بينَ تعاويذ الزمن المفقود (لد.سليم مخولي)، ورحلة إلى عنوان مفقود (لآمال عوّاد رضوان)، تهتزُّ ذرائعُ قلوبٍ ناسكةٍ خاشعةٍ، في تجاويفِ أساطيرِ الحياةِ والممات، تُشرّعُ نوافذَ الحرف لشعائرَ رؤى لا تبرحُ الأفقَ، في تجسيدِ عُمقِ كيانٍ يعشقُ الإنسان، وتمرُّ أصابعُ الاستفهام المصقولة تتلمّظُ بعُصاراتِ مذاقِها، تومئُ بأطرافها المترامية في فَلك أخيلةٍ شعريّةٍ ممزوجةٍ بنكهةِ ضوءٍ، في تجاعيدِ هذا الزمان الحالك..
لِمَ يغتالُ الفقدُ مَن نُحبّهم بخطواتهِ الحثيثة، فيَمضي إلينا ممشوقًا بأوجاعنا؟
لِمَ تتغلغلُ خيوطُ العتمِ إلى سُرُجِ حيواتِنا، تباغتُ أنوارَنا، وتستدرجُ أرواحًا مَجروحةً لشِباكِها؟
يا المبدع الشاعر الفنان أبا الحبيب..
بمثل هذا اليوم تخّطفَ جسدَكَ اللحدُ، وما زالَ صدى صوتك الرخيم إيقاعًا غِرّيدًا زاهرًا، يتهادى سحائبَ عِطرٍ في مَسامعي، مُترفًا بتقديرِ قديرٍ، ومُفعَمًا بامتنانٍ متينٍ، مُتألّقًا بعناقيدَ ملائكيّةٍ، يَنثرُ ضوءَكَ الشامخَ مِسكًا وكمالًا يَشرحُ البالَ، بِحُنوٍّ أبويٍّ مُبارِكًا خطايَ، يَدعوني للمواصلة وللحياة، وقد نقشتَ جوهرَ روحِكَ بياضًا في مُستودعِ صفحتي، لتلتفّ عقاربُ الأيام مُلوّنةً بموسيقى روحِكَ، تُطوّبُكَ فرحًا لا يَذبلُ، وليَحطّ هدهدُ ذِكراكَ على ناصيةِ الكرمل، حيث أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ ندوةً يقودُها هدهدٌ لإلقاء الضوء على الكتاب الشعريّ "رحلة إلى عنوانِ مفقود" للشاعرة آمال عوّاد رضوان، بتاريخ 2011/6/16، وليَهدلَ إيمانُكَ الواثقُ مُرنّمًا:
ممّا لا شكّ فيهِ، أنّ الشّاعرة آمال قطعت شوْطًا جليلًا في الكتابةِ الإبداعيّة شعرًا ونثرًا، ويبدو ذلك جليًّا في فنيّةِ حبْكِ الكلماتِ وصياغةِ الجملة الشّعريّةِ، في قصائدِها المشغولةِ بمهارةِ أناملِها وإبرتِها الطّيّعة، وأيضًا في المقدّمة النثريّةِ الجميلةِ الرّائعة من سيرتها الذاتيّة.
كثيفةٌ الجملةُ الشّعريّةُ عندَ آمال، مُطرّزةٌ بالمَجازِ والتّرميز، تبدو الكلماتُ كأشجارٍ متشابكةِ الأطرافِ في غابة، يَصعبُ المشيُ بينها بسهولة، فعلى القارئ أن يُبطئ خطوَهُ، ويتحسّسَ طريقه جيّدًا، كي يَعبُرَ في الممرّاتِ الضيّقةِ بينَ جذوع شجيراتِ الكلام المحبوكةِ بأنواعِها، يلتفُّ فيها الغريبُ في قربهِ مُتسلّقًا قاماتِها، فتتعذّرُ الرّؤيةُ في ظلالٍ تحجُبُ ما تحتها مِن نضارةِ الموجود، وعلى العابرِ أن يُجهدَ نفسَهُ ويَتعبَ كي يَصل! حقيقة أنّ علاماتِ الحركاتِ على كلّ حرفٍ ساعدتْ على تخطّي العقباتِ، ولولاها لتعذّرتِ القراءةُ وتعذّرَ السّيرُ في دروبِها!
