منذ سقوط الرئيس محمد مرسي والحرب الدائرة بين النظام المصري الجديد وبين جماعة "الإخوان المسلمين" وحلفائها وامتداداتها، بما فيها "حماس"، التي تعتبر الفرع الفلسطيني لها، وما أدى إليه ذلك من إغلاق الأنفاق وتقييد مرور الأفراد، وتشديد الحصار، ومنع أعضاء "حماس" كليًّا من دخول مصر أو الخروج منها، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة قيادتها على التواصل وعقد الاجتماعات الضروريّة لاتخاذ القرارات؛ و"حماس" تمر بوضع صعب لم يسبق له مثيل.

ولإدراك مدى صعوبة ذلك لا بد من الإشارة إلى أن هذة التطورات جاءت بعد أن خسرت "حماس" مقرها القيادي وحلفها المتين مع النظام السوري، وما أدى إليه ذلك من تدهور علاقتها مع إيران وحزب الله، التي كانت تؤمن لها مساعدات ومكاسب سياسيّة ومعنويّة وماليّة وعسكريّة لا يمكن تعويضها من أي حليف قديم أو جديد. وتتضاعف صعوبة الأوضاع التي تمر بها "حماس" عندما يتضح أنها مرشحة للاستمرار، وربما للتفاقم على المديين المباشر والمتوسط، وذلك في ضوء حالة التوافق الدولي التي ظهرت بالاتفاق حول الكيميائي السوري والاستعداد لعقد "جنيف 2"، وحول الملف النووي الإيراني، مما يدل على أن الحاجة إلى "حماس" ودورها قلّت عمّا كانت عليه في السابق، وهذا يفسر بطء الاستجابة الإيرانيّة لتوجه "حماس" الجديد لاستعادة تحالفها مع طهران.

ولا تكتمل الصورة إلا عندما تتم الإشارة إلى أن "حماس" خسرت أهم ما جعلها تصعد بشكل صاروخي منذ تأسيسها في مثل هذه الأيام في الثامن من كانون الأول 1987، وهو أنها حركة مقاومة انطلقت من أجل تحرير فلسطين، بعد أن عجزت "فتح" وبقيّة فصائل منظمة التحرير عن تحريرها، التي ضيّعت طريقها باللهاث وراء وهم التوصل إلى تسوية عبر المفاوضات كأسلوب وحيد تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة، بعد أن اعترفت بإسرائيل وتخلت عن "العنف" ونبذه وتعهدت بمحاربة من يمارسه.

انتهت "حماس" إلى نفس الموقع الذي انتهت إليه "فتح"، بالتركيز على العمل السياسي والسعي للحصول على الشرعيّة العربيّة والدوليّة، وما يقتضيه ذلك من مرونة وتنازلات؛ بعد انخراطها في السلطة، بدءًا من المشاركة في الانتخابات المحليّة في العام 2005 والتشريعيّة في العام 2006 وتشكيل حكومة بمفردها تحت سقف "أوسلو"، ثم المشاركة ورئاسة حكومة وحدة وطنيّة في العام 2007 وصولًا إلى انهيارها، وعدم تمكنها من الحكم لأسباب محليّة وإسرائيليّة وعربيّة وإقليميّة ودوليّة، أهمها أنها لم تستكمل التغييرات التي بدأتها بدخول السلطة من خلال الموافقة على شروط "اللجنة الرباعيّة الدوليّة"، فعلى "حماس" أن تختار بين مواصلة طريق "الاعتدال" أو العودة إلى طريق المقاومة، ولا يمكن الجمع في ظل الشروط والقيود والخصائص الفلسطينيّة بين السلطة والمقاومة، على الأقل المسلحة منها.

لقد طغا على "حماس" بعد سيطرتها الانفراديّة على السلطة في غزة صراعها من أجل الاحتفاظ بالسلطة على أي شيء آخر، بما في ذلك على المقاومة التي بررت دخولها للسلطة من أجل حمايتها.

السؤال الآن بعد أكثر من ست سنوات على وقوع الانقسام السياسي والجغرافي: هل حمت "حماس" المقاومة أم أصبحت المقاومة هي الوسيلة الرئيسيّة بيد "حماس" للحفاظ على السلطة؟ الجواب يمكن معرفته من دلالات اتفاقات التهدئة المستمرة بين "حماس" وإسرائيل، التي تبين أن حماية السلطة هي التي تحظى بالأولويّة، لدرجة أننا استمعنا منذ أيام لناطق رسمي باسم "حماس" يصرح بأن الحفاظ على التهدئة مصلحة متبادلة.

لماذا لم تكن التهدئة مصلحة فلسطينيّة عندما كانت "حماس" خارج السلطة، وكانت تقوم بعملياتها الاستشهاديّة وغيرها بالرغم من التزام السلطة بـ"اتفاق أوسلو" وتدفيعها ثمن عمليات المقاومة، لأنها لم تنفذ التزاماتها بوقفها واعتقال منفذيها.

