الفجوات، عدم المساواة، التمييز والإقصاء هي جزء من العبارات والمصطلحات الأساسية التي ستقرؤونها في أي تقرير أو بحث يتعلق بواقع المجتمع العربي في إسرائيل. إنها من "الكلمات الأساسية" (Keywords) لكل إصدار يتعلق بحالة العرب. خطر الوقوع في الفجوات يأتيك من كل جانب؛ في التعليم والتشغيل، في الإسكان والصحة، في الميزانيات والامتيازات، في الصناعة والزراعة وكل ما يخطر على البال. لكن نادرا ما تتطرق الأبحاث المتعلقة بالفجوات وانعدام المساواة إلى قطاع الهايتك وإلى الهوة التي تفصل ما بين صناعة الهايتك اليهودية وحال الهايتك في المجتمع العربي. ربما يعود هذا التجاهل إلى حقيقة بسيطة مفادها أنه من أجل الحديث عن هوة أو فجوة يُفترض وجود جانبين أو حافتين تفصل الهوة بينهما، وفي سياق الهايتك فإن "الحافة العربية" لم تكن موجودة حتى الأمس القريب لنقيس بعدها عن "الحافة اليهودية"، لذلك غاب معيار الهايتك من أدبيات أبحاث الفقر والإفقار والتمييز والتهميش التي تحفل بها رفوف مكتبات مراكز الأبحاث والجمعيات.
في يومنا هذا تعتبر إسرائيل من إمبراطورية، وتعتبر تل- أبيب وهرتسليا وحيفا من عواصم الريادة العلمية والابتكارية والتجارية في مجال الصناعات فائقة التقنية على مستوى العالم. الاستثمار الحكومي في هذا القطاع بدء من مطلع السبعينات وبلغ أوجه في التسعينات من خلال تأسيس صناديق استثمار ضخمة وتأهيل العاملين والخبراء خريجي الوحدات العسكرية العليا في الجيش الإسرائيلي وعلى رأسها وحدة الاستخبارات 8200.
الهايتك في إسرائيل
مجموع القوى البشرية الإسرائيلية العاملة في هذا قطاع الهايتك بلغ سنة 2012 أكثر من 260 الف مستخدم، أي ما نسبته 9% تقريبا من القوى العاملة، منهم 80 الف مهندس (حاسوب، كهرباء الكترونيكا). أما حصة الهايتك من الصادرات الإسرائيلية فقد بلغت 38 مليار دولار سنة 2012. سنة 2013 بلغ عدد الشركات الناشئة (ستارت-أب) في إسرائيل 5000 شركة. أما مجموع صفقات بيع الشركات (exits)لشركات الهايتك إسرائيلية فقد وصل سنة 2013 إلى 7.6 مليار دولار. وبكونها مركزا بهذا الثقل تعمل في الدولة عشرات صناديق الاستثمار على أنواعها التي تبحث عن أفكار لتسكب فيها الملايين.
الهايتك العربي ...وكتاب النوايا
في المقابل انطلق "مشوار" الهايتك العربي في إسرائيل قبل سنوات معدودة. عدد العاملين العرب حاليا في مجال الهايتك لا يتعدى الألف (سوادهم يعملون في شركات عالمية كإنتل، مايكروسوفت)، وعدد الشركات العربية أو العاملة في المجتمع العربي لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. "البوادر" هو الصندوق الاستثماري (نصف حكومي) الوحيد الذي يعمل في الهايتك العربي.
