بحسب للجلسة الأولى فى محاكمة الرئيس السابق أنها أتاحت لنا أن نتعرف على بعض جوانب المشهد الغامض، بقدر ما أنها استدعت بعض علامات الاستفهام والتعجب.
فقد عرفنا مثلا أن الدكتور محمد مرسى كان محتجزا فى قاعدة بحرية بحى أبوقير فى الاسكندرية خلال الفترة الماضية.
وأن أربعة قضاة تناوبوا على سؤاله بحضور محامين لم يعرفهم. الأهم من ذلك أننا عرفنا أن ترتيب الدكتور مرسى بين المتهمين الخمسة عشر هو الثانى عشر، (سبعة منهم هاربون)، وأن المتهم الأول فى القضية هو المهندس أسعد الشيخة نائب رئيس ديوان الرئيس وابن شقيقته. أما الباقون فأغلبهم من أعضاء مكتب الرئيس ومساعديه.
وفهمنا من أمر الإحالة أن المتهمين من الأول إلى الحادى عشر منسوب إليهم التلويح بالعنف واستخدامه على نحو أدى إلى القتل العمد بحق ثلاثة أشخاص، كما اتهموا باحتجاز وتعذيب 54 شخصا آخرين. وفى حين اعتبر هؤلاء فاعلين، فإن المتهمين من الثانى عشر إلى الخامس عشر وصفهم قرار الإحالة بأنهم محرضون. وعلى رأس هؤلاء الأخيرين الدكتور محمد مرسى يليه الدكتوران محمد البلتاجى وعصام العريان، وآخرهم الداعية وجدى غنيم الموجود خارج مصر.
كان ملاحظا أن قرار الإحالة الذى اعتبر الدكتور محمد مرسى ضمن المحرضين على العنف فى أحداث الاتحادية (التى وقعت فى 5 ديسمبر الماضى) لم يشر إلى تهمة التخابر مع حماس التى جرى تسريبها وإشاعتها عبر وسائل الإعلام. التى مع شائعات أخرى تحدثت عن تواطئه مع الإدارة الأمريكية، حتى وصفته بعض التعليقات بأنه «جاسوس» وخائن.
الملاحظة الأهم أن قرار الإحالة خص بالذكر ثلاثة قتلوا و54 تعرضوا للتعذيب فى أحداث الاتحادية، ولم يشر بكلمة إلى ضحايا آخرين سقطوا فى الأحداث ذاتها منهم ثمانية قتلوا و250 تعرضوا لإصابات عديدة بعضها بمثابة عاهات مستديمة. رغم أن ثمة بلاغات قدمت إلى النيابة بهذا الخصوص من أهالى القتلى والمصابين.
وهذه البلاغات لم يعرف مصيرها. إذ بدا مستغربا ولايزال أن يقتل الجميع أو يصابوا فى موقعة واحدة حدثت فى يوم وتوقيت واحد، ثم يأتى أمر الإحالة ليخص بالذكر بعضا منهم ويتجاهل البعض الآخر. ولأن المفارقة شديدة واللغز كان محيرا فى البداية، فإن التفسير الذى بدا مقنعا لذلك التمييز هو أن الأمر لم يكن خطأ ولا مصادفة.
وإنما يرجح أنه كان متعمدا. ذلك أن القتلى الثلاثة والمصابين الذين أشار إليهم قرار الإحالة هم من معارضى الرئيس مرسى، الذين يسهل توجيه الاتهام إلى معاونيه وإلى الرئيس ذاته بالاشتراك والتحريض على قتلهم. أما الآخرون فالثابت أنهم جميعا من أنصار الدكتور مرسى ومؤيديه، لذلك يتعذر توجيه الاتهام إليه فى شأنهم. وإنما قد تشير أصابع الاتهام فى حالاتهم.
إلى آخرين من خارج دائرة معاونى الدكتور مرسى. وهو ما تضمنته البلاغات التى قدمت إلى النيابة من أهاليهم ومحاميهم. لذلك فهم أن السبب فى تجاهل تلك البلاغات هو الحرص على استبعاد عدد آخر من المسئولين المشاركين فى السلطة والمؤسسة الأمنية من دائرة الاتهام.
وهو احتمال إذا صح فهو يعنى أن أسبابا سياسية تكمن وراء التركيز فى القضية على قتل ثلاثة وإصابة 54 فقط من معارضى الدكتور مرسى، فى حين تم تجاهل القتلى الثمانية والـ250 مصابا الآخرين، لمجرد أنهم كانوا من أنصاره.
لقد فصلت الصحف التى صدرت أمس فى عرض وقائع ما جرى فى الجلسة، وإن لم تذكر شكوى المتهمين من سوء المعاملة، حيث تغلق عليهم أبواب الزنازين فى حبسهم الانفرادى لمدة 22 ساعة يوميا، بخلاف ما تقضى به لوائح السجون. كما لم تشر إلى التعسف والعنت الذى لقيه المحامون عن المتهمين لحضور الجلسة، فأعطى المحامون الأساسيون خمسة تصاريح فقط للحضور فى حين أنهم قدموا 15 طلبا.
وكان من بين الذين رفضت طلباتهم ثلاثة نقباء للمحامين فى محافظات الإسماعيلية وأسيوط والقليوبية، فى حين أعطيت تصاريح الدخول لـ350 إعلاميا، الأمر الذى فهم منه أن الاهتمام بالحضور الإعلامى كان سبعين ضعف الاهتمام بتمثيل الدفاع عن المتهمين. أما ممثلو المدعين بالحق المدنى فقد عوملوا بسخاء وكرم شديدين.
مع كل ذلك فشىء أفضل من لا شىء. ذلك أننا لم نعرف من قتل ثوار 25 يناير، نحو 900 شخص، ولم يحاسب أحد على الذين قتلوا فى وجود المجلس العسكرى وهؤلاء قدر عددهم بنحو (215 شخصا). صحيح أننا الآن بصدد محاكمة المتهمين بقتل ثلاثة فقط من بين 154 شخصا قتلوا فى عهد الرئيس محمد مرسى، (الأرقام أوردتها الشبكة العربية لحقوق الإنسان). ولأننا ندرك أن مسيرة «العدالة» بطيئة فى مصر.
فلست أعرف متى يمكن أن نقتص ليس فقط للقائمة الطويلة من الشهداء الذين قتلوا منذ عام 2011، وإنما أيضا للثلاثة آلاف الذين قتلوا أخيرا فى فض الاعتصامات والمظاهرات بعد عزل الرئيس مرسى فى يوليو 2013. إلا أننا فى كل ذلك لا نستطيع أن ننحى باللائمة فى عبثية المشهد ومفارقاته على تراخى القضاء وبطء العدالة فقط، وإنما يتعين أن نفكر مليا فى دور السياسة فى التعاطى مع الملف، أمس واليوم وغدا.
[email protected]
أضف تعليق