بإجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، تكون مصر قد طوت صفحة الحكم الإخواني، نهائيا، ولم يعد من اية امكانية، ولا من أي نوع، للعودة الى الوراء، لا الى العهد القريب ولا البعيد، لا الى عهد مرسي العياط ولا الى عهد الخلافة العثمانية، فقد طوى الاستفتاء صفحة الإخوان، الذين وقفوا ضد خارطة المستقبل، وأصروا على معارضة رغبة أغلبية الشعب المصري، التي عبرت عنها الملايين التي خرجت يوم الثلاثين من يونيو/ حزيران ويوم 26 من يوليو/ تموز الذي تلاه من العام الماضي، والتي قالت بوضوح انها تريد الذهاب الى المستقبل وان ثورة 25 يناير انما كانت ضد الاستبداد بكل أشكاله، وانها كانت ثورة لتحرير الشعب المصري من القيود التي كانت تكبله سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا، وأنه لا يريد تغيير الوجوه وحسب، ولا التوقف في منتصف الطريق، ولا حتى متابعة وهم "العودة الى الماضي" غير الممكنة، بل الذهاب الى المستقبل، بكل آفاقه ورحابته، وانه يريد الانضمام الى العصر الحديث بكل معنى الكلمة.

ولأن استحقاقات الثورة الحديثة والمعاصرة، ثورة الحرية والديموقراطية، الثورة التي تضع الناس في دائرة القرن الحادي والعشرين، غير ممكنة التحقق لا في ظل قيادة الاخوان ولا أي حزب أو تنظيم سلفي، بل إن وجود مثل هؤلاء، يمكن أن يعرقل الانطلاقة الى الأمام، كان منطقيا جدا ان تذهب الأمور، الى ما ذهبت اليه، فما كان يمكن للإخوان ان يتجاوزوا إرثهم من العمل تحت الأرض، ومن العيش في الوهم، ومن التخلف عن العصر، وما كان يمكن لأحد ان يمنع صيرورة الحياة، ولا ان يكون بمقدوره ان يعاند معادلة التطور الاجتماعي الطبيعية، وقد أثبت التاريخ دائما ان كل من يقف في وجه التحولات التاريخية، لا بد ان يخسر وان ينكسر، وفي النهاية أن يظفر بالهزيمة.

طوال ستة أشهر، كان الصراع بين حركة الحياة الطبيعية، حركة المستقبل والتطور، وحركة الثبات والتخلف والركود، صراعا على دفع القاطرة من قبل أركان النظام الانتقالي في مصر، المؤتلف من الأغلبية الشعبية، الجيش، مؤسسات الدولة ( قضاء، امن داخلي وشرطة، وإعلام..) ووقفها من قبل جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم الذين، ظلوا في حالة تناقص، مع كل يوم تحقق فيه مصر تقدمها، وقد حاول الإخوان، منذ اول يوم على إقالة مرسي العياط، ان يشكلوا تحالف الدفاع عما سموّه الشرعية، ولكن مع الوقت وجدوا انفسهم وحدهم، ثم مع اعتقال قياداتهم، تزايدت دائرة لفظهم، حتى شملت أغلبية الشعب المصري، التي انتقلت مع الوقت من تأييد عزل نظام حكم الإخوان الى المشاركة في التصدي لما تبقى من خيوطه، ومن محاولة إعادته مجددا، حتى كانت مناسبة الاستفتاء اللحظة الأشد وضوحا، نظراً لكونها لحظة حاسمة، تعني الانتقال بالنظام الانتقالي من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية، وان ثورة 30 يونيو قد أنجزت أول وأهم بند في خارطة الطريق التي وضعتها منذ ستة شهور مضت، وأن الأمور تسير على خير ما يرام باتجاه استكمال هذه الخارطة، حتى تتم عملية إقامة كل مكونات النظام الجديد، خلال هذا العام 2014، وتحقيق الاستقرار، بانتهاء المرحلة الانتقالية التي طالت، وما زالت مستمرة منذ إسقاط نظام حكم حسني مبارك في 18 شباط من العام 2011.

