عقد مركز اللقاء للدراسات الدينية والتراثية في الارض المقدسة، دورته الواحدة والعشرين من مؤتمر اللاهوت والكنيسة المحلية في الارض المقدسة، بعنوان "على خطى التراث العربي المسيحي في فلسطين"، أيام الجمعة- الأحد بتاريخ 10-12/1/2014 في فندق ساحة المهد في مدينة بيت لحم، بحضور العشرات من رجال الدين والمثقفين والأكاديميين من مناطق بيت لحم والجليل والساحل.

وكأني بهذا المؤتمر الذي جاء في هذا الوقت بالذات، انما جاء ليتصدى – مع أن هذا لم يكن هدفه- لدعوات مشبوهة وتحركات مريبة، لتجنيد الشباب المسيحي العربي من مواطني دولة اسرائيل، في جيش الاحتلال والعدوان الاسرائيلي، ودعوات خبيثة أخرى تدعو لسن قوانين في الكنيست الاسرائيلي تمنح امتيازات خاصة للمسيحيين، بعد تسجيل قوميتهم على أنها "مسيحية" في بطاقات الهوية الاسرائيلية التي يحملونها بحكم كونهم مواطنين اسرائيليين. وتلك التحركات والدعوات المستهجنة، تأتي لفصل المسيحيين العرب عن سائر اخوتهم وأبناء شعبهم وقوميتهم من المواطنين العرب وخاصة المسلمين، بعدما جرى فصل الدروز في خمسينات القرن الماضي.

لكن هذا المؤتمر الذي جاء غنيا بمضمونه، من محاضرات ومداخلات وكلمات ناتجة عن دراسات وأبحاث عميقة وتفكير مطول، شارك فيها رجال دين مسيحيين ومثقفين وأكاديميين من المسيحيين العرب في الديار المقدسة سواء الذين يعيشون تحت الاحتلال الاسرائيلي في منطقة القدس وبيت لحم، أو تحت الحكم الاسرائيلي في الجليل والساحل والكرمل، شكل مخططا كاملا في الكشف عن معلومات قيمة لم تكن متوفرة للمشاركين في المؤتمر بشكل متكامل. كشفت المحاضرات وأكدت دور المسيحيين الأوائل في الشرق، في بناء وترسيخ التراث العربي المسيحي خاصة، وبالتالي ومن خلال ذلك مساهمتهم الريادية في بناء التراث العربي عامة، لأن التراث المسيحي لم يكن منفصلا عن زمانه ومكانه.

إن كثيرا من الأسماء التي وردت في مناهج الأدب العربي التي درسناها في المرحلة الثانوية خاصة، تبين أنها مسيحية ولم نعرف ذلك كما لم يشر الى ذلك أحد خلال دراستنا، ولم يأبه أحد –آنذاك- بالسؤال عن ديانة قس بن ساعدة الأيادي أو الأخطل أو عمرو بن كلثوم أو الطبراني وسليمان الغزي وغيرهم الكثير، من الكتاب والشعراء والفلاسفة والمترجمين والأطباء وغيرهم. على عكس ما لاقيناه عندما تحول بعضنا الى معلمين، فكان أول سؤال يسمعه من طلابه – للأسف- عندما يدرس مادة أدبية ما هي ديانة الكاتب أو الشاعر! ونتجت عن ذلك فكرة خاطئة حملناها سنوات طويلة، بأن الأدب العربي أو الحضارة العربية التي ندرسها هي من وضع ومساهمة المسلمين فقط، خاصة وأن تسمية الحضارة أو التراث العربي كانت تسمى الحضارة الاسلامية، وربما يضاف اليها على خجل كلمة "العربية".

