في البدء أُعلن تحفظي من العنوان الذي أُعطي لورشة العمل الاقليمية هذه:"المسيحيون وربيع العرب"، وكذلك من العنوان الذي أُعطي لمحاضرتي في الورشة ولورقة العمل المكتوبة هذه:"الدور النهضوي للمسيحيين العرب". وذلك لأن المسيحيين العرب هم عرب اولاً، قبل ان يصبحوا مسيحيين.والعروبة هي انتماؤهم الإثني والقومي والثقافي قبل وبعد اعتناقهم للمسيحية.

تظهر كلمة "عرب" لاول مرة في التاريخ في نص أشوري يعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وكان المقصود بها سكان الصحارى- البدو. وأطلق الاغريق والامبراطورية الرومانية فيما بعد تسمية "أرابيا" على بلاد العرب في البادية وعلى الجزيرة العربية وبادية الشام منذ القرن الخامس قبل الميلاد. اما الامبراطورية الفارسية فأطلقت تسمية "طيايا" على البادية العراقية والجزيرة الفراتية اللتين فصلتا بينها وبين الرومانية، وذلك نسبة إلى قبيلة "طيء" العربية التي قطنت تلك المناطق مع غيرها من قبائل عربية.

كل تلك المناطق العربية المذكورة أعلاه وصلها التبشير المسيحي في القرون المبكرة الأولى لظهور المسيحية.

المسيحية نبتة مشرقية أصيلة وأصلانية


للسيد المسيح وللمسيحية جغرافيا وتاريخ. فلسطين مهدها، وسائر البلاد السورية والهلال الخصيب (العراق) واليمن وشبه الجزيرة العربية أوطانها الاولى. لم "يستورد" الشرق الاوسط المسيحية من اوروبا، وانما صدّرها" لها. ومن أنطاكيا السورية انطلق التبشير بها في العالم:"اذهبوا وتلمذوا جميع الامم"، وفيها جرت تسمية الدين الجديد بالمسيحية.

اختار الله، حسب المعتقد المسيحي،أن يتجسد إبنه الوحيد في فلسطين ومن أهلها. في الناصرة جرى تبشير مريم العذراء بولادة الطفل يسوع. في بيت لحم وُلد، وفي عرس في قانا الجليل قام بعجيبته الأولى، وعلى سطح مياه بحر الجليل (بحيرة طبريا) مشى، وفي صحراء أريحا عانى وصام اربعين يوماً. وإلى الهيكل في القدس دخل وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد الباعة وواجه أحبار اليهود مخاطباً اياهم:"بيتي بيت الصلاة، وانتم جعلتموه مغارة لصوص"(مرقس 17:11). وفي أزقة القدس حمل صليبه سائراً في طريق الآلام نحو الجلجلة حيث صُلب وماتَ وقُبر وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، كما جاء في الكتب.

في تلك البيئة المشرقية وُلد"العهد الجديد" وجرى تدوين "الأناجيل". وفي اورشليم (القدس) تأسست الكنيسة الأولى - أم الكنائس– عام 33 م، وتبعتها سائر الكنائس في البلاد السورية وتركيا، وكذلك الأديرة والرهبانيات الاولى.وفي بلدات ومقاطعات الاراضي المقدسة وسوريا ومصر والعراق والجزيرة العربية سقط الشهداء المسيحيون الاوائل وسيمَ الكهنة والأساقفة والمطارنة الأوائل.وفيها تأسست المدارس اللاهوتية الأولى –الاسكندرية في مصر وانطاكيا في سوريا والرهاونصيبين في العراق. هنا جرى شرح وتفسير التعاليم المسيحية والأناجيل ووضع اللبنات الأولى والمركزية للاهوت المسيحي وللنظام الكنسي.

التغريب والغربة للعرب المسيحيين

لا أجد من "تبرير" لتجاهل حقيقة البيئة المشرقية والعربية التاريخية للمسيحية أو عدم ابرازها، الا تفسير أن المسيحية بعد أن "تغربنت" لم تهتم مؤسستها الكنسية الغربية في حقب تاريخية سابقة بإبراز جذورها العربية. هذا ما فعلته الهيمنتان الكنسيتان، اليونانية واللاتينية على مدى عدة قرون سابقة. كذلك كان للأطر وللمؤسسات الاسلامية دور في هذا التنكر لأصلانية العرب المسيحيين، اذ جرى دمغ العرب عموماً بالجاهلية قبل ظهور الاسلام. هكذا وبمساعدة مؤسستي الدينين المسيحي والاسلامي، جرت بوادر عملية تغريب وغربة العرب المسيحيين عن العروبة وعن تاريخهم وأوطانهم، ومن ثم تصويرهم وكأنهم اتباع للغرب المسيحي، او حتى من مخلفات الحملات الصليبية (الفرنجة) على الشرق العربي.

أذكر كلمة تغريب بمعنى وجود ممارسات ومواقف تقصد التغريب، وكلمة غربة بمعنى أن العديد من العرب المسيحيين قد ذوّتوا الغربة وأصبحت هذه جزء من عقليتهم ونفسيتهم. وللأسف ما زالت هذه العملية جارية إلى حد ما في أيامنا من قبل أوساط دينية وأخرى علمانية وحتى على الصعيد الشعبي. ان تكون عربياً يعني أن تكون مسلماَ – هذا ما يظنه غالبية البشر العاديين في العالم، خصوصاً في دول الغرب. لقد آن الأوان ومنذ زمن لوضع حد لهذا التغريب ولهذه الغربة على الصعيد الشعبي في البلدان العربية والعالم أجمع، وليس على صعيد البحث الاكاديمي الضيق فقط. علماً بأن الابحاث الاكاديمية أيضاً، بهذا الخصوص، ما زالت شحيحة جداً.

شهادات عن مسيحية العرب

يرد في (أعمال الرسل) (أعمال 4-2:2) انه حين اجتمع تلاميذ المسيح ووالدته العذراء مريم وجماعة المؤمنين الأوائل في عليّة صهيون في أورشليم، عام 33 في اليوم العاشر لصعود المسيح إلى السماء، تحدثوا هم والجمهور خارج مكان الاجتماع بلغات مختلفة بما فيها العربية، وكان بينهم عرب.

يذكربولس الرسول في رسالته"إلى كنائس غلاطية" أنه هرب من دمشق و"ذهبت على الفور إلى بلاد العرب" (17-15-1). بلاد العرب هذه هي دولة الأنباط التي كان يحكمها يومها الحارث الرابع. وبقي بولس الرسول في بلاد العرب لشهور، وطبعاً ليس لشأن السياحة. لذلك يحق لنا القول أن أعظم مبشر في تاريخ المسيحية – رسول الامم - هو أول من بشّر بين العرب.

يؤكد المؤرخ لتاريخ الكنيسة القديمة يوستينوس (استشهد عام 165) أن الرعاة الذين زاروا بيت لحم لرؤية الوليد الطفل يسوع كانوا من العرب الانباط. والملك الأول في العالم الذي تنصّر عربي،هو ملك مملكة الرها الابجر التاسع (149-224) وذلك عام 200. وقسطنطين لم يكن أول أمبراطور اعتنق المسيحية (عام 312)، إذ اعتنقها قبله سرياً الامبراطور فيليبوس – فيليب العربي (244-249).

يعود اصل سمعان، الاسقف الثاني على كنيسة أورشليم بعد رئيسها الأول يعقوب (عام 33)، إلى العرب. عربياً من نجد كان أيضاً اسقفها ايليا وأسقفها سمعان (عام 134). وكذلك اخرون، بمن فيهم البطريرك صفرونيوس (عبد الله) من سوريا. هو الذي سلم مفاتيح القدس للخليفة عمر بن الخطاب ابان فتحها عام 638، وله أعطى عمر "العهدة العمرية".

أما الناسك اليوناني هيلاريون الغزي (291-371) الذي يترك صعيد مصر ويأتي إلى غزة عام 328 ويتنسك في دير هناك، فكانت قد اهتدت بوعظاته وسيرته"قبائل برمتها من العرب". وتشير العديد من المصادر أن الناسك سمعان العمودي(389-459) السوري من بلدة صيص، عربي أو من أصول عربية. لكن الأهم أنه كان محبوب العرب. اذ كان يزوره هؤلاء آتين من صحراء الشام جموعاً جموعاً يحطمون أصنامهم ويشهرون مسيحيتهم.

وننوّه أن العديد من الاسماء العربية المسيحية المشهورة بما فيها أسماء سامتها الكنيسة قديسين ترد في الكتب والوثائق الكنسية بصيغة يونانية، لأن اللغة اليونانية كانت اللغة الكنسية ولغة كتبها المقدسة،بحكم كون الامبراطورية الرومانية والبيزنطية هي الحاكمة. نصادف مثلاً ورود اسم القديس ذوجوموس من جنوب فلسطين و شمال الجزيرة. بعد التمحيص نكتشف انه ما هو الا ضجعم الذي كان "ملكا" على بني سليح من قبيلة الضجاعمة. عنه كتب ابن الكلبي في "نسب معد واليمن الكبير" انه ترك الملك و"كره الدماء والدنيا وتعبد في نصرانيته".

