بالعودة إلى أصول اللغة العربية، ومظانها الأولى، وعيونها الأصيلة، الممتدة في عمق الزمن، والمتشعبة في تراث العرب الأقدمين، وإرث الشعراء الخالدين، وأشهر الخطباء والمتكلمين، ومتذوقي اللغة الحقيقيين.
نجد أن الحرية هي من أهم صفات الكاتب، وهي من أهم ما يميزه، وأكثر ما يعرفه، فهي مداد الكاتب، ونبع الشاعر، ومعين الفليسوف، ووقود المفكر، إنها شمس عطاء المستنيرين، وإلهام الشعراء، وسبب إبداع الكتاب والمفكرين.
الحرية صفةٌ تلازم الكاتب ولا تفارقه، وهي تنعكس على أفكاره ومفرداته، وتظهر في مواضيعه وعناوينه، وتبدو في أسلوبه، وتبرز في ثنايا حديثه، يلمسها القارئ، ويحس بها الناقد، ويجدها المتعلم، ويدركها الجاهل، ويكتشفها المراقبون، ويحددها بسهولةٍ الناقدون والمدققون.
في أجواء الحرية لا كذب ولا نفاق، ولا مواربة ولا مداراة، ولا خوف ولا قلق، ولا جبن ولا رهبة، ولا حصانة ولا سيادة، ولا قداسة ولا محرم، ولا ممنوع ولا مكروه، ولا عظيم ولا كبير، ولا تافه ولا حقير، ولا تطبيل ولا تزمير، ولا تصفيق ولا تهزيج.
إنما جرأة في الحديث، وشجاعة في الكلام، وسلاطة في اللسان، وبيانٌ للحق، ومواجهةٌ للباطل، وتحدي للظلم، وتصدي للجلاد، ومقارعة للسلطان، وكشفٌ للحقائق، وبيانٌ للخفايا والأسرار، تنبيهاً وتحذيراً، ونصحاً وتوجيهاً.
فلا كاتب بدون حرية، ولا عطاء ولا إبداع لمكبل اليدين، أو معصوب العينين، أو موثوق الرجلين، أو محدود الرؤية، مكفوف البصيرة، ولو كان حراً طليقاً، يركب الطائرة ويجوب في كل الدنيا، ويسير على قدميه ويزور من شاء رغبته.
ولا يكون الكاتب كاتباً إذا أُمر بالكتابة، أو وجهه غيره، وسيره سيده، وحدد له المسار حاكمه، وأصبح انعكاساً لما يريد غيره، وبوقاً لما تقرره حكومته، وتحدده قيادته، ولو كان كاتباً مبدعاً، أو ناصاً جميلاً، أو قاصاً مشهوراً.
ولا كاتب تخوفه العصا، ويرعبه السجان، وترهبه السجون والمعتقلات، وتسكته التهم والافتراءات، فيخضع للتهديدات، ويخنع للتوجيهات، ويسلم بالتعليمات، ويرضى أن يكون ضمن القطيع الماشي، يعلو صوته متى أرادوا، وينخمد إذا شاؤوا.
ولا كاتب تحركه الجزرة، وتغريه الهدايا، وتشجعه الحوافز والمغريات، وتعمي قلبه المناصب والمقامات، وتكسر قلمه الأموال والهبات، وتلون صفحاته الغانيات والراقصات، فيكون عبداً للعطايا، وأسيراً للمكرمات، يصدح لهم بما أرادوا إذا امتلأ فاه، وانتفخ بطنه، وضحكت أشداقه، وحمل بين أصابعه سيجاره، ونفخ أمام الناس والمارة دخانه، وبدا أمامهم أميراً أحمراً، منفوخ الأوداج طائراً متنقلاً، يحملونه كصندوقٍ، ويضعونه كحجر.
إنما الكاتب هو الحر في رأيه، والسليط لسانه، والسيال قلمه، والطليق بنانه، والواضح بيانه، والجلي كلامه، المباشر في طرحه، والصادق في عرضه، والمخلص في انتقائه، والساعي إلى الحق في نشره.
هذا هو الكاتب الذي قصده العرب بصفتهم، وأراده البيان بتعريفه، وغير ذلك يسمى مُبَلِّغاً أو مراسلاً، أو ناقل صورة، أو هو موظفٌ عند غيره، قد أجر عقله، ورهن قلمه، واستمرأ بالذل كلماته، وهذا ليس بكاتبٍ بأي حال، ولا هو بالمبدع أياً كان.
[email protected]
أضف تعليق