"حماس" حتى الآن تكابر ولا تعترف علنًا على الأقل بأنها في مأزق شديد، وتقول إنها مرّت بأوقات صعبة وتجاوزتها، وإنها قادرة على تجاوز الوضع الحالي، وإن بيدها عدة أوراق يمكن أن تستخدمها، أهمها ورقة المقاومة؛ والرد على الحصار المصري بتحرك متعدد الأشكال لكسر الحصار، بما في ذلك اقتحام الحدود المصريّة من الجماهير الفلسطينيّة كما حصل سابقًا في العام 2008، ولكن على "حماس" أن تدرك أن قدرتها على استخدام هذة الأوراق محدودة ومحفوفة بالمخاطر لسبب وفارق بسيط، ولكنه مهم جدًا، وهو أن "حماس" كانت في الماضي تواجه مآزقها والاعتداءات الإسرائيليّة على قطاع غزة وعداء نظام مبارك لها ليس بصمودها ومقاومتها فقط، وإنما برأي عام عربي وإسلامي ودولي متعاطف جدًا معها، خصوصًا الرأي العام المصري؛ الأمر الذي حال دون هزيمة "حماس" أو سقوطها.

الآن الصورة مختلفة تمامًا، فالرأي العام منقسم في الحد الأدنى حول موقفه من "حماس"، إن لم نقل إن قسمًا كبيرًا منه معادٍ لها، لأنه لم يعد ينظر إليها كحركة مقاومة هدفها تحرير فلسطين، وإنما امتداد لجماعة الإخوان المسلمين التي تريد السيطرة على المنطقة بتحالف مع الأميركيين، وبلغت ذروة صعودها بالحصول على الأغلبيّة في الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة في مصر، وبدأت مرحلة هبوطها بعد تحرك الجيش المصري مدعومًا من ملايين المصريين وعزل الرئيس وملاحقة أعضاء الجماعة، فيما اعتبر من البعض "موجة ثانيّة" من ثورة 25 يناير، وفيما اعتبره البعض الآخر "انقلابًا" على الثورة.

يمكن ملاحظة الفرق بين ردود الأفعال على حصار قطاع غزة في السابق والحصار الحالي بالرغم من أنه أشد، حيث هناك ندرة في حملات التضامن ومبادرات كسر الحصار والتحركات العربيّة والدوليّة وسط فتور جماهيري ملحوظ؛ ما يدل على حجم التغيرات التي حصلت في المنطقة.

إن "حماس" ستفكر أكثر من مرة قبل أن تستخدم ورقة المقاومة ضد إسرائيل للمساعدة على فك الحصار، لأنها ستخشى من ردة الفعل الإسرائيليّة الشديدة، التي ستحاول أن تستفيد من الأزمة التي تمر بها "حماس" حاليًا، وستحد من ردود الأفعال ضد أي عدوان إسرائيلي جديد. طبعًا، يمكن أن تلجأ "حماس" إلى استئناف المقاومة ضد الاحتلال كآخر خيار على طريقة "شمشون الجبّار" "عليّ وعلى أعدائي يا رب". ولكن التهدئة تبدو مستمرة حتى الآن لأنها تحقق مصلحة متبادلة، كما قال نطاق باسم "حماس".

هناك مخرج مضمون لـ"حماس" لكن يبدو من الصعب أن تلجأ إليه، لأنها تأخرت في اعتماده وكان يجب أن تستعد له مبكرًا حتى في ذروة صعود "الإخوان المسلمين"، وهو إقامة مسافة كافيّة بينها وبين جماعة "الإخوان المسلمين"، وأن تكون جزءًا من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة أكثر ما هي امتدادًا للجماعة. هذه المسافة ضروريّة لأنها تستجيب لخصوصيّة القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة تحرر وطني تحتاج وتستطيع الحصول على دعم عربي وإسلامي وإنساني وتحرري على امتداد العالم، ولا يجب أن تحسب نفسها على تيار واحد، بينما هي تستطيع الحصول على دعم جميع التيارات.

إن هذه المسافة كانت ضروريّة للفرع الفلسطيني لحركة "القوميين العرب" وحزب "البعث" العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي الفلسطيني، وعدم إدراك أهميتها ساهم في فشل الحركات القوميّة واليساريّة والإسلاميّة منذ نشوء القضيّة الفلسطينيّة وحتى الآن.

إن المخرج الوحيد المتبقي هو أن تبدي "حماس" استعدادًا جديًا وحقيقيًا أو تستجيب لمبادرات تدعوها إلى التخلي عن السلطة في غزة، مقابل شراكة سياسيّة حقيقيّة في السلطة والمنظمة، ولو اقتضى الأمر اتخاذ مبادرات منفردة في هذا الاتجاه، مثل الاستعداد لنقل السلطة في غزة إلى "هيئة وطنيّة موثوقة" وليس دعوة الفصائل إلى مشاركة "حماس" في السلطة؛ تمهيدًا إلى الشروع في حوار وطني شامل يستهدف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة في سياق إعادة الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة من خلال إعادة تعريف المشروع الوطني وإعادة بناء التمثيل والمؤسسة الوطنيّة الجامعة التي تمثلها منظمة التحرير.

هذا المخرج ليس مرهونًا بـ"حماس" لوحدها، وإنما بـ"فتح" أساسًا وبقيّة الفصائل المطالبة بتغليب المصلحة الوطنيّة العليا على المصالح الفئويّة، وإذا لم تقم بذلك على الشعب أن يتحرك لفرض إرادته على الجميع.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]