أما القديس ايريثيوس الذي تحتفل الكنيسة العالمية بذكراه بتاريخ 24 كانون أول، لاستشهاده في اخدود حرقا مع 300 شهيد وشهيدة رفضوا الارتداد عن مسيحيتهم، فما هو إلا العربي الحارث بن كعب الذي استشهد وأبناء من عشيرته عام 520 أو 523، في كل من نجران وظفار ومنحا.وردت قصة استشهاد هؤلاء الشهداء العرب المسيحيين في "القرآن" (البروج 1-10). والقديسان كوسماس ودميانس (قزما والدمياني) هما عربيان سوريان لاهوتيان وطبيبان وصيدليان لم يقبضا الاجرة مقابل العلاج وسُمّيا"الزاهدان بالفضة". ورفضا تركيب أدوية سامة بهدف القتل، لأن"ديننا ينهانا عن هذا". استشهدا بتاريخ 27 أيلول عام 300 إبان حكم الامبراطور ديوقلتيانوس.نكتفي بهذه الامثلة مع انه توجد اسماء شهيرة اخرى.

مواطن وممالك العرب المسيحيين الاوائل

يعود أصل ونسب العرب المسيحيين الاوائل للعرب القحطانيين الاصلانيين الذين عرفوا السكن الثابت وليس المتنقل فقط.عاش هؤلاء حياة حضرية إلى حد ما. موطن العرب المسيحيين في الجزيرة العربية كان في جنوبها في الاساس، في "اليمن السعيد" وفي أطرافها الشرقية (سماهج وقطر وهجر والخط...) وفي وسطها حيث أسست قبيلة كندة مملكة.وتواجد في مكة "موقف النصارى" و "مقبرة النصارى" على طريق الحج إلى عرفات. وفي البلاد السورية قطن العرب المسيحيون في بلدات وصحاري سوريا ولبنان وفلسطين والاردن. هذا بالأضافة إلى سكنهم وترحالهم في بلدات وصحراء العراق.

بهذا يكون العرب المسيحيون والوثنيون قطنوا ضمن وعلى تخوم وبين اكبر وأرقى أمبراطوريتين في ذاك التاريخ: الرومانية والفارسية.

في البلاد السورية استقر العرب الانباط (جنوب فلسطين والاردن)والتدمريون (شمال صحراء الشام حتى تدمر)والصفئيون (شرق وجنوب شرق دمشق جهة العراق، وجبل صفا وجبل حوران)، والتموديون(شمال الحجاز حتى حدود تبوك غرباً وثيما شرقا ودومة الجندل شمالاً). أما في العراق فقطن العرب في الجزيرة الفراتية وفي الصحراء.

كان للعرب المسيحيين مراكز وعواصم حضرية متطورة، نذكر أهمها: الجابية في الجولان – للبلاد السورية، والحيرة لبلاد ما بين النهرين، ونجران– للجزيرة العربية. هذا عدا عن وجود العرب المسيحيين في مقاطعات فلسطين الأولى والثانية والثالثة. واسّسوا وحكموا ممالك عربية مسيحية و/او قطنوا فيها وكانوا من بناتها ومن المبشرين بالمسيحية فيها وفي المناطق المتاخمة لها،وذلك في المناطق والمراكز والممالك ضمن أو على تخوم وما بين الامبراطوريتين البيزنطية (الرومانية اليونانية) والفارسية.

قاد هذا إلى تأثرهم الكبير بأعظم حضارتين في تلك الحقبة من التاريخ، ومن ثم إلى نشرهما وان كان بشكل محدود بين سائر العرب. وكانت ممالكهم العربية، التي سنذكرها ادناه،حاضنة للمسيحية ولنهضويتها ولمدنيتها.

مملكة الأنباط: تأسست منذ القرن السادس قبل الميلاد ووصلت أوج تطورها ابان حكم الحارث الرابع (9 ق.م – 40 م). امتدت جنوب فلسطين إلى دمشق شمالاً. عاصمتها البتراء الشهيرة. والانباط عرب عرفوا المسيحية منذ قرنها الاول، وعندهم اختبأ بولس الرسول وبشّر. لا نقصد القول أن الانباط كانت مملكة مسيحية، وانما كانت وثنية بغالبية سكانها، لكن بعضهم تنصّر.

مملكة تدمر:امتدت من تدمر في سوريا إلى جنوب فلسطين والاردن.وكانت تتبع الامبراطورية الرومانية. ازداد إنتشار المسيحية بين قاطنيها العرب مع ان ملوكها كانوا وثنيين لكنهم لم يعادوا المسيحية ولم يمنعوا إنتشارها. من أشهر ملوكها أذنيه، ملك العرب الذي هزم ملك الفرس شابور.

مملكة الغساسنة: هي مملكة عربية مسيحية، بقاطنيها وبملوكها. يعود تأسيس سلالة وإمارة الغساسنة (آل جفنة) إلى ملكهم جفنة بن عمر الملقب بماء السماء. امتدت مملكة الغساسنة من شمال سوريا عبوراً بفلسطين وصولاً إلى العقبة.

تنصّر الغساسنة منذ القرن الرابع. وآخرعواصمهم كانت بلدة الجابية في الجولان. من أشهر ملوكهم الحارث بن جبلة (529-569) والمنذر ابن الحارث (569-582) والنعمان ابن المنذر (582-583). حكمت الغساسنة أحياناً نساء ملكات، منهم ماريا وسلمى وإثنتان باسم هند.

تعصّب الغساسنة لاستقلاليتهم وحاربوا روما في سبيل هذا وصمدوا وانتصروا، فاضطرت تلك لاتخاذهم حليفة لهم ضد الفرس والمناذرة. مملكة الغساسنة المملكة العربية المسيحية الأولى والاكبر والاكثر تمدناً وحضارة،وأيضاً المبادرة لتنصير قبائل عربية وثنية أو بطون لها جاورتها أو سكنت ضمن مناطقها.

تقضي روما المسيحية على الدولة العربية المسيحية الاولى، لانها لا تريدها قوية مستقلة ولانها تتهمها بأنها تهادن أحياناً فارس والمناذرة ولا تحاربهم كما يجب، ولأنها تتهم الغساسنة بالهرطقة لاعتقادهم بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح. تحتل روما مملكتهم وتنفي المنذر إلى صقلية عام 582. ثم تنفي بعده ابنه ووريثه النعمان عام 583.

مملكة المناذرة: هي الوريثة للمملكة الحضرية القديمة "الحيرة"، وهي مملكة "عربايا" حسب الفرس. وهناك من يسميها مملكة "اللخميين" نسبة إلى أصلها القبلي.استمر حكم المملكة ثلاثة قرون. وإذا كان من العادة ومن الطبيعي أن يكون الناس على دين ملوكهم، فالمناذرة العرب المسيحيون قلبوا هذه العادة رأسا على عقب – كانوا بغالبيتهم الساحقة مسيحيين، بينما كان ملوكهم وثنيين. حاول ملكهم النعمان بن قاسط (400 – 418) أن يمنع تنصرهم لكنه فشل في هذا وتراجع عنه خوفاً على عرشه. لكن ملك المناذرة الاخير النعمان الثالث (أبو قابوس 580-602) تخلى عن وثنيته وتنصرّ. أصبح الملوك على دين رعيتهم! خالد بن الوليد يقضي على مملكة المناذرة عام 633 في أثناء فتح العرب المسلمين لبلاد الفرس.

قبائل ومراكز عربية مسيحية

يكتب المسعودي في "مروج الذهب":"وردت سليح الشام فغلبت تنوخ وتنصرت فملكها الروم على الشام". ويذكر اليعقوبي في كتابه "التاريخ":"تنصرت من اليمن طيء ومدجج وبهراء وسليح وتنوح وغسان ولخم". ويؤكد هذا حوقل في كتابه"صورة الارض"، مضيفا على القائمة قبيلة تغلب. ويورد البلاذري في"فتوح البلدان" ان بني كتانة وبني منذر وبني الجوشن تنصّروا، وان "اياد دانت لغسان وتنصروا"، ويضيف لخم وبني عذره وبلي وعاملة وجذام. ويذكر الاصفهاني في "الاغاني" تنصّر بني عذرة(منهم الشعراء العذريون). ويذكر ابن خلدون في "العبر" تنصر قبيلة كلب في دومة الجندل وتبوك. ووصلت نصرانية قبيلة جذام إلى حد اطلاق أسماء مسيحية على بطونها- مثل"اليعاقبة" و"المطارنة".

ويرد في الكتب التراثية عن تاريخ وجغرافية وشعر العرب، في صفحات مختلفة، عن تنصر قبائل أو بطون قبائل في العراق هي: مدجج وحُمير وطيء وكلب وتميم وتنوح وتغلب وربيعة وبكر وعنزة وضبيعة وشبيان وذهل وتميم واللات وقيس. أما في الجزيرة العربية فيرد ذكر قبائل أو بطون: إياد وربيعة وكندة وبكر وتغلب والنمر وعبد القيس- فهؤلاء "كلهم نصارى"، حسب تأكيد بن حزم في كتابه "جمهرة أنساب العرب". كذلك مسيحية هي قبائل أو بطون كنده (آل نجران و آل حارث)، هذا عدا عن قبائل أو بطون أسد وتميم وخزارة وحنيفة والازد وغطفان.