على الرغم من حداثة مشهد الهايتك العربي وهشاشته، قررت روني فلومان، محامية ومستشارة لشركات هايتك ناشئة، أن ما حصل ويحصل في هذا السياق كاف لكتابة كتاب عن الهايتك العربي في إسرائيل!اختارت الكاتبة عبارة "نوايا حسنة- هايتك عربي في إسرائيل" (כוונות טובות- היי-טק ערבי בישראל) كعنوان للكتاب. اختيار العنوان لم يكن صدفة، وهو نابع من تساؤل تطرحه الكاتبة: "ماذا سيحصل عندما، ومن منطلق نوايا حسنة والرغبة في تحسين صورة إسرائيل أمام العالم، يظهر شق صغير في الجدار الفاصل بين عالم الهايتك وبين العرب مواطنو دولة إسرائيل؟ ماذا سيحصل عندما تقوم الحكومة، جمعيات، رجال أعمال، صناديق رأسمال مخاطر ومبادرون، بتوسيع رقعة تأثير قطاع الهايتك لتشمل أيضا العرب في إسرائيل؟ كيف تبدو الحياة اليومية للعرب العاملين في مجال الهايتك الإسرائيلي، وهل يمكن للهايتك تغيير حالة العرب ومكانتهم في إسرائيل."
تنطلق روني وفي جعبتها هذه الأسئلة والتساؤلات لتسبر أغوار عالم الهايتك العربي في إسرائيل، لكنها تكتشف سريعا أن وجهة رحلتها قد تغيرت فتحولت إلى رحلة استكشاف للمجتمع العربي الذي كان بالنسبة لها عالما غريبا ومُخيفا يقوم على تصورات وتخيلات نمطية وسلبية، فتقول في مقدمة الكتاب "يُشكل العرب 20% من سكان الدولة التي أعيش فيها، وأنا لا أعرفهم. عندما سمعت أسماءً لم أعرف الفرق بين الاسم الشخصي واسم العائلة. لم أعرف كيف تبدو بيوتهم من الداخل ولم أعلم بخصوصياتهم الثقافية. لم أعرف شيئا عن أولئك الذين بدأت اشاهدهم في مطلع سنوات الألفين؛ الصيدلي في سوبر فارم، البائعة في دكان الكتب، عاملات في السوبر ماركت... لم أعرف شيئا عنهم. لا اللغة والثقافة ولا حتى الأمور الأساسية."
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، في الأول، "أهداف ربحية"، تعرض الكاتبة قصة عدد من المبادرين العرب في الهايتك وتتابع نشاطهم وجهودهم من أجل تأسيس شركاتهم الناشئة وتجنيد رأس المال المطلوب من مستثمرين ومن صناديق استثمار للانطلاق بمشروعم الكبير. أما الجزء الثاني والذي يحمل عنوان "لأهداف غير ربحية" تستعرض الكاتبة نشاط الجمعيات المدنية العاملة في المجتمع العربي لتعزيز انخراط العرب في الهايتك، وعلى رأسها جمعية "تسوفن" التي دعمت إصدار الكتاب. أما الجزء الأخير، "العربي الأول" فهو عبارة عن مجموعة من القصص "لأول عربي" يعمل في مديرا عاما لشركة هايتك، أو لأول محامي عربي يعمل في مكتب محاماة كبير في تل-أبيب، وأول مبادر عربي في مجال الهايتك وما شابه من قصص.
للوقوف أكثر على تفاصيل ومحتوى الإصدار إرتأينا لقاء فلومان وكان لنا معها اللقاء التالي.
هل يستحق الهايتك العربي في هذه المرحلة المُبكرة إصدار كتاب؟! بالنسبة للكثيرين تكفي كراسة أو حتى مقالة؟
لم اكتب هذا الكتاب لأقول أن الهايتك هو حبل الخلاص للعرب في إسرائيل وأعلم أن قطاع الهايتك العربي لا يزال في بداية الطريق، لكني أردت كتابة كتاب عن العرب في إسرائيل. أنا أفهم في الهايتك، ولكني أردت أن يكون الكتاب أوسع من مجرد إجراء مقابلات مع أشخاص. أردت أن أكتب كتابا عن الهايتك يقرأه الناس لأن الأمر مُثير، لأنهم يريدون التعرف على حياة الـ Yuppieالعربي (أي الشاب، المديني الناجح) ولكن أيضا أن أدعو اليهودي الإسرائيلي للنظر إلى حياة العرب في هذه البلاد ليحصل على صورة مختلفة عن تلك التي يعرفها ويفهم فعلا معنى أن تكون عربيا في إسرائيل من خلال منظور الهايتك.
إذا الكتاب موجه للقراء اليهودي فقط.
