عندما رأيته كان يبتسم ابتسامة عريضة ملئ وجهه.. قلت له: "هل يمكنني أن أرافقك مرة" قال: "عليك أن تستيقظ في الثالثة صباحا وأن تأتي الى "الحظيرة".

هذه المحادثة دارت بيني وبين راعي أغنام صادفته اثناء ركوبي على الدراجة قبل سنوات في سهل البطوف بجانب قرية عرب الهيب في شمال فلسطين، وقد كانت الساعة السادسة صباحا، حيث كانت اول مرة اقابله فيها، ما اثارني في حينه انه كان يبتسم وكان مسرورا جدا اكثر مني.. مع اني كنت امارس هواية احبها وهو يعمل في عمل يبدو لي قاسيا.. وانا كنت احمل نفسي على الدراجة واحمل معها هموما اخرى ربما كانت اثقل من وزني في حينه.. اما هو فكانت ابتسامته مشرقة وحركته خفيفة ورشيقة ويبدو من ملامحه أنه تجاوز الستين. ما الفرق بيني بينه؟ هذا السؤال رافقني كثيرا ولم يغب عني حتى اهتديت أخيرا الى الجواب.

ان احدى أهم التحديات التي تواجه الإنسان في العصر الحديث والتي لها أثرا كبيرا جدا على رفاهيته وسعادته هي تنظيم الوقت! وذلك لأن الارتفاع في مستوى المعيشة زاد من المجالات والخيارات المعروضة أمامنا.. وأيضا ازدادت الملهيات التي قد تلهينا عن هذه الخيارات.. لذلك يجب على كل فرد ان يتعلم كيف يحدد ما هو المهم والأهم وكيف ينظم وقته.

في الماضي كانوا يعانون من قلة الاحتمالات فكان مسار الإنسان في الحياة محصورا في عدد معين من المجالات والخيارات، فربما كان التخطيط في حينه نوعا من الترف الذي لا طائل منه. في الحاضر "نعاني" من كثرة المجالات والاحتمالات في حياتنا فأصبح التخطيط الزاميا حتى نعرف متى نقول "نعم" ومتى نقول "لا" وحتى لا نتشتت لأن التركيز جزء أساسي من النجاح..

في الخمسين سنة الأخيرة ازدادت الالتزامات والشواغل في حياتنا فنمط حياتنا يحتم علينا أن نهتم بصحتنا ونمارس الرياضة ونخصص لها الوقت الكافي. وكثير منا يعمل ساعات إضافية ويطمح إلى الترقي في السلم الوظيفي أو أن تكون له مصلحته الخاصة. وأصبح من المستحيل أن نطرق أي باب من أبواب الحياة دون أن نكون قد حصلنا لقبا جامعيا، فالتعليم أصبح جزءا من حياتنا، ومسيرة التعليم تستمر سنوات وسنوات. وهنالك واجبنا تجاه المجتمع، فهنالك العمل التطوعي والنشاط السياسي والوطني ومساعدة الآخرين الذي يجب علينا أن نخصص له الوقت الكافي.

وهنالك الزواج والاستعداد له ومتطلباته التي تزداد يوما بعد يوم، وهنالك الأبناء وقضاء الأوقات معهم. وأموالنا أصبحنا نحتاج الى ساعات لنديرها، فهنالك إدارة ميزانية المنزل ودفع الفواتير والتوفير. وماذا عن أنفسنا؟ إن لم نجد الوقت الكافي لتحسين قدراتنا ومهارتنا وثقافتنا من طريق القراءة والمطالعة ودورات الاستكمال فلن يكون بمقدورنا مواكبة المستجدات في هذا العصر. وأصدقاؤنا لا بد أن نقضي معهم أوقاتا حميمة لتبقى علاقتنا حميمة والعائلة! الأب والأم والأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة وصلة الرحم كلها واجبات تحتاج إلى أن نخصص لها الوقت. وماذا عن واجبنا الديني؟ الصلاة والعبادات والنوافل والتقرب إلى الله. وبعد هذا كله يجب أن يبقى لنا الوقت الكافي للرحلات والمرح.

هذا ما كان في صعيد الالتزامات، والصورة تزداد سوءا وتجعلنا نشعر بالدوار عندما نعلم أن الملهيات التي تلتهم أوقاتنا قد ازدادت أيضا في الخمسين سنة الأخيرة. نحن نقضي بالمعدل 3 ساعات في اليوم امام التلفزيون وحدث ولا حرج عن الإنترنت والفيسبوك والتويتر واليوتيوب والشبكات الاجتماعية وألعاب الحاسوب، فالشركات تستثمر أموالا جمة في الدعاية كي ننفق أوقاتنا وأموالنا فيما لا حاجة بنا إليه.

الالتزامات ازدادت.. والملهيات عظمت وبقي الوقت كما هو، وبقي اليوم أربعة وعشرين ساعة والأسبوع سبعة أيام والسنة اثني عشر شهرا.
انا لا اقول ان الحياة في الماضي كانت أفضل من حياتنا، الأمر يتعلق بالتوجه والقناعات التي تتعامل بها مع الحياة العصرية، فاذا تعاملت مع الحياة العصرية بالتوجه والقناعات الصحيحة فستكون الحياة العصرية أفضل بكثير من الحياة في الماضي، والا فإن حياة الماضي أفضل من الحياة العصرية.