بل اكتشفنا من خلال المؤتمر أن الأسماء التي يحملها أبناؤنا وتعتبر اليوم "اسلامية"، انما كانت أسماء عربية مسيحية واسلامية على حد سواء، وأطلقها المسيحيون على أبنائهم بشكل طبيعي وعادي في تلك العصور، على عكس ما يحدث اليوم حيث يستهجن غالبية المسيحيين، أن يطلق اسم عمر أو حسن أو علي أو حسين على مولود مسيحي، لأنهم تبنوا الأسماء الغربية التي لا تربطنا بها أي رابطة، باستثناء الرابط الديني فحمل المواليد المسيحيون أسماء القديسين، مما ساهم في التباعد بين المسلمين والمسيحيين وكل هذا نتيجة الجهل وعدم المعرفة. فاكتشفنا على سبيل المثال أن المؤرخ المعروف ابراهيم الطبراني لم يكن مسيحيا فحسب بل راهبا أيضا، بل أن الشاعر سليمان الغزي لم يكن مسيحيا أيضا انما أسقفا واسمه الثلاثي سليمان حسن الغزي، أي أن والده كان يدعى حسن ولم يغير أو يبدل هذا الاسم. فلماذا يستغرب ويستهجن بعض المسيحيين أن يسمي أحدهم ابنه عمر أو حسن أو حتى محمد كما فعل الأديب اللبناني مارون عبود؟

ان ذاك الجهل يتحمل مسؤوليته واضعو المنهاج، أو القائمين والمسؤولين عن المناهج التعليمية سواء في اسرائيل أو السلطة الوطنية، الذي تجاهلوا التراث المسيحي ودوره الايجابي والفعال في هذا التراث العظيم، وان كنا نفهم وندرك لماذا يفعل الاسرائيليون ذلك، لا يمكننا تفهم أو ايجاد العذر للسلطة الفلسطينية على هذا التجاهل الفظيع لدور المسيحيين في بناء الحضارة العربية. ومن هنا جاءت الدعوات والتوصيات الصادرة عن أعمال المؤتمر الى تعزيز المناهج التعليمية بهذا التراث المشترك، وتأكيد دور المسيحيين، وهذا مطلوب اليوم على ضوء الدعوات المشبوهة التي تتواتر في الفترة الأخيرة، وعلى ضوء التجاهل المتعمد. فلم يعد اليوم بالامكان السكوت على هذا التجاهل الصارخ، وبالتالي تجهيل أبنائنا الذين يجب أن يعرفوا المعلومات الصحيحة، ومن المعيب في عصر التطور العلمي أن يتعلم أبناؤنا أنصاف الحقائق وأن يتلقوا معلومات خاطئة ومشوهة. وهدف آخر هام يستدعي تدريس التراث العربي المسيحي، هو تجذير المعلومات خاصة لدى الطلاب المسلمين بدور اخوتهم المسيحيين الذين يشاركونهم مقاعد الدراسة وهموم الحياة اليومية، بأنهم أبناء هذه البلاد والحضارة وليسوا مستوردين أو تابعين للغرب، فان كانت الديانة المسيحية منتشرة في الغرب هذا لا يعني أن المسيحيين في الشرق هم غربيون، كما أن انتشار الاسلام في البلاد الفارسية والأعجمية لا يعني أن الطلاب المسلمين أعاجم، فالرابط القومي الذي يجمع بيننا مسلمين ومسيحيين يبقى الرابط الوحيد الذي يربط أبناء الأمة والشعب الواحد، والذي يضم وحدة اللغة ووحدة التاريخ ووحدة الأرض.

ولهذا فان الدعوة الى تدريس هذه المادة في السنوات القريبة ونقلها لطلابنا من خلال نشاطات لا منهجية مدروسة ومجدولة، الى أن يتم ادخالها الى المناهج التعليمية بعد حملات الضغط وبعد أن تقوم لجنة خاصة على اعداد منهاج مشترك للتراث العربي بجناحيه المسلم والمسيحي، وترجمة تلك الدعوة من قبل مركز اللقاء، الى مبادرة عملية أعلن عنها مدير المركز الدكتور جريس خوري في تلخيصه لأعمال المؤتمر، بتبني مخطط توعية وارشاد بالتراث العربي المسيحي في المدارس الأهلية، من خلال ساعات لا منهجية يقوم بتقديمها تربوي مهيأ. إن هذه الخطوة تعتبر خطوة عملية أولى على الطريق، وتستدعي موافقة المسؤولين عن المدارس الأهلية وهو أمر ليس بصعب، ويجب الشروع بتنفيذها من العام الدراسي المقبل، لتشكل الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]