يثيرني أن يتحول هذا الاسم محطا للسخرية. يستفزني السؤال: دخلك عمي، أيا لغة بحكي شعب الناصرة بالله؟! هي ربما ليست التسمية الأكثر دقة، هي بالتأكيد لا تستوفي الشروط الأكاديمية لتعريف شعب، لكنها التسمية التي اختارها بتلقائية، أهلنا لأنفسهم. ولا، ليست المسألة شأن أبناء مدينة البشارة دون سواهم. إنها شأننا نحن أيضا، أبناء القرى العزلاء المنسية، الذين أبقتنا النكبة هنا ريشة في مهب الريح، فإذ بصوت يؤذن بنا منبعثا من الناصرة: حيّ على الكفاح، فانتمينا حبا وطواعية إلى هذا البلد، إلى قيادته وإلى الحلم الذي فيه.
صحيح، الناصرة تعثرت. تتعثر. وهي ليست بذاك المقدار من الاستثنائية الذي يحب بعضنا أن يتخيله، لكنها تظل مدينتنا، تظل –ورغم الوعكات والهفوات وضربات ذوي القربى- المدينة التي نريد عندما تكبر بلداتنا أن تصبح مثلها.
فقط من يجهل تاريخ هذه المدينة، معناها ومكانتها بالنسبة للجماهير العربية يتجرأ على رفع الصوت ضد تدخل من ليسوا أبناءها بشؤونها. ببساطة، لأنهم أبناؤها، أليست هذه المدينة هي جمل المحامل التي حملت أكثر مما تطيق بكثير من هموم أبناء جاراتها المهجرة؟ أليست هي التي رفعت رأسنا في أيار 58، وألم تكن مصدر الشرارة التي اندلعت في بطوف يوم الأرض؟ أليست إلى اليوم مهدا للحراك السياسي والثقافي بين جماهيرنا العربية؟
إذا، فبأي حق يشتم رئيس بلديتها المؤقت، أبناءها من قياديي الجماهير العربية، بحجة أن لا شأن لهم بما قرره "شعب الناصرة"؟! بل ويواصل "والوسط العربي والعالم كله"؟!
ولنفترض أن هذا الرجل القافز إلينا من مسلسل باب الحارة وعقليته، صادق بما يقول ويفكر به، كيف يرسل بعد يومين اثنين فقط، صبيته ممن يسمون أنفسهم بـ"الحراك الشبابي" منتحلين هذا الاسم الذي لم يجرؤ أصحابه للأسف على مجرد الدفاع عنه ولو من باب رفع العتب، كيف يرسلهم إلى طلب المدد والعون من قياديين آخرين؟ ستة منهم ليسوا من سكان المدينة وواحد على الأقل لا ينتمي إلى مدرسة هذه المدينة الكفاحية، إذ يمثّل حزبا صهيونيا؟
إنها ليست الصدفة، وإنه ليس إلا واحدا من التناقضات الكثيرة التي لو كان صاحبها يحمل حبة من الصدق لأغمي عليه، لكن علي سلام وتجمع حلفائه ومموليه ليسوا في هذا الوارد!
تجمع حلفاء علي سلام، كاد يحدث أزمة باللحوم واللبن والأرز، احتفالا بنصر الـ 23 صوتا وأسموه بالنصر الكبير مهللين مصفقين "شعب الناصرة، الوسط العربي والعالم كله قرر" ودعوا "الجامعة العبرية في تل أبيب"(!) إلى تدريسه وعندما طالبت الجبهة بالتروي إلى أن يتبين الأمر القضائي، قال من قال: "الجبهة عنجهية ولأنها كذلك لا تستوعب الخسارة!" وعندما توجهنا إلى القضاء قالوا هذه وشاية، واليوم، عندما بات واضحا بأن الكفة باتت تميل لصالح الجبهة صاروا يطالبون بانتخابات جديدة. يعيبون علينا التوجه إلى القضاء ويحللون لأنفسهم التوجه لوزير الداخلية الناضح عنصرية. يعيبون علينا الاحتكام إلى أصوات محدودي الحركة ويذدنبون لمبادرة عضو الكنيست العربي من الحزب الصهيوني..