بعد نزول أكثر من ثلاثين مليون مواطن مصري في مناسبتين : 30 يونيو، و26 يوليو الماضيين، فقد تجاوزت نسبة المشاركين في الاستفتاء الـ 50% بينما لم تتجاوز نسبة من شاركوا في استفتاء العام الماضي الذي أجراه الإخوان 33% فقط، ولكنها تعني بوضوح وبالتعداد أن أغلبية واضحة بالنظر الى تجاوز نسبة التأييد الـ 95% أن أكثر من نصف الشعب المصري مشارك في تنفيذ خارطة الطريق، والنظر الى ان المشاركة في الاستفتاءات والتي عادة ما تكون أقل عددا، نظرا لعدم كونها معركة انتخابية، مثل انتخابات مجلس الشعب او الرئاسة، فان نسبة المشاركة والتأييد تظهر حجم الالتفاف الشعبي المصري حول خارطة الطريق والنظام الانتقالي، بالقدر نفسه حجم المعارضة للإخوان، والمستوى الذي وصل إليه المجتمع المصري في كراهيته لهم ولفظهم من صفوفه !

ولعل إطلالة سريعة على بعض التعديلات الدستورية المقرة في هذا الدستور، وبسبب من إشراك كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي المصري في لجنة الخمسين التي عملت بمهنية ووطنية واضحة، على عكس لجنة الإخوان العام الماضي التي تشكلت من أغلبية "إسلامية" من الإخوان والسلفيين أعضاء مجلس الشعب المعطل، توضح كيف ان ثورتي 25 يناير و30 يونيو قد حققتا اهدافهما في بنود الدستور، من خلال تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية والتي كانت سببا في "فرعنة" الرئيس، أيا تكن ميوله واستعداداته الشخصية، حيث تم تثبيت البند الخاص بقصر ترشحه على ولايتين متتاليتين، ومن خلال بند ينص على حق مجلس الشعب بعزل الرئيس بأغلبية ثلثي أعضائه والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، كذلك منح رئيس الوزراء صلاحيات واسعة، ثم اشتراط ممارسة الرئيس لحقه في اعفاء رئيس الوزراء من منصبه موافقة أغلبية اعضاء مجلس الشعب، كما تم إلغاء مجلس الشورى وكان أداة مبارك في مواجهة مجلس الشعب، وقد نص الدستور الجديد على حق المرأة - لأول مرة - في الهيئات القضائية، كما حظر الدستور إقامة الأحزاب على أساس ديني، ومنح المرأة حق التمثيل دون تمييز في الهيئات القضائية وضمان تمثيلها تمثيلا مناسبا في الهيئات البرلمانية، كما تضمن نصا على تحريم التعذيب وعدم إسقاطه بالتقادم.

باختصار، يمكن القول ان مصر قد حققت أهداف ثورتي 25 يناير و30 يونيو في إقامة نظام حكم ديموقراطي وعصري، وإنها قد فتحت الباب واسعا لتذهب الى المستقبل بثبات وثقة، بإقامة نظام حكم متوازن يمنع إقامة نظام حكم فرد أو حزب مستبد، وما كان يمكنها أن تفعل ذلك، إلا بمواجهة شجاعة وصريحة لجماعات التطرف السياسي بمحاربة "الإرهاب السياسي" ومن خلال اعتماد نهج الثورة المستمرة والحراك الشعبي الدائم، الذي استمر بضغطه ورقابته طوال ثلاث سنوات متواصلة، وحيث إن مصر تمثل العمود الفقري للعرب، فإن ما حققته من إنجاز تاريخي سرعان ما سينعكس إيجابا على العالم العربي بأسره، وما على العرب إلا أن يسيروا على الطريقة المصرية، بلفظ ومواجهة جماعات التطرف والتخلف السياسي، للدخول بقوة إلى عالم القرن الحادي والعشرين والتحرر من الاستلاب والتبعية للخارج بغربه وشرقه!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]