يمكننا أن نتعرّفَ على سماتِ شعر آمال في هذا الكتاب في مراجعةٍ لإحدى القصائد، وقد اخترتُ بصورةٍ عفويّةٍ قصيدةً تبدأ ص85 بعنوان: "على مرمى خيبة"، تبدؤُها:
أ رْ جَ حْ تِ ن ي
على بارقةِ عرشٍ بين أسنانِ أكذوبةٍ
بدأت القصيدةَ بحروفٍ متقطّعةٍ للكلمة، وهذا يتكرّرُ في القصيدةِ وفي قصائدَ أخرى عديدةٍ، وفيهِ توكيدٌ في بعضِ الأحيانِ على المعنى وجلبِ انتباهِ القارئ، وربّما استراحة له خلال رحلتِهِ المُتعِبة، فيقفُ عندَ كلمةٍ واضحةِ المعنى لِذاتها.
وتأتي الاستعارةُ تلعبُ دوْرَها في كلّ جُملةٍ، فلا تفلتُ مِن شَرَكِها أيّ كلمتيْن متجاورتيْن في أيّةِ جملة إلّا لمامًا!
"بارقةُ عرشٍ بين أسنانِ أكذوبةٍ": بارقةُ العرشِ إشارةٌ إلى فرحٍ سيكونُ، والأسنانُ تقضمُ وتُمزّقُ وهي للأكذوبة، أي بين بارقة الأمل في فرح، وبين أكذوبة تُمزقّها بأسنانِها يتأرجح! وتستمرّ آمال تقول:
وبأرقِّ ريشةِ سنونوّةٍ
دَوزَنْتِني على أوتارِ القلبِ شجنَ طيفٍ
غاب وعيُه في موجِ مواويلكِ
كلامٌ رائعٌ وجميلٌ، رائعةٌ ريشةُ السنونو الرقيقةُ الّتي تُدوْزِنُ أوتارَ القلبِ لحنَ شجَنٍ لطيفٍ، ونُلاحظُ هنا أيضًا كم كثيفةٌ الاستعارة في هذه الفقرة، وهي ظاهرة تقريبًا في تزاوُجِ كلّ كلمتين...
"يا من نادَمَتْكِ طقوسُ خيالي الوثير
لِـمَ تركتِني في اللامكان حجرَ مقلاعٍ يتأوَّهُ
لِـمَ تركتِني في اللازمانِ
بطاقةً بريديّةً ممزّقةَ الظلّ
بعدما أدمَنَتْكِ كؤوسُ نرجسي الكسير..
للقارئ متأنيًا المتعة والدهشة، فمن يقف عند كلّ جملةٍ ويصطادُ المعنى، يجدُ عاطفةً جيّاشةً تغلي في الصّور مع الاستعارات، تزيدُها قوّةً وتأثيرًا. جميلٌ ومُكثّفٌ هذا الشعر، وفي القصيدةِ تراكيبُ وصورٌ جميلةٌ كثيرة، نجدُها على مدى صفحاتِ ديوانها.
غيمةٌ مُخضّبةٌ برحيلكِ
زوبَعَتْ ثغورَ ريحي بوشوشةِ شكوى
ومِلءَ ضَيمي
دمعةٌ عاجيّة احدَودَبَت في جداولِ أمانيّ الخضراء
تَصبُّنِي دِعَة موجوعةً
على كتِفِ نهرٍ طواني احتراقا
في هذه القصيدةِ كما في قصائدِها الأخرى، تستعملُ آمال تعدّي الاسم والفعل اللازم، فتكتبُ:
غيمةٌ مخضّبةٌ برحيلِك
زوبَعَتْ ثغور ريحي
الاسم زوبعةٌ أصبحَ فعلًا. كما تستعملُ تعدّي الفعل اللّازم في "تنسابُني" و "تُلألئني".
هذا الاستعمالُ الّذي كانَ غريبًا على ذهن القارئ، وهو غريبٌ على الحاسوب أيضًا، أصبحَ مألوفًا في شعر آمال وغيرها من الشعراءِ أصحاب التجديد، والخروج على المألوف فيما يكتبون، وليس لهم الحقّ في هذا فحسب، بل أصبحَ عندَهم ميزةٌ جماليّةٌ، في طريقةِ استعمالِ الغريب مِن التعبير في الكلام، فهو في مَكانِهِ المُناسب.
جميلةٌ الغيمةُ الّتي تُزَوْبعُني، والمَصابيحُ الّتي تُلألِئُني.
تمضي آمال تصطادُ ما هو غريبٌ في مكانٍ آخرَ، في استعمالِ تزاوُجٍ بينَ كلمتيْن، وبينهما ما بينهما مِن بُعدٍ في المعنى، فلا تجدُ رابطًا يَدُلّكَ لماذا تمّ هذا التزاوج. فتقول:
جَوْزَ عَفوٍ، هَديلِ احتِرابٍ، دمعةٌ عاجيةٌ احدَودَبت، الرّيحُ المقنّعة، شالاتُ الخرائب...