تجدر الاشارة كذلك إلى ورود ذكر عدة مراكز وبلدات مسيحية قديمة وصل البعض منها إلى درجة الاسقفية في المبنى الهرمي الكنسي.نذكر من تلك المراكز – البلدات: ظفار وعدن ومرضه(هرمز) وسماهج وقطر والبحرين وهجر والخط ونجران والجابية والحيرة والانبار والرها ونصيبين وكريت وصندودا والس و عانه، وغيرها. ومن الاديرة العربية المسيحية نذكر أديرة ايليا ويوحنا وحنظلة وعلقة ومريم وحنا ودير هند الكبرى ابنة عمر الكندي الملقب بآكل المرار، وهي زوجة النعمان الثالث المعروف بإسم"إبن ماء السماء". ودير هند الصغرى ابنة النعمان، وأديرة الجزعة وبنو مرينا والاعور بن أياد وبنوقرة والجماجم والسواء (العدل والقضاء). وتأسست حتى رهبانيات نسائية – رهبانية هند الكبرى ورهبانية هند الصغرى ورهبانية بكارى العبادين.

وبرز واشتهر شعراء عرب مسيحيون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام وآخرون مخضرمون، وكذلك في دولة الخلافة الاسلامية. وكان لبعضهم دور بارز في "ديوان" العرب الشعري. (انظر/ي كتابي "المهد العربي" صفحتي 328 و 329، اوردت هناك أسماء 70 شاعرا من هؤلاء).

تؤكد وثائق"المجامع الكنسية المسكونية السبعة"- (لكونها تجمع ممثلي المسيحية في كل المسكونة)- مشاركة ممثلي العرب المسيحيين واسقفياتهم فيها. في هذه المجامع تحدد لاهوت اسس العقيدة المسيحية وكذلك النظام الكنسي. شارك العرب في تلك المجامع من أولها إلى آخرها، وخاض بعضهم نقاشاً لاهوتياً حاداً مع أو ضد الانشقاقات التي جرت على اثرها. انعقدت أول خمسة مجامع منها قبل ظهور الإسلام في سنوات 325 و 381 و 431 و 451 و 553. أما المجمعين السادس والسابع فانعقدا في سنتي 681 و 787.

تلخيص للدور النهضوي للعرب المسيحيين قبل ظهور الدين الاسلامي

• المسيحية عموماً، بما فيها المسيحية العربية المشرقية، ليست نبتة غريبة في الشرق ولا دخيلة ولا طارئة أو عابرة أو مؤقتة. هي بنت ونتاج اصلاني وأصيل لهذا الشرق. هنا جغرافيتها وتاريخها، ومن هنا جرى الانطلاق لتبشير الامم الوثنية بها في العالم بأسره. والعرب من أوائل من اعتنقها.

• كان للعرب المسيحيين دور بارز في نشر المسيحية بين القبائل العربية. بهذا نشروا بين العرب والوثنيين فكرة ونهضة التوحيد، الايمان بالله الواحد"خالق وضابط الكل"، ونبذ الجاهلية ،والتأسيس لإنتماءات أوسع من القبلية.

• لم يكن العرب المسيحيون مجرد مؤمنين سلبيين. وإنما عدا عن نشرهم للمسيحية في مناطقهم، أسسوا وبنوا كنائس وأديرة ورهبانيات وأسقفيات. وكان منهم كهنة وأساقفة وحتى مطارنة وبطاركة - للكنيسة الأولى في العالم كنيسة أورشليم. وسقط منهم شهداء، وسيم من بينهم قديسون، وأسسوا ممالك وإمارات وحضريات عربية مسيحية. وكان من بينهم شعراء وخطباء وحكماء مشهورون لهم تأثيرهم في تأسيس اللبنات الأولى لنهوض العرب من تخلف الجاهلية.

• تعلم بعض العرب المسيحيين الاوائل القراءة والكتابة وعلموها، بسبب الحاجة لقراءة الكتب المقدسة. واطلع بعضهم على الثقافات والحضارات الهيلينية (اليونانية) والرومانية والفارسية، خصوصاً هؤلاء منهم الذين عاشوا ضمن مناطق نفوذ الامبراطوريتين الرومانية - البيزنطية والفارسية. ونقلوا هذا بشكل محدود إلى العرب.

• بناء على كل ما سبق، نعتقد ان من يبحث في الدور العربي المسيحي ومساهمته في النهضة العربية منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين، لا يتجنب الحقيقة حين يؤكد أن بذور هذه المساهمة تعود إلى القرون الأولى للالفية الاولى.اذ كانوا، بلغة عصرنا، طلائعيين ونهضويين في استيعاب ونشر ولو بشكل محدود في مجتمعهم الجاهلي والقبلي المتخلف،حضارات وتمدناً من الارقى لتلك الحقبة التاريخية، عدا عن الايمان بالله الواحد والتخلي عن الوثنية وعبادة الأصنام.

العرب المسيحيون في الخلافة الاسلامية
مدخل:
عرف الرسول العربي الكريم محمد (570-632) العديد من النصارى العرب، وربطته ببعضهم علاقات الصداقة والاحترام والقربى العائلية. هكذا أيضا كانت علاقة العديد من صحابة الرسول وآل البيت والخلفاء الراشدين فيما بعد بالعرب المسيحيين القاطنين في الجزيرة العربية من جنوبها إلى شمالها، بما فيها مكة. وفي أسواق مكة كان يُلقي القس ساعده الايادي خطاباته ومواعظه.

لم يضمر العرب المسيحيون العداء للدعوة المحمدية – دعوة التوحيد والايمان بالله الواحد الاحد، وانما ساندوها. وإلى يثرب هاجر المسلمون الاوائل، بتوصية من الرسول بعد أن جار عليهم قومهم. وفي يثرب استقبلتهم، من بين من استقبلهم، قبيلة الازد النصرانية. وبملك الحبشة النجاشي المسيحي احتموا واستجاروا. بهذا يكون العرب المسيحيون قد دعموا النهضة الايمانية والحضارية التي اتى بها الإسلام لمجتمع جاهلي عاداه في بدايات انتشار دعوته.

القرآن الكريم والنصارى: يرد ذكر النصارى في "القرآن" في 127 آية في 23 سورة، بشكل مباشر. ويرد ذكر عيسى (السيد المسيح) عشر مرات،هو"الوجيه في الدنيا والآخرة" (آل عمران 45). وتُذكر العذراء مريم 34 مرة، الله"طهرك واصطفاك على نساء العالمين"(آل عمران 42). اما"الانجيل" فيرد ذكره 13 مرة. وفيه "هدى ونور... وموعظة للمتقين"(المائدة 46).

قيمّ الإسلام المسيحية عاليا:"... والنصارى ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم"(المائدة 69). و"لهم أجرهم عند ربهم" (البقرة 62). و"امنا بالله ما أنزل الينا... وما أوتي موسى وعيسى... لا نفرق بين أحد منهم" (البقرة 136).. والله يقول لعيسى:"... وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"(آل عمران 55). و"آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل اليكم والهنا والهكم واحد"(العنكبوت 46).

والمسيحيون كما جاء في القرآن، هم "أهل الكتاب"... "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"(العنكبوت 46) و"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" (النحل 125). و"... لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..."(المائدة 82).

في ظل الخلافة:عاش العرب المسيحيون في ظل حكم الخلافة الاسلامية ما يقارب الـ 13 قرنا، من سنة 633 إلى سنة 1918، بدءً بالخلافة الراشدة ومن ثم الاموية والعباسية وحكم المماليك إنتهاءً بالخلافة العثمانية. وساهموا، مع غيرهم من مسيحيي إثنيات اخرى، مساهمة كبرى في بناء ما اصبح يُعرف بالتمدن العربي الاسلامي او بالحضارة العربية الاسلامية.

استقبل العرب المسيحيون واقباط مصر الفتوحات الاسلامية بالترحاب عموماً. بل وقاتلوا إلى جانبها ضد الفرس وضد"الروم" (بيزنطيا) رغم كون الروم مسيحيين مثلهم. وبسبب اطلاع المسيحيين العرب، خصوصاً قاطني البلاد السورية والعراق، على الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية وعلى لغاتها، كانوا ثروة علمية وثقافية لأمة عربية اسلامية انطلقت من بداوة وجاهلية الصحراء لصناعة تمدنها وحضارتها.

ما من مجال علمي وحضاري، تمدني ونهضوي، إلا وكان للعرب المسيحيين ولمسيحيي أثنيات اخرى دور بارز في نشره وتعميمه. يبرز هنا بشكل خاص دور التراجمة الذين نقلوا للعربية، عن اليونانية والفارسية والسريانية، امهات كتب الفلسفة وشتى العلوم. يقول الفارابي (المعلم الثاني بعد ارسطو) ان الفضل يعود للنصارى في تعليم المسلمين الفلسفة.

هكذا تعلم العرب في دولة خلافتهم الاسلامية بناء وادارة الحكم والدواوين (الوزارات) والمالية والفلسفة وعلوم الطب والكيمياء والحساب والفلك والبناء والعمارة والفنون (الرسم والنقوش والموسيقى والغناء) عدا عن صناعة السلاح وبناء السفن والتجارة والزراعة وشتى الحِرف.

