شكلت قضية القدس بما تمثله من الحقوق والثوابت والمقدسات، عقدة غليظة وعقبة أساسية أمام أي حل سياسي مع دولة الاحتلال، ولكن لا نبالغ اليوم إذا قلنا أن القدس -جوهر الصراع مع الاحتلال-عرضة مع غيرها من الثوابت للتنازل والتفريط.
القدس والحراك الأميركي الدؤوب..
منذ استئناف المفاوضات في تموز 2013 تقود الولايات المتحدة حراكاً دؤوبًا عبر وزير خارجيتها جون كيري -المنطلق من اعتبارات عقائدية دينية - لإبراز ملامح حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال اتفاق إطار يتجاوز كل الخطوط الحمراء.
فالتسريبات الإعلامية والدبلوماسية المسربة إلى الآن تشير بوضوح إلى توجّه الأطراف المتفاوضة إلى توقيع اتفاق سيكون في مضمونه أسوأ من اتفاق أوسلو، فالراعي الأميركي ودولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية يرون أن الظروف أكثر من سانحة للتوقيع على اتفاق ينهي الصراع.
ومما لا شك فيه أن القدس التي طالما كانت العقبة أمام أي حلٍّ ستكون الضحية الأولى أمام أي اتفاق يبرم. فالمعلومات المسربة حول القدس تفيد بأن المدينة المقدسة عرضة لسيلٍ من التنازلات الأليمة على الشكل التالي:
أولا تقسيم "القدس الشرقية":بحسب الاتفاق ستكون حصة الفلسطينيين حوالي 50% من مساحة "القدس الشرقية"، وبمعنى آخر ستبقى المستوطنات الإسرائيلية الكبرى في شرق القدس، على أن يكون ما تبقى من المساحة مشروع عاصمة "للدولة الفلسطينية" المفترضة. علماً أن هناك نحو 29 مستوطنة داخل حدود الجدار العازل المحيط بالقدس، وتحتل هذه المستوطنات حوالي 48% من مساحة المدينة داخل الجدار (112 كلم2 من أصل 235 كلم2 هي مساحة القدس داخل الجدار).
ثانيًا: الجدار العازل حدود القدس: بحسب التسريبات سيتم تثبيت الجدار العازل كحدود نهائية للقدس، وستُعطى إسرائيل الحق بطرق آمنة بين المستوطنات، ومن هذا المنطلق سيتم استحداث نقاط أمنية إسرائيلية على جبال القدس والضفة الغربية تكون مجهزة بالإنذارات المبكرة.
ثالثًا: تدويل المسجد الأقصى: سيتم نزع الحصرية الإسلامية عن الأقصى، وتشكيل لجنة دولية (مكوّنة من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال والأردن والسعودية والسلطة الفلسطينية) للإشراف على المسجد والبلدة القديمة، مع إعطاء حق لليهود بممارسة شعائرهم الدينية داخل المسجد الأقصى.
الاحتلال وسياسة الحسم..
إن دولة الاحتلال التي أخرجت غربي القدس من دائرة التفاوض وحسمت أمرها باعتراف رسمي تدخل المفاوضات وقد فرضت واقعًا جديدًا على شرقي القدس حيث نجحت في تغيير التركيبة السكانية في شرقي القدس التي بلغت 40.7% مقابل 59.3% للفلسطينيين في عام 2010، وما زالت تتغول في بناء المستوطنات وتسارع الخطى في السيطرة على المقدسات المسيحية والإسلامية ولا سيما المسجد الأقصى المبارك والمقدسات، فضلاً عن التهجير المنهجي لأهالي القدس.
السلطة الفلسطينية وتنازلات بلا هوادة..
وفي المقابل فإن السلطة الفلسطينية وعلى مدار السنوات الماضية لم تتخذ أي خطوة جدية لوقف الاعتداءات اليومية والمتكررة على القدس والمسجد الأقصى ولم تسعى بجدية لإيقاف الاستيطان في القدس، بل على العكس من ذلك فإنهاتسعى بلا هوادة لانتزاع غطاء عربي هش لتنازلاتها، وهذا ما حصل فعلاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب في 22/12/2013. لذا فإن سلوك فريق المفاوضات الفلسطيني لا يشجعنا على حسن الظن بأدائه، وعلينا أن نقرأ في خلفيات لهاث السلطة لإنجاز الاتفاق ضمن المدة المحددة (29/4/2014) رغبة السلطة في استغلال حالة الانشغال والانقسام والخصام والضعف التي تعيشها الأمة، وهذا ما يعني بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية إمكانية تمرير هذا الاتفاق بأقل إزعاج وضجة ممكنة خاصة أنها غير قادرة على تحمل الضغوطات الأميركية ورفضها ووضع الخيارات والبدائل لمجابهتها.
القدس.. والمصير المجهول
في ضوء متابعة الأحداث والمعلومات المسربة حول القدس، نستشعر خطورة ما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات وما سيكون عليه مصير القدس خلال الفترة القادمة، خاصة أن اللاعبين الأساسيين تتقاطع رؤاهم في إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أياً كان الثمن.
ولعل هذا ما يفسر الحركة النشطة لعرّاب هذه المفاوضات جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الذي لم يبخل على الطرفين الفلسطيني بعشر زيارات(حتى 2-1-2014) تنقل فيها بين رام الله و"إسرائيل" والأردن.
فالقدس إذا تعيش أخطر مراحلها نظرًا لسرية المفاوضات، الأمر الذي يدعو للقيام بخطوات ضاغطة لمنع نزيف التنازلات بحق الثوابت وفي مقدمتها القدس، ومن هنا ينبغي على الأمتين الإسلامية والعربية تحمل مسئولياتهما، وعلى الشعب الفلسطيني رفض أطروحات كيري كونها لا تعبر عن الخيار الوطني بالداخل والخارج، وعلى الفصائل الفلسطينية التحرك بجدية لعرقلة مسار المفاوضات كونه يخالف الإجماع الفلسطيني وعدم الاكتفاء بالتنديد.
* مدير إدارة الإعلام في مؤسسة القدس الدولية
[email protected]
أضف تعليق