نعتز بها لان الناصره بحاجه لامثالها