المشكلة الأساسية التي تسبب الكثير من الألم في الحياة العصرية هي كيف نتعامل مع كثرة الخيارات المطروحة في عصرنا، هل نتعامل معها بعقلية "التنازل" أم بعقلية "الاختيار"، الذي يتعامل بعقلية الاختيار يرى أن الوقت محدود في هذه الحياة وأنه ليس بإمكانه تحصيل كل شيء، فهو انسان واقعي يرى أنه يجب عليه أن يختار الأفضل له من بين الخيارات المطروحة أمامه في حدود الإمكانات المتوفرة له، اما الذي يتعامل بعقلية التنازل فهو يرفض الحقيقة ان الوقت محدود، ويرفض أيضا أن مقدراته محدودة ويريد أن يحصل كل شيء، ويبقى الواقع أقوى من الأوهام مما يضطره الى أن يتنازل عن كثير من الأشياء.

الحياة مليئة بالفرص والخيارات.. ولن تسطيع أن تحصلها كلها.. لكن لا تتعامل بعقلية "التنازل"، فتحكم على نفسك بالتعاسة، لأن "التنازل" يوحي بالقهر والهزيمة.. ولكن تعامل بعقلية "الاختيار"، فتمنح نفسك السعادة، لأن "الاختيار" يوحي بالقدرة والسيطرة.

قد يكون هنالك شخصان لهما نفس المسار في الحياة، الأول حدد مساره اختيارا فهو سعيد والثاني حدد مساره قهرا وتنازلا فهو تعيس.
لا يمكن أن تحصل كل شيء في الحياة.. وبدل ان تكون حياتك عبارة عن مجموعة من الاختيارات فتعيش سعيدا، تكون مجموعة من التنازلات فتعيش تعيسا.. التفكير بأنك تتنازل يلقي بظلال سليبة على مشاعرك.. والتفكير بأنك تختار يلقي بظلال ايجابية على مشاعرك.. عليك ان تختار اما أن تكون حياتك عبارة عن مجموعة من الخيارات أو مجموع من التنازلات.

الواقعية تقتضي أن تختار ما هو افضل لك في الحاضر في حدود الإمكانيات المتوفرة لك. والطموح يقتضي أن توسع حدود الإمكانيات المتوفرة لك في المستقبل ليكون الأفضل لك في المستقبل أفضل مما اخترته في الحاضر.

لكن يجب أن ننتبه أن كثرة الخيارات في حياتنا تأخذ منا جهدا ووقتا وطاقة كنا نستطيع أن نستغلها في مهام وقضايا أخرى.. فالبحث المتواصل عن أفضل خيار في كل جزئية صغيرة كانت أم كبيرة قادر على أن يبلع وقتك وطاقتك.. وفجأة ينتهي العمر وأنت ما زلت تبحث عن الأفضل... في كثير من الأحيان البساطة والعفوية والقناعة تحفظ علينا أموالنا ووقتنا وطاقتنا..

أفضل امتحان لتعرف انك واقعي وعندك قناعة هو أن تراقب نفسك لمدة شهر ومن ثم تسجل عدد المرات التي قلت فيها كلمة "تنازلت" وكلمة "اخترت" وعدد المرات التي شعرت فيها أنك "تنازلت" وعدد المرات التي شعرت فيها أنك "اخترت" اذا كنت واقعيا عندها ستعرف أنك لن تستطيع أن تحصل كل شيء في الدنيا.. وإذا كنت قنوعا فستعلم أنك ستختار ما هو أفضل لك من بين الاحتمالات المعروضة.. أما اذا كانت حالما فستظن أن باستطاعتك الحصول على كل شيء.. واذا لم تكن قنوعا فسينتابك شعور سيء جدا أنك تنازلت عن امور كثيرة.

لا يوجد شيء في هذه الدنيا بدون ثمن.. ودورك في الحياة هو أن تعرف التكلفة والفائدة من كل اختيار.. لتقرر ان كانت هنالك جدوى من هذا الاختيار.. وهذه العملية صعبة جدا وتحتاج الى جهد وعلم.. ومع توفرهما من الممكن ان نقع أيضا في سوء تقدير.. فيلجأ الكثيرون الى العادات والتقاليد والأشياء المتبعة كسلا وخوفا.. هنا يمكن اعتبار الكسل والخوف والجهل أعداء أي نهضة.

قبل أن نمنح الناس الحرية ونوفر لهم الكثير من الخيارات يجب أن نثقفهم ونعلمهم.. لأن كثرة الخيارات تجعل من عملية الاختيار مجهدة ومكلفة من ناحية الوقت والفكر والمال فإذا وجد الجهل والكسل مع كثرة الخيارات اختار الإنسان طريقه بشكل عشوائي.. وهنا تصبح الدكتاتورية والعبودية أفضل له من الحرية. ولتتذكر أن حريتك ليست أن تعيش بلا حدود!!.. بل في اختيار الحدود التي تعيش ضمنها!!.

وفي علاقتنا مع الآخرين يجب أن نتوخى الحذر في الحكم على اختياراتهم فما هو افضل لنا ليس بالضرورة هو الأفضل لهم، وايضا الإمكانيات المتوفرة لنا هي ليست نفس الإمكانيات المتوفرة لهم، لذلك كنت دائما أقول:
"لا تحكم على اختياري قبل أن تعرف خياراتي"

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]