نعم. كتبت الكتاب للقراء اليهودي أولا، لكن العديد من العرب الذين قرأوه قالوا أنهم استمتعوا جدا بقراءته وتعلموا أشياء لم يعرفونها. أردت أن يقرأ أصدقائي الكتاب ليغيروا نظرتهم عن العرب في إسرائيل وليعيدو التفكير في تعاملهم مع العرب ومع سؤال توزيع الموارد بين سكان البلاد، ولكي يصبح أسهل بالنسبة لهم الاستثمار في الهايتك العربي أو التبرع لمؤسسات وجمعيات مثل تسوفين.
تذكرين في الكتاب أنك وقبل دخولك إلى الناصرة كنت تشعرين بالخوف من المكان الجديد الذي تدخلين اليه. هل زال الخوف لاحقا وماذا "اكتشفت" عن المجتمع العربي عامة وعن قطاع الهايتك خاصة؟
خوفي في البداية كان طبيعيا لكل شخص يدخل إلى عالم لا يعرفه. وأقول بصراحة، الطيبة تبعد عن بيتي عشرة دقائق سفر ولكن بيني وبينها يوجد سور متخيل يحجب عني رؤية ما يوجد هناك. لكن هذا الخوف زال سريعا جدا. أنا أعمل في مجال الهايتك منذ عشرين عاما، دخلت المجال سنة 94 عندما كان الهايتك الإسرائيلي في بدايته، كان متطورا من الناحية التكنولوجية لكنه ساذجا وبسيطا فيما يخص جوانب التسويق والإدارة وتجنيد الأموال. أعتقد أن الهايتك العربي في إسرائيل موجود الآن في نفس المكان الذي كان فيه الهايتك الإسرائيلي اليهودي سنة 94. مثلا، عدم وجود مصادر معلومات كافية للمبادرين العرب حول صناديق الاستثمار وكيفية بناء شركة ناشئة وما شابه يؤدي إلى حرمان الكثيرين من الاستفادة من الموارد الموجودة، على عكس الحال في الوسط اليهودي حيث توجد منظومة متكاملة (EcoSystem) تدعم المبادرين وأصحاب الأفكار. اليوم هناك مصادر معلومات كبيرة وثرية جدا جدا ومعرفة متراكمة وعلاقات شخصية تساعد الشاب اليهودي الذي يختار طريق الهايتك، وفي الهايتك العربي هذا غير موجود.
أطلقت على الكتاب اسم "نوايا حسنة"، نوايا من، ولماذا أنت متأكدة أنها فعلا حسنة؟
أعتقد أن نوايا الحكومة (لتطوير الهايتك العربي) هي نوايا حسنة، وأن لجمعيات مثل تسوفن، التي أحبها جدا، يوجد نوايا حسنة، ولـ "معا تك" وشركة سيسكو، وديوان رئيس الدولة، وما شابه، لكن كل ذلك موجه نحو فتات صغيرة من الكعكة، ليس حتى قطعة من الكعكة، بل فتات، أي العرب العاملين في الهايتك، وهم أقلية قليلة جدا. لكن ماذا عن البقية. النوايا الحسنة هي بخصوص الهايتك ولا يوجد تفكير في مليون أمر آخر مهم للمواطنين العرب.
لكن ما وراء النوايا الحسنة، وعمل بعض المشاريع العينية هنا وهناك، الحكومة لا تقوم بأي برنامج على مستوى قطري أو شعبي، مثل تأسيس كلية تعليم هايتك في بلدة عربية أو تأهيل نساء عربيات للعمل في مجال رقابة الجودة (QA) كما حدث مع النساء اليهوديات. لكن ذلك لا يحصل. ما رأيك؟
(ضاحكة) اعتقد توقعاتك من حكومة إسرائيل كبيرة أكثر من اللازم. لكن أعتقد أن الحكومة أحيانا لا تعرف ماذا يجب عمله، وهناك أهمية كبيرة للجمعيات والمؤسسات، مثل صندوق إبراهيم وتسوفن وغيرها، لتوجيه عمل الحكومة لتغيير الوضع.
[email protected]
أضف تعليق