ولم يكن العرب المسلمون مجرد متلقين وناسخين لتلك الحضارة،وإنما كانوا مطورّين لها ومبدعين فيها. وانجازاتهم العظيمة في مختلف المجالات العلمية والحضارية شكلت فيما بعد مقدمة غنية لأوروبا لصناعة نهضتها الحديثة بعد السبات والتخلف الطويل للقرون الوسطى.

اما في المجال الديني المسيحي – الاسلامي واللاهوتي الفقهي، فلقد كان ايضاً للعرب المسيحيين وللحوارات الدينية مع المسلمين في العقود الاخيرة للخلافة الاموية والقرون الأولى للخلافة العباسية، تأثير بارز للمنطق اللاهوتي المسيحي على علم الكلام الاسلامي، وللرهبانية على الصوفية، وللتفسير الرمزي التأويلي لا الحرفي للكتب المقدسة. هذا عدا عن مسائل الارادية والجبرية وحق الاجتهاد وتغليب العقل على النسخ والنقل.

النهضة الاوروبية كخلفية لنهضة العرب المسيحيين

يُعيد المؤرخون والباحثون عصر التنوير والنهضة الاوروبية إلى بدايات القرن السادس عشر. لكنه اكتسح عموم أوروبا ونضج وتبلوَر في القرنين الثامن والتاسع عشر. كانت تلك نهضة عارمة، فكرياً وعلمياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. نهضة ارتبطت بثورات اجتماعية ضد أنظمة الاقطاع والملكية المطلقة وهيمنة المؤسسة الكنسية المتحالفة معها، وبثورة صناعية واكتشافات واختراعات علمية وتكنيكية، وبحركة فكرية فوّارة أخضعت كل شيء إلى محكمة العقل، فإما أن يثبت حقه في الوجود أو يزول.

أصبح شعار الثورة الفرنسية عام 1876:"الحرية والأخاء والمساواة" ما يشبه الدين لأوروبا يومها. واصبحت الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفصل الدين عن الدولة "الاقانيم المقدسة الثلاث" للعقد الاجتماعي الجديد.ومن الطبيعي ان يقود كل هذا إلى "ربيع الشعوب" الاوروبية، سنوات 1840 – 1848. فانهارت امبراطوريات واستقلت شعوب وقامت دول قومية وطنية جديدة، إذ أن حق تقرير المصير للشعوب الاوروبية وحتى حرية الفرد الذات أيضاً أصبحا من المقدسات.

أما الشرق العربي فكان يغط يومها في سبات وتخلف وركود عميق، في ظل هيمنة خلافة عثمانية اصبحت "رجلاً مريضاً". لم يعد الشرق منتجاً للحضارة ومصدّراً لها، بل متلقياً لبعض فتاتها من أوروبا حديثة تتطلع إلى استعماره واقتسامه. وليس بالامكان لثقافة القنانة والاقطاع والاستبداد المطلق ان تصمد امام ثقافة رأسمالية صاعدة حطمّت المسلمات القديمة وجعلت العلم ملكية عامة وقوة انتاجية جبارة.

لم يعد بإمكان السلطنة العثمانية ان تنعزل عن العالم، ما دامت تريد البقاء. لذلك تضطر إلى توقيع معاهدات ومنح امتيازات وفتح اسواقها للاستيراد وللتصدير، ومدنها وموانئها للقنلصيات وللممثليات الاوروبية- فرنسا وانجلترا وبروسيا والنمسا وروسيا، وكذلك لامريكا. ترافق هذا مع ما عُرف بنظام "الحماية" إذ كانت كل دولة اوروبية عظمى تضع تحت"حمايتها"، بموافقة السلطنة، طوائف ومذاهب دينية مسيحية ويهودية.
تبع هذه الاجراءات قدوم الارساليات الدينية التبشيرية الاوروبية والامريكية على اختلاف مذاهبها إلى بلاد العثمان والسماح لها باقامة مؤسسات فيها – (بابوية لاتينية، وكاثوليكية، وانجيليكية، واورثوذكسية).وقامت تلك الارساليات بفتح مئات المدارس وبناء مؤسسات للخدمات الصحية والاجتماعية.

أعقب هذه السماحات والفرمانات العثمانية لجوء السلطنة إلى تعميم نظام"الملّة". والمقصود "بالملّة" مجموعة لرعية من المواطنين من أتباع مذهب ديني آخر (غير مسلم)،جرى السماح لها بأن تدير شؤونها الداخلية الخاصة باستقلالية دينية – طائفية بقيادة رجال الدين. بهذا يصبح الانتماء الديني – المذهبي انتماء هويّاتي خاص يتمتع ببعض الاستقلالية والادارة الذاتية.

وكان قد سبق ورافق كل ما ذكرناه سابقاً (معاهدات، امتيازات، حماية، ارساليات، ملّة) اصلاحات دستورية عثمانية عميقة.نذكر اهمها:"خطي شريف كلخانة" عام 1839 و"خطي شريف همايون" عام 1956، ومن ثم إعتماد دستور جديد عام 1876 إبان خلافة السلطان عبد الحميد الثاني. أبطلت هذه الاصلاحات الدستورية عملياً اعتماد الشريعة الاسلامية كأساس ملزم للتشريع وللقضاء بحق المسيحيين وأعفتهم من دفع الجزية وضريبة الخراج وسمحت بخدمتهم في الجيش، أو دفع البدل.

هكذا وصلت بعض شذرات واشعاعات النهضة الاوروبية إلى داخل السلطنة، وتراكمت عقداً بعد آخر المقدمات المادية والثقافية الأولية لحركة التنوير العربية. وأصبح العرب المسيحيون من طلائعها وروادها الاكثر والابرز والأعمق والأبعد في تبنيها وملائمتها للوضع العربي. هذا دون التنكر، قيد أنملة، لحركة الاصلاح والتنوير العربية الاسلامية وروادها (حاكم مصر محمد علي، والأمراء المعنيون والشهابيون في لبنان، والافغاني والكواكبي والطهطاوي وآخرون).

• التنوير العربي: يُجمع المؤرخون والباحثون على تحديد عصر التنوير العربي الحديث من سنة 1798 إلى سنة 1920، اي منذ بداية حملة نابليون على مصر وانتهاء بانهيار الخلافة العثمانية وتجزئة العالم العربي وفق اتفاق سايكس – بيكو وبدء حكم الانتداب البريطاني والفرنسي على بلاد الشام والعراق. وكانت بلاد الشام- لبنان اولا وسوريا وفلسطين – حيث قطنت غالبية العرب المسيحيين هي المهد للتنوير. كذلك مصر ايضاً، لما توفّر عندها من نهضويين عرب مسلمين وتحت تأثير هجرة متنورين لبنانيين وسوريين اليها. لكن نضوج مجالات وطروحات التنوير العربي جرى منذ اواسط القرن التاسع عشر وحتى عشية اواسط القرن العشرين.

لا يعود الدور الريادي والطليعي للعرب المسيحيين لكونهم مسيحيون.وكأنّ الانسان حتى يكون متنوراً يجب ان يكون مسيحياً. موقف كهذا عنصري بجوهره ويتنافى مع العلم. الذي يصنع التنوير لا بدّ إلا أن يكون متعلماً ومثقفاً ويجيد اللغات الاجنبية، حتى يكون بامكانه الاطلاع على منجزات النهضة الاوروبية. هذا عدا عن انتمائه، اقتصادياً واجتماعياً، للفئات المتوسطة ومن ذوي المهن الحرّة ومن اصحاب القدرة على التأليف والابداع.

كل تلك المقوّمات للعملية التنويرية توافرت لدى طليعة عربية مسيحية بفضل ما ذكرناه سابقاً من معاهدات وامتيازات وإجراءات أتاحتها السلطنة العثمانية لدول أوروبية، وبفضل الإرساليات التي قامت بدور خاص في "نشر" التنوير. وغني عن البيان أن الدول الأوروبية وكذلك كنائسها أولت اهتماماً خاصاً بالمسيحيين العرب ضمن دولة الخلافة، تعليمياً وإعداداً مهنياً وتوظيفياً في مؤسساتها واجهزتها، وحتى كوكلاء لشركاتها الاقتصادية.

مجالات ومساهمات المتنوّرين والنهضويين العرب المسيحيين


يصعب، ولا من متسع لهذا أصلاً في ورقة بحث، تعداد كل مجالات وحقول التنوير وذِكر جميع الأعلام العربية المسيحية الرائدة في صناعته. نستطيع القول انه ما من مجال ثقافي وادبي وتعليمي وعلمي واجتماعي، بما فيه السياسي والاقتصادي والفكري والقومي والوطني، الا وطرقه هؤلاء. نكتفي أدناه بإيراد المجالات الاساسية:

• التعليم- قامت الارساليات بفتح مئات المدارس الابتدائية والثانوية في عشرات البلدات حيث يتواجد عرب مسيحيون. وتنوّعت فيها مواضيع التدريس – اللغة العربية وآدابها والحساب والتاريخ واللغات الاجنبية (الانجليزية والفرنسية والروسية والالمانية وغيرها). كل مدرسة لإرسالية درسّت لغة الدولة التي تتبع لها. كذلك جرى فتح مدارس مهنية. حدث هذا في دولة سلطنة ندرت فيها المدارس واقتصرت فيها مواضيع التدريس على اللغة والدين ومبادىء اولية في الحساب.

