جاء في الأخبار أن النائب حنا سويد خاطب مسؤولين إسرائيليين محتجًّا على منع إدارة " كلّية صفد الأكاديمية" بعضَ طلّابها العرب من تزيين غرفهم بشجرة عيد الميلاد. لم يخطّط هؤلاء الطلبة لتزيين شجرة في باحات الكلّية، لا قدّر الله، ولا في داخل أحد مبانيها أو مدخل العمارة التي فيها ينامون. بعضهم أرادوا أن يعودوا عصافير تأوي إلى شجرة فيها خبّأوا أحلامهم صغارًا، وعند جذعها احتفت شقاوتهم الغضّة.
في بيتنا، هكذا أتذكّر، كان الحديث عن تلك الشجرة يبدأ في منتصف كانون الأول، وكان الهدف الحصول على سروة رشيقة متناسقة؛ عريضة القاعدة بلطف، ممشوقة كقامة راقصة باليه، صدرها فسيح وملتئم ، رأسها يرتاح على عنق متشاوف، فعليه ستعلّق نجمة بيت لحم، مدينة لم نكن نعرفها في تلك السنوات إلّا من قصص الرعاة والمجوس. وأذكر كذلك أننا اعتمدنا في بعض السنين شجر الصنوبر، الذي كنت أحبّه أكثر، لأنه كان يشبه الراقصات الشرقيات يملأن حيّزًا أوسع، ويُتحن للبصر مساحات تجوال أرحب، فشجرة الصنوبر ليست مكتنزة كالسرو ولا محتشمة مثلها. ومع وصول الشجرة إلى بيتنا كنت أصير أقرب إلى والدي وإخوتي، ويصير في بيتنا عيد.
كانت أمّي تتفحّص "أغراض الزينة" التي حرصت على تخزينها من عام إلى عام، تلك الأيّام كانت أيام قلّة، وحالة عائلتي كحالة كلِّ بيت يربّي فيه معلّمان خمسة أولاد بحب وكبرياء ودلال. بعد التأكد من عدم وجود خسائر كبيرة في صفوف الأغراض، يجتمع أهل البيت ويبدأ الكبار بتعليق ما تستوعبه الشجرة من مجسّمات لنجوم وكرات يطغى عليها الأحمر القاني، ونحن الأولاد نعمل كصغار النمل، فبدوننا لا فرح ولن يتمّ سرور. في أسفل القاعدة كنّا نضع مغارةً ونملأها، كما جاء في الكتب، بمذود وطفل ومواش وثلاثة من المجوس اقتفوا نجمة بيت لحم، فوصلوا إلى حيث كانت مريم، وقدّموا ما أحضروا من ذهبٍ ومُرٍّ ولُـبَانٍ لمن سيصبح فادي البشر ومخلّصهم بموته على الصليب.
كنّا صغارًا، في حل من إلحاح الأسئلة والتفتيش على ما وراء الشجرة. في المدارس شرحوا لنا ما تعنيه المناسبة، وما ترمز إليه من قيمة وتاريخ. لُقنوا فلَقنوا وغفلوا أن الزمن مرضع حكمتنا والتجارب مِسَنّ. كانت الشجرة إعلان موسم فرح وكنا صغارًا لا نعرف إلا الفرح المطلق غير المشروط أو المشروخ. عندما كان ينتصف كانون ولا يأتي والداي على ذكر الشجرة كنا نتوجّس ونخشى، لأن ذلك كان يعني أننا لن ننصب شجرة في بيتنا، فربما نحن في حالة حداد على موت قريب أوعزيز أو جار كريم. الشجرة فرح، هكذا كانوا يقولون لنا، ولا يتزاوج فرح وحداد. شجر ذلك الزمن كان أخضر، ما أن يدخل بيتًا إلّا وتصير أحلام الأولاد فيه رقصات مع العصافير، يطيرون معها إلى غابات مليئة بكل ما يشتهونه. أذكر أننا في تلك الأحلام كنا نركض لنمسك بقوس قزح، وكنا نلعب بساحة من تراب وعرق. شجرة ذلك الميلاد كانت تعني الحب، ولم تكن سلالم عليها يتكئ طالبو جاه ورفعة أو "فرجةً" تعرض في معارض أصحاب النفوس المريضة المؤمنة بأن الأغلى هو الأحلى.
لم تزدني تلك السروة إيمانًا، بل عندما كبرت صرت أهمس في صدرها ما قاله "الدرويش" للسرو: "انتبه ممّا يقول لك الغبار"، وأمّا الصنوبرة علّمتني كيف أصير عاشقًا أجيد الصلاة بالليل، وأحمي قلبي من الصدأ، ولأفيق أراكض سربًا من الأيائل شاركتني ظبية منه وجع الوسادة.
من المؤثر واللافت أن لا تحظى حادثة صفد الأخيرة بأي اهتمام أو ردّة فعل، ومن المحزن أن ينفرد النائب حنا سويد وحدَه برسالة احتجاجية نشرت على خجل في الإعلام المحلي. لقد كان الطلاب العرب بصفد أهدافًا للملاحقة السياسية والاعتداءات العنصرية منذ سنوات،وبالواقع لم تتوقف أعمال التنكيل بهم على صنوفها. لقد اعترض من اعترض في حينه من قادة عرب ومسؤولين وكانت وقفاتهم عبارة عن استعراضات موسمية عابرة.
قرار منع الطلاب من وضع شجرة ميلاد في غرفهم الخاصة هو قرارٌ عنصري قمعي وكيدي. غياب ردّة الفعل العربية يدلّل على عجز القيادة العربية وقصور في مفاهيم التضامن والدفاع عن الحرّيات الأساسية.
لا أعرف لماذا غاب الصوت العربي، ولماذا عز وانقطع حتى التنديد والشجب الذين برعت فيهما القيادة وأجادتهما أيما إجادة!؟
ألأنها "شجرة" والبعض يعتبرها كفرًا وبدعة؟
قد يكون غياب موقف بعض من عودونا سماع هديرهم في حالات تنكيل كثيرة على خلفيات قمع دينية، هو موقفهم من تلك "الشجرة"، ولكن أين أولئك التقدميون الليبراليون الذين لا يؤمنون بمثل هذه المواقف؟
أين جمعيات حقوق الإنسان، وتلك التي تنتظر كل مناسبة لإصدار بياناتها الشاجبة والهادرة؟ لماذا صمتكم؟ ألا ترون أن ما تقوم به إدارة تلك الكلية فيه من المس بحريات أساسية لجمهور له الحق بممارسة ما يؤمن به؟ ثمّ أين صوت القيادات الدينية المسيحية؟ لماذا لا يتحرّك المطارنة والكهنة والكرادلة لينقذوا "شجرةً" ما كانت تعني في التاريخ إلا الفرح والحياة والمستقبل؟ لماذا تتواطأ هذه القيادات "الروحية" وتصمت؟ ألأن الملاحقين عرب ولا يستحقون المسيح الذي بميلاده سيفرحون؟
وأخيرًا، لمن لن يجد في بيته مأوى أحلام أدعوه إلى بيتي، ففيه ستجدون الشجرة: "لا تنام ولا تحلم/ لكنّها تؤتمن على أسرار الحالمين/ على ساقها في الليل والنهار تقف احترامًا للعابرين وللسماء/ الشجرة صلاة واقفة/ تبتهل إلى فوق/ وحين تنحني قليلًا للعاصفة/ تنحني بجلال راهبة وتتطلع إلى فوق.. إلى فوق"... تعالوا لنحمي قلوبنا من الصدأ/ الصدى.
[email protected]
أضف تعليق