الحقيقة هي أن تصرف "التجمع" و"الموحدة" محليا وقطريا كان معيبا إلى حد كبير. الحزبان تنازلا عن حضورهما السياسي في المدينة ثمنا لاسقاط الجبهة، وهذا حقهما المشروع، ومن حقهما أيضا أن يتجاهلا سقوطهما المدوي الرهيب ويصدرا المواعظ على الجبهة "راجعوا حالكم" لكن السقوط الحقيقي يكون عندما ترى قائدا وطنيا لا يشق له غبار مثل رامز جرايسي، كان طيلة عشرين عاما رئيس بلدية مخلص متفان، تواصل بمهنية ومصداقية مع كافة التيارات السياسية حتى حظي في السنوات الخمس الأخيرة وبالاجماع بثقة رؤساء السلطات المحلية العربية ليرأس لجنتهم وها هو يتعرض اليوم للتهديد الجدي بالقتل، وتقذف منازل رفاقه بالنار وتملأون أفواهكم أسابيع طويلة بالماء ولا تنطقون بكلمة واحدة، إلا للتقليل من خطورة الأمر فمرة تتهم الجبهة بافتعال الأمر ومرة أخرى توازى عملية إطلاق النار بكلمة عابرة على موقع للتواصل الاجتماعي ومن ثم تنطقون كفرا عند وشوك تغيير المعادلة.. ولمن تابع تصريحات بعضكم أن يتخيل بأن الحديث يدور عن طاغوت لا عن سياسي أعيد انتخابه مرة تلو المرة بانتخابات نزيهة!
على أي حال، التفاصيل كثيرة وستفصح عنها الأيام، لكن المعطى الأهم حتى الآن بنظري هو أن الناصرة كان بامكانها ألا تقع في هذه المحنة أصلا لولا ما قام به أحد سياسييها الصغار، انتهازييها الكبار من تقديم شهادة زور أمام لجنة الانتخابات لتلغي صندوق محدودي الحركة بشكل غير قانوني. هذا المحتال، صار نائبا لرئيس البلدية، ولم يقبل أن يؤجل انتخابه إلى ما بعد استنفاد المسار القانوني. هذا النائب صار يريد انتخابات أخرى في الناصرة بعدما اكتشف أن الكفة بدأت تميل لصالح الجبهة. كل هذا بادعاء أن الانتخابات مشبوهة. كل هذا دون أن يجرؤ ويطالب رئيسه بالاستقالة وهو الشرط الأول لاعادة الانتخابات، أو على الأقل بأن يستقيل لوحده إذ كيف تقبل أن تكون نائبا لرئيس انتخب بشكل أنت تشكك بمصادقيته؟
ولماذا يريدون انتخابات؟ لأن أجواء البلد متوترة، وكأن الخوض بانتخابات أخرى لأسابيع أخرى لن يوتر الأجواء أكثر!
هذا هو الوقت لنقول: في الناصرة الدنيا لا تمطر توترا، هنالك من عمل على خلق حالة التوتر هذه، وهو ذكي: خلقها أولا، لكي يحاول إخافة الجبهة وثنيها عن استنفاد المسار القضائي. فشل. التوتير اليوم -إن كان بولولة مهووسة في قاعة المحكمة أو بخطاب ناري في مهرجان ديني، أو بإثارة الفتنة الطائفية التي سبق أن نبذتها الناصرة- ليست حالة مزاجية فحسب لـ "زلمة دمه حامي" إنما هو وسيلة مفتعلة، لا تهدف إلى إعادة الانتخابات. فرئيس البلدية الحالي، وتجمع حلفائه ومموليه يدرك أن ما هكذا تعاد الانتخابات. رئيس البلدية الحالي، بات به شبه متأكد أنه لن يبقى في منصبه. ولأنه كذلك فإنه مضغوط. يريد أن يكون جزءا من تركيبة البلدية القادمة مهما كان الثمن. لكنه لا يريد أن يكون ذلك ضمن دعوة الجبهة المسؤولة ببناء الائتلاف البلدي الشامل التي أصدرتها من اليوم الأول، إنما يريده أن يكون شرطا لشرعية البلدية القادمة برئاسة الجبهة. اللعبة مكشوفة!
وأخيرا: على الصعيد الداخلي للجبهة، من نافل القول أنها مطالبة بإجراء مراجعة حادة للذات، بغض النظر عن النتيجة، التي مهما كانت لن تعد نصرا انتخابيا، كالذي تستحقه الناصرة وجبهتها. ولعل أولى نقطتين تسجلان للجبهة في أعقاب الانتخابات: عدم الرضوخ للعنف والترهيب والتأكيد المسؤول على احترامها لقرار المحكمة مهما كان.
[email protected]
أضف تعليق