جرى تأسيس اول مدرسة ارسالية في لبنان – عين طورا – عام 1734 على يد الكاهن بطرس مبارك، وتمّ فتح اول مدرسة ثانوية للبنات عام 1833 في بيروت. بلغ عدد المدارس الامريكية الانجيلية وحدها 390 مدرسة حتى عام 1885، وعدد المدارس الروسية في بلاد الشام 120 مدرسة في مطلع القرن العشرين. ينتبه المتنورون العرب المسيحيون لأهمية المدارس فيسارعون إلى فتح مدارس وطنية. يؤسس بطرس البستاني مدرسة وطنية عام 1863 ويؤسس المطران يوسف الدبس مدرسة "الحكمة"، وهكذا يفعل آخرون.

وتؤسس ارساليتان امريكيتان اول جامعتين في الشرق العربي– الجامعة الامريكية في بيروت عام 1866 وجامعة القديس يوسف عام 1874. اما الروس فيفتتحون معهدين لاعداد وتخريج المدرسين (سيمينار)، الاول دار للمعلمين في الناصرة عام 1886 والثاني للمعلمات في بيت جالا عام 1890.

مهما بالغ المرء في تقدير دور تلك المدارس في محو الأمية واكساب الطلاب ملكية إتقان اللغات الاجنبية، يبقى مقصّراً في الإحاطة باعدادها للقاعدة المادية والثقافية لانطلاق النهضة التنويرية. يكفي ان نشير إلى ان نصف المتعلمين في عموم دولة الخلافة العثمانية، في القرن التاسع عشر، من خرّيجي تلك المدارس. وكذلك مئات العرب المسيحيين الذين قصدوا امريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا لمواصلة دراستهم الجامعية. هذا عدا عن مئات الأكاديميين والمدرسين والتراجمة الذين تخرجوا من الجامعتين الامريكيتين في لبنان ومن المعهدين الروسيين لاعداد المعلمين، ومن جامعات في امريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشير إلى ان من المدارس الروسية في بلاد الشام ومن جامعات روسيا تخرّج ميخائيل نعيمه وبندلي الجوزي وخليل بيدس ونسيب عريضه وفارس نمر واسكندر الخوري البيتجالي وغيرهم. وبفضل مدارس ومعاهد وجامعات الارساليات ظهرت كوكبة واسعة من المترجمين الذين نقلوا إلى العربية عن اللغات الأوروبية شتى المقالات والابحاث العلمية والفكرية والكتب الادبية.بهذا أوصلوا لشعبهم العربي منجزات النهضة الأوروبية في شتى المجالات بما فيها الابداع الادبي الحديث الروائي والقصصي والمسرحي والشعري.

ولا نبالغ ان قلنا ان المدرسين والاطباء والمحامين والمحاسبين والمفكرين النهضويين الاوائل، خصوصاً في بلاد الشام، كانوا من خريجي تلك المدارس والمعاهد والجامعات. ولا ننسى أيضاً الصحفيين واللغويين والمترجمين او الادباء والكتاب المؤرخين وشتى مؤلفي مختلف الابحاث، وكوكبة الشخصيات التي اسست للفكر القومي والوطني العروبي.

• الطباعة والصحافة:يؤسّس الشماس السوري عبد الله الزاخر من حلب، بمساعدة البطريرك اثناسيوس دبّاس المطبعة العربية الأولى سنة 1734 في دير الشور. وتقوم ارساليتان امريكيتان بفتح مطبعتين عام 1834 وعام 1848. وتتابع بناء عدة مطابع عربية بين الاعوام 1855-1874، يكون بعض مؤسّيسها حنا الروماني وخليل طوري وابراهيم النجار ويوسف شلفون وجرجس شاهين وبطرس البستاني وحنا جرجس غروزي وخليل سركيس.بفضل هذه المطابع العربية جرت طباعة الكتب المدرسية والصحف واعادة ونشر كتب التراث وكتب الانتاج الادبي والفكري والسياسي الحديث.
أما على صعيد اصدار الصحف والمجلات فيكون اول من يصدر دورية عربية غير رسمية، أي غير تابعة للسلطنة،رزق الله حسون ويسمّيها "مرآة الأحوال" وذلك سنة 1855. ويليه في اصدار الصحف اسكندر شلهوب– صحيفة "السلطنة" عام 1857، وخليل خوري- "حديقة الاخبار" عام 1857. ثم يليه فارس الشدياق وبطرس البستاني. وتصدر هند نوفل في مصر عام 1892 اول مجلة للمرأة هي "مجلة الفتاة".

تنشط حركة اصدار الصحف من قبل المتنورين العرب المسيحيين بين اعوام 1870 و 1898، اذ يصدرون 17 صحيفة ومجلة في كل من لبنان ومصر. نذكر منها"الاهرام" لسليم وبشارة تقلا، "و"الهلال" الجرجي زيدان، و"البيان" و"الضياء" لابراهيم اليازجي، و"الجنان" لبطرس البستاني، و"الجنة" لسليم البستاني، و"لسان الحال" لخليل سركيس، و"المقتطف" ليعقوب صروف وفارس نمر، و"مصر" و"مصر الفتاة" لأديب اسحق، و"المشرق" للكاهن لويس شيخو، و"النحلة" و"النجاح" للقس لويس الصابونجي، وغيرها من صحف ومن مصدرين لها. اما اول مجلة مختصة بالادب فيصدرها خليل مطران عام 1900.

وتصدر في مطالع القرن العشرين في فلسطين صحف ومجلات، هي "الكرمل" لنجيب نصار عام 1908، و"الأصمعي" لحنا العيسى– 1908 و"فلسطين" لعيسى العيسى– 1911،و"المنادي" لسعيد جارالله– 1912. تخصص تلك الاصدارات حيّزاً واسعاً من صفحاتها للتحذير من الخطر الصهيوني ولتدوين نشاط الحركة الوطنية الفلسطينية التي بدأت تتأسس ولنقد ممارسات القيادة الدينية في البطريركية المقدسية وللدعوة لوحدة الامة العربية وتحقيق الاستقلال لشعوبها.

• اللغة والتراث والأدب: يولي النهضويون العرب المسيحيون اهتماماً خاصاً لإحياء اللغة العربية الفصحى بصفتها وعاء وأداة الثقافة، ولتخطي التفرقة والتجزئة الجغرافية والقبلية بلهجاتها المحلية ولغتها العامية، وكذلك لعصرنة اللغة وللتأسس للغة الصحافة. هذا إلى جانب إحياء التراث العربي القديم.والملفت للنظر ان من فعل هذا اولاً هم رجال دين مسيحيين وفي اديرتهم، بالاضافة إلى كوكبة من باحثين عرب مسيحيين وادباء انتجوا ادبياً وترجموا ادباً غربياً ونقلوا للعربية منجزات النهضة الأوروبية.

هكذا جرى وضع واصدار كتب القواعد والنحو وشتى قواميس اللغة العربية واعادة اصدار امهات كتب التراث، عدا عن وضع مؤلفات وابحاث عن الادب العربي وتاريخ العرب القديم وعن التمدن والحضارة العربية الاسلامية في عصور الخلافة.وكأنّ بالعربي المسيحي يطلقها صرخة نهضوية عروبية في زمن التتريك:هذه لغتنا وهذه خلفيتنا التراثية والثقافية والتاريخية ومنجزاتنا الحضارية. عليها نعتمد ومنها ننطلق لبناء ثقافتنا العروبية الحديثة بدون انعزال عن التواصل والتلاقح مع مكتسبات ومساهمات التنوير الأوروبي.

هذا، أعلاه ما اسّس له وانتجه ناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي وبطرس البستاني وسليم وسليمان البستاني وجورجي زيدان وفارس الشدياق ولويس سيخو وجرمانُس فرحات وماري انسطاس الكرملي وسليم وبشارة تقلا وفارس نمر ويعقوب صروف،وغيرهم.

ولا يفوتنا ذكر المساهمات الأدبية الراقية لأدباء وكتاب"الرابطة القلمية":جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا ابو ماضي وفوزي معلوف وأمين الريحاني ونسيب عريضه وندره حداد والياس فرحات... وغيرهم من اعضاء الرابطة. ولأسيا داغر تعود بداية التأسيس للفن السينمائي. أما أعلام الرواد للفن المسرحي فيبرز منهم:مارون وسليم النقاش وخليل القباني وجورج ابيض ونجيب حداد ويوسف واسكندر فرح واديب اسحق.

• الدين وآفة التعصب: اشغل هذا الموضوع العديد من المتنورين العرب المسيحيين، بدون ان ينطلقوا من كونهم مسيحيين وانما من منطلق عروبتهم ووطنيتهم وانتمائهم للوطن الواحد والجامع. الدين بالنسبة لهم قيم وأخلاق سامية، وبين الاديان المختلفة من المشترك والجامع اكثر بما لا يقاس من الاختلاف في الجزيئات والطقوس والمعتقدات الدينية. اما التعصب الديني والطائفية فما هما الا آفة تهدد وحدة الأمة وتعاضها القومي والوطني والاجتماعي.ومن واجب المتدينين عموما ورجال الدين خصوصاً ابراز القيم والمبادىء المشتركة.