وغير ذلك في قصائد الديوان. هذا أيضًا حقّها في استعمال الكلماتِ لتكتبَ شعرًا مُغايرًا لِما كانَ مَألوفًا، بحثًا عن الإغراب ودهشةِ القارئ، فيتساءلُ ما هذا؟ ولمَ هذا؟! وهذا التساؤلُ ربّما مِن صِفاتِ شِعرنا المُعاصِر؟!
إذا كانتِ القراءةُ مُتعِبةً للوصولِ مع هذا الإغراب وكثافةِ الجُملةِ الشّعريّة، فكم مِن جهدٍ، وأيّ تعبٍ بذلَتْهُ الشاعرةُ في حَبْكِ جُملتِها؟
هل كانتِ الكلماتُ تَجيئُها عفويّةً طيّعةً بكلّ ما في ذلك مِن تعقيدٍ، أم كانت تُفكّرُ كثيرًا، لتصوغَ هذه الخرزاتِ في قلادةِ الجُملةِ الشّعريّةِ، خرزاتٍ مِن بلّورٍ وأبنوسٍ، إلى جانب أخرى مِن خشبٍ وطين؟
فليكن ما تكونُهُ الشاعرة برهةَ الكتابة، غيرَ أنّ شيئًا واضحًا، هو أنّ هذا الأسلوبَ في الجملةِ الشّعريّةِ عندها، يَنساقُ في الكتاب مِن القصيدةِ الأولى حتّى الأخيرة، على شكلِ موجاتٍ تتبعُ الواحدةُ الأخرى، في مدى مستوى بحرٍ لا تعلو موجةٌ فيهِ على سواها، وعليهِ ختمُ الشاعرةِ الخاصّ، فهو لها وصُنعُ يديْها.
آمال المبدعة، الوادعة في الظاهر، ثائرةٌ في صخب انفعالاتٍ في مواطنِ الروح، لا تعرفُ الهدوءَ والاستقرارَ، فتذهبُ راكضةً في كلّ الاتّجاهاتِ، لتصطادَ المعنى في الموجود، أو تهدمُهُ بإزميلِها، الذي بواسطته تنحتُ في الكلام عالمًا لها على مقاسِها، وبفنيّةٍ راقية...
كان بالإمكان أن يكون صخبُها أقلَّ جموحًا، لو تخلّت عن رصفِ الجملةِ باستعاراتٍ تكتظّ بها كلُّ الجُمل، وتركتْ مُتنفّسًا هادئًا لاستراحة القارئ، فينعكسُ أثرُ الجُملِ الأخرى بصورةٍ أشدّ وأقوى، وكما قال درويش: "في القصيدةِ يكون الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ، وإن كان المعنى هو المقصودُ بهذا، فإنّه ينطبقُ على المبنى أيضًا، الذي أصبحَ في منزلةِ الجوهريّ في هذا الأسلوب مِن الكتابة، الذي يَتبعُهُ البعضُ في الشعر والنثر أيضًا".
وبكلماتٍ أخرى أقولُ: هذا المبنى في الجملةِ الشّعريّةِ على مدى صفحاتِ القصيدةِ، يحتاجُ إلى "تهويةٍ" وبعضِ الأكسجين، تمامًا كما يَفعلُ الرسّامُ في لوحتِهِ، فإذا رآها مُكتظّة الأشكال والألوان، راحَ يَعملُ بقعًا ومساحاتٍ لونيّةً لتهويةِ اللوحةِ مَجازًا، فتظهرُ بصورةٍ أجملَ وأقوى تلك الأشكال التي أرادَ لها أن تكون!
أظنّني لا أخطئ ظنّا، إذا اتّهمتُ آمال بالشاعرة الوجدانيّةِ والرومانسيّةِ الصعبةِ في حداثةِ شِعرها، فهل تجوزُ الرومانسيّةُ مع الحداثة؟
هذا الطريقُ الّذي مهّدَتْهُ آمال، تسيرُ عليهِ بخطى واسعةٍ، ولا شكّ أنّ آمالَ شاعرتِنا كثيرةٌ، ولنا منها توقّعاتٌ مستقبليّةٌ مُدهشة، كما عوّدَتنا ولمسْنا في ديوانِها الأخير، فأطيبُ الأمنياتِ لشاعرتِنا المبدعة، ودمتِ صاعدةً سلّمَ العطاء.
فليطوّب تذكارك أيها الحبيب أبا الحبيب إلى أبد الآبدين!
[email protected]
أضف تعليق