أما الأمة عموماً، كما يؤكد المتنورون، فمن واجبها إذا أرادت أن تكون أّمة وتحافظ على وحدتها... أن تعتمد تاريخها وحضارتها المجيدة، لا انتماءاتها الدينية والطائفية المختلفة والاختلافات فيما بينها وتسعير العداوات بخصوصها. وعلى الدولة ان تفصل بين الدين والسياسة إلى جانب ضمانها لحرية الأديان. أي ان تكون دولة مواطنة علمانية ومدنية، بلغة عصرنا.

يقول بطرس البستاني:"حب الوطن من الايمان" ويجعل هذا القول شعاراً يتوّج صحيفته "الجنان". وحين تقع الفتنة الطائفية الاهلية في لبنان عام 1860، بحق المسيحيين، يُنشىء افتتاحية في صحيفته مخاطباً فيها الناس بدعاء:"يا أبناء الوطن"، منادياً بفصل أديان الله عن السياسة لأن "الوطن للجميع". ويكون اديب اسحق اول من قال ونشر بالعربية شعار"تحيا الامة، يحيا الوطن"، مستلهماً اياه من شعارات الثورة الفرنسية عام 1789. ويدعو اسحق إلى اعتبار اللغة والتاريخ والحضارة المجيدة القديمة للعرب، لا الديانات، اساساً للأخوة العربية، مضيفاً أن الاخلاص للوطن يجعلنا جميعاً إخوة.

ويرى فرح انطون انه ليس بإمكان الدين أن يُصلح أوضاع الناس والوطن. ولا بدّ لضمان الاصلاح إلا ان تفصل الدولة بين الدين والسياسة وتسعى لبناء الاشتراكية وضمان العدالة، وتقاوم النفود الأجنبي، وان تقوم على اساس الوحدة القومية والوطنية لابنائها على اختلاف اديانهم وطوائفهم.ويضيف انه يجب عدم تسليم الحكم لسلطة دينية لانها ستظلم الآخرين وتخدم اتباع دينها، لأن كل دين يدّعي ملكيته للحقيقة المطلقة.لذلك يجب فصل الدين عن الدولة لمنع الظلم ولتحقيق المساواة التامة لأبناء الأمة، علماً بان المساواة تتعدى الفروق بين الأديان. أما يعقوب صروف فيعتقد ان التعصب الديني والطائفية هما العائق الاكبر في طريق اصلاح حال الأمة وبناء وحدتها الوطنية.

يؤكد هذه المواقف الواردة اعلاه شبلي الشميّل، لكنه يكون اكثر جرأة وحدة في طرحها وتبريرها مبرراً أن كل الاديان تتفق في الكليات وتختلف في الجزيئيات، لكن وبسبب التركيز على الاختلافات والجزيئيات تفشل في جعل الدين ديناً واحداً والوطن وطناً واحداً للجميع في العالم بأسره.

ويصل الشميّل إلى حد الحسم الاعتقادي التالي: لا يقوى شأن الديانة الا حين ينحط شأن الأمة، ولا يصلح حال الأمة الا اذا ضعفت فيها الديانة.

• الانتماء القومي والوطني العروبي: كان النهضويون العرب المسيحيون الروّاد والطليعة الابرز في التنظير والدعوة للقومية العربية وللاستقلال الوطني ولوحدة الامة، على اختلاف اقطارها وانتماءاتها الدينية والمذهبية. وانطلقوا دوما من كونهم عربا اولاً، لا من انتمائهم الديني.

وبعكس الافتراءات بحقهم، هم رفضوا نظام المحاصصة الطائفية واعطاء مراكز ومواقع في الدولة للمسيحيين العرب بصفتهم مسيحيون. كذلك لم يدعوا وانما تصدوا لدعوات اقامة دولة قبطية او فرعونية في مصر، وبابلية في العراق، وفينيقية في بلاد الشام، او مسيحية في سوريا ولبنان. ورأوا في الحضارة العربية الاسلامية وتمدنها الغابر في زمن الخلافة حضارة لهم ساهم اجدادهم الاوائل في صناعتها، ومنها انطلقوا.

بهذا واصل النهضويون العرب المسيحيون استلهام تراث اسلافهم القدامى منذ القرون الأولى لظهور المسيحية. فأجدادهم كانوا مع التمدن في زمن الجاهلية، ودعموا وحموا الدعوة المحمدية ورحبّوا بالفتوحات العربية الاسلامية وحاربوا إلى جانب العرب المسلمين ضد الروم المسيحيين. وكانت مساهمتهم اكبر من كبيرة في المشاركة في وضع صروح التمدن العربي الاسلامي وتطعيمه بمنجزات الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية.

وحين شنّت أوروبا "المسيحية" من سنة 1096 إلى سنة 1270 حملات لاحتلال الشرق العربي وسمّتها زوراً الحرب"الصليبية"، لتحرير الشرق من المسلمين واعادة حكم المسيحيين، حارب العرب المسيحيون يومها إلى جانب المسلمين ضد أوروبا المسيحية وبابويتها وكنيستها الداعية والراعية للحملات. هكذا تصرفوا ايضاً في التاريخ الحديث بتصديهم للاستعمار الغربي"المسيحي" للأقطار العربية، ولاستبداد وتتريك السلطنة العثمانية. ودعموا الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي وابنه فيصل عام 1916.

هذا الغصن النهضوي العربي المسيحي الحديث من تلك الشجرة الاصيلة التي شربت من وتشربت بماء العروبة. ومن هذا الماء وعلى هذه التربة جرى التداعي لعقد المؤتمر القومي العربي الاول في باريس في حزيران سنة 1913. كان الهدف منه الجمع بين مختلف ممثلي وجمعيات وشخصيات الأطر القومية الوطنية لوضع البرنامج السياسي لحركة وطنية نهضوية عربية. أقرّ المؤتمر مطلب الاستقلال الإداري إلى حد الانفصال واقامة الدولة العربية المستقلة.وكان من المبادرين لعقد المؤتمر والمساهمين الابرز في مداخلاته كل من شكري غانم واسكندر عمون وندره المطران وشارل دباس وجميل معلوف.

وكان للعرب المسيحيين دور بارز في تأسيس وقيادة "حركة القوميين العرب" في اربعينات القرن الماضي. وكذلك في تأسيس وقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي والاحزاب الشيوعية في الشرق العربي، ولعدة احزاب وطنية وقومية وتقدمية اخرى – بما فيها حزب "الوفد" المصري بقيادة سعد زغلول.

وبالعروبة تشربت وللعروبة نظّرت صحف وادبيات واهتمامات النهضويين العرب المسيحيين باللغة وبالتراث والموقف من الاديان (تطرقنا لهذا سابقاً). وكان العرب المسيحيون النهضويون من اوائل من نظّر ووضع مؤلفات عن القومية العربية. نذكر منها كتاب "يقظة الامة العربية" لنجيب عازوري و"يقظة العرب" لجورج انطونيوس، و"نهضة العرب" لجورج علاف. وهذا ما واصله قسطنطين زريق بعد عقود.

والملفت في التنظير "المسيحي" العربي للقومية العربية اجماع اصحابه على كون الإسلام من مكونات الهوية القومية العربية بالاضافة إلى اللغة والتراث والتاريخ المشترك والجغرافيا.هم فصلوا بين القومية والانتماء الديني، مؤكدين ان الامم والدول تقوم على اساس قومياتها بتعدد اديانهاهم. لم يقولوا أبدا أنه يجب أن تكون مسلما حتى تكون عربياً، وانما كونك عربيا يعني ان الإسلام وثقافته من مقومّات هويتك القومية، إذ في ظل تاريخه وحضارته وتراثه وُلِدت وعشت وشاركت وتثقفت واصبحت أمّه.لذلك ما من غرابة في أن يكتب المتنوّر يوسف كرم رسالة إلى عبد القادر الجزائري يدعوه فيها إلى اعتماد مفهوم الأمة على أساس قومي لا ديني. وما من تناقض بين هذه الدعوة السليمة وبين تأكيد كرم نفسه بأنّ الإسلام أحد مكوّنات هويته القومية هو العربي المسيحي.

عن ادب ناصيف اليازجي يكتب الناقد مارون عبود، أن في أسلوبه الكتابي الصارم تقليد للقدامى. لقد طمح لأن يكون الجاحظ في القرن التاسع عشر، وقلد عصر الازدهار العربي القديم في عصر الانحطاط الحديث للعرب.ومن لا يعرفه كمسيحي سوري لبناني تتلمذ على يد راهب مسيحي يظنه انه عاش في الجزيرة العربية ولم يخرج منها.

يسمي جورجي زيدان مجلته "الهلال"، لا الصليب. ويكون مشروعه الأدبي تأليف 22 رواية عن تاريخ الاسلام، ويضع مؤلفات عن الحضارة والتمدن العربي الإسلامي. وحين ينبّه نجيب نصار في افتتاحية مجلته "الكرمل" سنة 1932 إلى وجوب نهضة العرب والخروج عن صمتهم وتقاعسهم وتصديهم للظالم الغربي، يذكرّهم بالمبادىء التي رسمها لنا..."سيّدنا وزعيمنا محمد".

ويحث ناصيف اليازجي العرب على النهوض من سبات اشتاقته المقابر، داعيا للهبة:
تنبهوا واستفيقوا ايها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
الله واكبر ما هذا المنام فقد شكا المهد واشتاقتكم الترب
اما الشاعر القروي سليم الخوري فيدعو إلى دين"جديد":
يا مسلمون ويا نصارى دينكم دين العروبة واحد لا اثنان
اني على دين العروبة واقف قلبي على سبحاتها ولساني
ويؤثر الكفر الذي يوحّد على دين يفرّق:
سلام على كفر يوحّد بيننا واهلا وسهلاً بعده بجهنم

ويتساءل الياس فرحات:فيما التقاطع والاوطان تجمعنا قم نغسل القلب مما فيه من وضر

يتساءل المتنورون العرب المسيحيون: لماذا تخلّف العرب ونهض الاوروبيون؟ وتكون مجمل اجوبتهم عن اسباب تخلف العرب: استبداد وفساد الحكام المتخلفين وخدمتهم لاسيادهم في الغرب، وجمود التفكير، وانزال العقل عن عرشه وسقوطه في الخرافات، وغياب الاجتهاد وحرية الرأي، والتخلي عن اعتماد العلم ونشر التعليم، وغياب المساواة والتكافؤ، وعيش الناس في ذل وشقاء الفقر وتنازع البقاء، والتعصب الديني، واضطهاد المفكرين والمصلحين، وسيطرة الأضاليل واخلاق وطقوس الرياء والمجاملات.

ويشن النهضويون حرباً لا هوادة فيها ضد هذه المفاسد للقومية وللوطن، مستذكرين نهضة العرب في القرون الوسطى وتصديرها لأوروبا الغارقة في جهلها يومها.لا يقع هؤلاء النهضويون في العدمية القومية والنهلستية،ويتغنون بالماضي ليس من باب "كنّا" و"كنّا"...، وانما من باب اعتماده كمنطلق لما يجب أن نكون عليه. ويدعون في الوقت نفسه إلى دراسة وتبني منجزات النهضة الاوروبية وملائمتها للوضع العربي، أي ينادون بالانفتاح على الحضارة الغربية لاعادة انتاج الحضارة العربية.

لذا يلجأ المتنورون العرب المسيحيون إلى استعارة وتبني عوامل الغرب في نهضته: القومية والديمقراطية والعلمانية. لأنه بدون هذا"الثالوث" لن تتحقق نهضة العرب. ويضيف اليساريون والتقدميون اجتماعياً منهم عوامل العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة،بما فيها حق المساواة للمرأة وتوفير فرص التعليم للجميع وسيادة القانون العادل.

ولا يعتبر المتنورون العرب المسيحيون نهضة الغرب نتاجاً لثقافة مسيحية، وانما يبرزون كونها تأتت في ظل محاربة هيمنة الكنيسة والاكليروس ونزع سيطرتهما على الدولة والمجتمع. وفي دعوتهم للاستفادة من النهضة الاوروبية لا تشوبهم شائبة الاذدباب والتبعية للغرب.بل تبرز عندهم استعارة "ثالوث" سلاح الغرب في نهضته، ايضاً لمحاربة سعيه لاستعمارهم وللهيمنة على مقدرات امتهم العربية.

أجاد النهضوي امين الريحاني في التعبير عما ورد اعلاه. هو يدعو العرب للاعتماد على حضارتهم الشرقية القديمة إلى جانب النهل من افكار النهضة الاوروبية، ويطالب بمواجهة الاستبداد والتخلف العثماني دون ان يرى في الغرب منقذاً. وحين تنهار خلافة السلطنة العثمانية ويحكم العرب الانتداب البريطاني والفرنسي، يكتب الريحاني:"انتقلنا من عصر عبد الحميد إلى عصر الانتداب "السعيد"... من ظلم ظاهر مختل إلى ظلم خفي منظم، من ظلم يحمل النبوت والكرباج فيتقيهما الناس إلى ظلم يحمل الدساتير والمعاهدات".

تلخيص لمساهمات ولدورالنهضويين العرب المسيحيين

نكتفي بهذا القدر الذي اوردناه سابقاً عن مجالات ومساهمات المتنورين من عرب مسيحيين، علماً بأنهم أبدعوا في مجالات الثقافة والحضارة والمهن الحرّة والعمل الوطني والحياة الاجتماعية، والمسألة القومية والدين والتديُن، عدا عن نقد النظام السياسي القائم وطرح البدائل ومحاربة الإستبداد، والدعوة للديمقراطية، وتأسيس جمعيات وتنظيمات وأطر بما فيها السرية. كذلك كان لهم دور طليعي بارز في تأسيس الاحزاب القومية والوطنية والشيوعية ايضاً، وفي قيادتها. ولم يتورع بعضهم عن النشر للفكر الشيوعي او، مثلاً، لنظرية داروين عن نشوء الأجناس، في مجتمع اعتبرا هذا كفراً.

تحدى هؤلاء النهضويين الرجعية العربية وركود مجتمعهم وتخلفه،لم يهابوا معاداة مجتمع إعتاد تخلفة منذ قرون – منذ إنهيار الخلافة العباسية ودخول هولاكو إلى بغداد وحرق وإغراق حضارتها ومكتبتها. وتصدوا لاستبداد الحكام والسلاطين الاتراك وولاتهم في المقاطعات العربية. وكانوا على استعداد لدفع ضريبة الظلم والملاحقة والهجرة و السجون والإستشهاد في مواجهة التعسف العثماني. يضيق الخناق عليهم في بلاد الشام فيهاجر بعضهم إلى أمريكا وفرنسا ليواصل من هناك حمل الهم العربي. ويهاجر آخرون إلى مصر التي أتاحت لهم فسحة أوسع من الديمقراطية فينقلون اليها "عدوى" التنوير والنهضة.

كانوا من روّاد وطليعة النهضة العربية الحديثة ومن مؤسسي بداياتها وطروحاتها، ثقافياً وسياسيا واجتماعياً. فعلوا هذا من خلال الاهتمام بالتعليم وفتح المدارس والاهتمام بالعلوم ونشرها، وإحياء التراث المجيد للحضارة العربية الإسلامية وللغة العربية وآدابها، وتأسيس المدارس الوطنية. هذا عدا عن تأسيهم للمطابع واصدار الصحف والمجلات، والتأليف والترجمة ونشر الإنتاج الأدبي والعلمي، وبناء الجمعيات والمكتبات العامة. قاموا بهذا من خلال اطلاع واسع على منجزات النهضة الأوروبية، مع ارتكاز متين على أصالة حضارتهم العربية.

وكان بعضهم طليعة في طرح الفكر القومي الديمقراطي واليساري والتقدمي سياسياً واجتماعياً، وأعلوا شأن الانتماء العروبي. لا الهوية الدينية. ودعوا لفصل الدين عن الدولة ومحاربة التعصب الديني، دون المس بمبادىء وقيم الدين أو التنكر للتراث الإسلامي في بناء الهوية القومية العربية. ولم يتهاونوا في مسألة التقدم الاجتماعي وحقوق ومساواة المرأة. بهذا كله كانوا روّاداً طلائعيين في وضع الأسس لنهضة قومية ولنظام سياسي ديمقراطي ينشل الشرق العربي من مستنقع تخلفه ويجدد حضارته.

لم يكن طرحهم للفكرة القومية العربية نتاج جهد "لأقلية نصرانية" أرادت أن تكون جزء من الأغلبية من خلال إضعاف الهوية الإسلامية. يستطيع الشيخ القرضاوي وغيره من بعض منظرين إسلاميين، أن يختبئوا وراء هكذا تنظير بائس وغير علمي وغير صادق تاريخياً. هذا تنظير يداعب الطائفية بهدف المس بالفكر القومي النهضوي، من منطلق التباكي على خلافة فاسدة ومتخلفة كانت مسكونة بحتمية انهيارها، وكان الأتراك والعرب المسلمون من السعداء لتخلصهم منها وثاروا ضدها.

النقاش والاختلاف بهذا الخصوص ليس إسلامياً- مسيحياً. إنما هو نتاج موقف يرى في القومية عموماً بدعة ومؤامرة مسيحية من نتاج الغرب، ويرى في العربية بدعة ومؤامرة من نتاج العرب المسيحيين، وذلك في مواجهة موقف قومي عروبي لعرب ينتمون إلى الديانتين الإسلامية والمسيحية. ولا يخص النقاش احترام الهوية الإسلامية واعتبارها أحد مكونات الهوية العربية، وإنما إنكار الهوية العربية القومية وإحلال الهوية الدينية مكانها وجعلها هي الأيديولوجيا والانتماء والهوية النقيض للقومية.

لم يتنكر القوميون العرب المسيحيون للحضارة العربية الإسلامية ولا للإسلام عموماً كمكّون مركزي، تاريخيا وثقافياً، من مكونات الهوية القومية العربية. هم بدأوا أصلا حركتهم النهضوية بإعادة إحياء تلك الحضارة ولغتها وتراثها وآدابها وتاريخها. وسعوا دوما للتجسير بين الهوية العربية، على اختلاف ديانات العرب ومللهم، وبين الإسلام. الذي يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة في أدبيات القوميين العرب وممارساتهم يفتري ويتجنى ليس على المسيحيين العرب فقط، وإنما على العروبة عموماُ، بمسلميها ومسيحييها.

رفض النهضويون العرب المسيحيون تحويل الديانات، وأولا الديانة المسيحية، من دين وايمان إلى هوية بديلة عن الهوية القومية. ورفضوا كذلك تحويل المذهب العقيدة، إلى طائفة – إلى ملّة ومن ثم جعل الملّة هي الأمة. ورأوا بالمسيحية مكوّنا من مكوّنات هويتهم الثقافية. لكنهم لم يتنكروا للحظة لكون الإسلام، تاريخيا وحضاريا وثقافيا، مكونا من مكونات هويتهم القومية والثقافية الجامعة كعرب، فالعروبة هي الغالبة بالنسبة لهم. وفي العروبة لا توجد "أقلية" و"أكثرية" و"نحن" و"هم" ، بل توجد غالبية عربية مطلقة بانتماءات دينية مختلفة تخص علاقة الإنسان بخالقه، في مجتمع يجب أن يفصل الدين عن السياسة وعن الدولة – فالدين لله والوطن للجميع.

هذا، الوارد أعلاه، ما قاله ونظّر له النهضويون والقوميون العرب المسيحيون (والمسلمون طبعاً) في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهذا ما مارسوه في عروبتهم.كانت العروبة علمهم ونبراسهم في مواجهة الطائفية وفي طرح المطالب الوطنية للعرب والتصدي للتبعية وللاستبداد والتمييز والاستعمار الأجنبي "إسلامياً" كان أم "مسيحياً"، عثمانياً تركيا أم انتداباً بريطانيا ً – فرنسياً. وعلى هذا استحقوا ويستحقون كل التقدير من أمتهم العربية، بصفتهم دعاة طلائعيين لقومية ووطنية نهضوية تحدّت وتعدّت المفاهيم السائدة في العالم العربي في ذلك العصر.

بناءً على ما تقدم، نلّخص ان النهضويين العرب المسيحيين تجنبّوا وبنجاح الوقوع في ثلاثة مآزق: اولاً، مأزق الإنضواء والانطواء تحت سقف وفي شرنقة الطائفية المسيحية. ثانياً، مأزق النسخ الذليل لحضارة الغرب والتبعية العمياء له وفقدان هويتهم وحضارتهم العربية المجيدة. ثالثاً، مأزق الذوبان أو التقوقع ضمن أمة إسلامية أو مسيحية متخيّلة تحلّ الدين و/أو الطائفة و/أو الإثنية محل الهوية القومية الجامعة والواحدة.

النهضويون المسيحيون والربيع العربي

عنوان ورشتنا الاقليمية هذه"المسيحيون وربيع العرب". ومن المطلوب مني، في اطار مداخلتي عن الدور النهضوي للعرب المسيحيين، أن أتطرق أيضاً لدورهم في ظل"الربيع العربي". لكن دعونا اولاً نقيّم ما آل اليه هذا الربيع...

أتحفظ أولاً من التسمية – "الربيع العربي"، فهي منسوخة من"ربيع الشعوب" الاوروبية في سنوات 1840-1848، ومن "ربيع براغ" عام 1968. وفي الحالتين- تختلف نتائج ذاك الربيعين عن "ربيعنا العربي". ثم، ثانياً، عن أي ربيع عربي يجري الحديث بينما "ننعم" بـ 22 دولة عربية إقليمية طال"الربيع" أربع دول منها فقط، ولم تكن هي بالضرورة الأحوج لربيع منشود... او لنقل ان الدول ال 18 الأخرى ليست أقل حاجة له، إن لم يكن أكثر."ربيع" إقليمي هذا، مصري وتونسي وليبي ويمني، لا ربيع عربي عام. أي أن حاله مثل حال دولنا، فهي الاخرى ليست دولة عربية واحدة وجامعة وانما دول إقليمية سايكس – بيكويه.

باعتقادنا جرى الالتفاف على ومن ثم السرقة والمصادرة لهذا الربيع من قبل حركات وأطر إسلاموية أصولية وأخرى رجعية، وبدعم وتدخل امريكي واضح. وبلغتي الصحفية، كتبتُ قبل اكثر من سنة، انه تجري عملية"تخريف" لهذا الربيع، بمعنى تحويله إلى خريف. وبمعنى "الخرفنة" اي فقدان العقل وبوصلة العمل الوطني والتحرري والنهضوي المنشود. وأشبّه اليوم"الربيع" الحاصل بما تكتبه الشركات الاقتصادية على منتوجاتها من معلبات الحليب الناشف:"قليل الدسم سريع الذوبان". لقد جرى تحويل الهبّة الربيعية إلى ردّة.والاساس الذي تبقى من"الربيع العربي"هو ربيع ملايين المنتفضين من العرب الذين قطعوا حاجز الخوف وملأوا الشوارع والساحات العربية الغاضبة بالهتاف:"الشعب يريد اسقاط النظام"، وطرحوا البديل المنشود.

مشروعية اصلاح حال الوطن والاطاحة بنظام الفساد والافساد والاستبداد، وحق تحصيل الحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية، وضمان الديمقراطية وحرية القول والفعل، وتعزيز الهوية القومية والوطنية الجامعة للأمة على اختلاف أطيافها... لا تعني مشروعية تفسيخ المجتمع وتفكيك الوطن والتأسيس لحروب أهلية ولنزاعات إقليمية، والتبعية للأجنبي والإستنجاد والاستقواء به عسكرياً ضد ابناء الامة، واقامة فدراليات وكانتونات.

وتحرير الدين من عسف السلطة ومما علق به وبمؤسساته من شوائب سياسية دنيوية... لا يعني تسعير الطائفية والعداوات بين المذاهب والفرق الاسلامية نفسها، وتجاه المسيحية وحرق كنائسها والهجرة القسرية لأتباعها، وإغراق المجتمع بسيل من فتاوى جاهلية لجهلاء بالدين نصبّوا أنفسهم هم"والامراء والمرشدون" قيّمين على الدين ومالكين له ملكية خاصة وناطقين باسمه ومفسّرين أحاديين لكلام الله واحاديث رسوله وسنّته. هذا تسييس وتطييف وتحزيب للدين، بمعنى تحويل الدين إلى طوائف والطوائف إلى احزاب.

فأي ربيع عربي هذا؟ ربيع بأي حال عدتّ يا ربيع،بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟ (مع الاعتذار للمتنبي). هذه "فوضى خلاّقة" (الأصح مدمّرة) توعدّتنا بها الادارة الامريكية إبان رئاسة بوش الإبن. اصبحت الأمة أمماً دينية وطائفية وإثنية. واصبح الحق بالمقاومة وتحصيل السلاح لها ودعمها والمشاركة فيها... يخص الدولة السورية وقطع العلاقات بها- (لا اسرائيل) - وحرق وطنها، لا تحرير فلسطين وقدسها وجامع الاقصى من نير احتلال صهيوني. اسرائيل اصبحت دولة شقيقة في ربوع هكذا "ربيع".

واستحال حلم الشعوب العربية بربيع عربي يوحّدهم وينهي إقليمية أقطارهم ويجعلهم حقاً أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة تنشىء دولة عربية جامعة، إلى حلم بائس ينشد مجرد الإبقاء على دولهم الإقليمية القائمة لا تفسيخها وإعادة تقسيم المقسّم وتجزيء المجزء.

لذلك كله اتحفظ من السؤال المطروح عمّا يريده المسيحيون العرب من الربيع العربي وما هو موقفهم منه. السؤال الأصح هو ماذا يريد العرب من الربيع؟ لأن موقف المسيحيين هو كموقف سائر ابناء شعبهم العربي.

يريد غالبية العرب "بمسليحييهم"، أي بمسلميهم ومسيحييهم، أن يقود الربيع إلى بناء دولة عروبية مدنية وعلمانية وديمقراطية تفصل الدين عن السياسية وتكون موحدة وجامعة وطنياً. دولة مواطنة تضمن المساواة التامة بين المواطنين وحريتهم بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وإثنياتهم. دولة تتبنى دستوراً ديمقراطياً ومدنياً يفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ويضمن حق تداول السلطة وحرية التنظيم الحزبي والمجتمعي المدني. دولة تلتزم بحقوق الإنسان، كما نصّت علهيا المواثيق الدولية، وتحقق العدالة الاجتماعية.

لا نتنكر،بما اوردناه أعلاه من سمات الدولة العربية الربيعية المنشودة، لخصوصية بعض مطالب العرب المسيحيين بناء على خصوصية هويتهم الدينية. لكن تحقيق الدولة لتلك المواصفات والسمات المذكورة اعلاه ينفي مطالب خصوصيةعديدة لمواطنيها على اساس هويتهم الدينية والطائفية والاثنية.

ولو استشرنا المتنورين والنهضويين العرب المسيحيين الذين استعرضنا مواقفهم في ورقة البحث هذه، عمّا يريده العرب المسيحيون، لأجابونا: الهوية الحضارية للعرب المسيحيين هي العروبة تراثياً وتاريخياً وتطلعات، وهي تحتضن شتى الخصوصيات. وكنا قد طالبنا دوما برفع التمايزات إلى مصاف الوطن الواحد والوطنية الجامعة. ونظرّنا منذ القرن الثامن عشر حتى عشية اوساط القرن العشرين لتحقيق هذا، متخذين القومية والديمقراطية والمساواة والعدالة بوصلة ونهجا. لذلك من المؤسف ان يستمر طرح السؤال نفسه في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وان تبقى النهضة الربيعية للعرب منشودة، لا واقعاً قائماً.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]