حبُّ البحرَ مُنذُ عَلَّمَنِي سِحْرَهُ الخرافِيَّ، وكنتُ لعشقي لجَدِّي ولبَحرِهِ الصَّغيرِ أَحْرُسُ الحنينَ إلى الطُّفولةِ بين حبَّاتِ الموجِ يَنتحِرُ على قَصَبَةِ الصَّيدِ لِتَنقرَها الأَسماكُ المجنونةُ.
نَرفَعُ الشِّراع قارِبًا يمخرُ العبابَ ويَمسَحُ السَّحابَ عن ضفائِرِ الشَّمسِ تَجدُلُ في الأُفُقِ البعيدِ، ثُمَّ نصعَدُ في عُرسِ بَيدَرٍ تُزَفُّ سَنابِلُهُ لمنجَلِ الحصَّادِ.
نَختَصِرُ طريقَ العودَةِ إلى بَيتِنا على التَّلَّةِ المقابِلَةِ في عصرِ مَسَاءٍ على مَوَّالٍ يَهُزُّهُ صَوتُ جدِّي السَّاحِلِيِّ مُتشابِكًا مع صَوتٍ جبلِيٍّ هادِرٍ مِنْ شُرفاتِ المنازِلِ، كانَ هذا الصَّوتُ صَوتَ وديع الصَّافي.
وَلَقد قَاسَمنا هذا الصّوت ليالينا وكانَ في نبرَةِ ما هو أكثَر من العنفوان، شَيء أَقرَب إلى الحنان الصّلب. صوت ثاقِب كَحَيوان جميل، شُرُودُهُ فاضَ تَعبِيرُهُ حيرَةً.
أنظُرُ اليومَ في شاطِئِ ذكرَى بعيدة تحت سماء حارقة. بلاد وقد أخذت منها زينتها، عسيرة النّطق، تنأى بنفسها عن أيّ استحقاق، مُتوحِّلة في أوَّل المطر.
أتقشَّفُ في التَّحديق ولا أُطيلُ النَّظَرَ، شَيءٌ في داخلي يُطلِقُ رِيحًا من الغمام، يولَدُ من بَحرٍ قديم ويُحرِّرُني مِن قَرَفِي لَعَلَّهُ شيءٌ من الماضي الجميل. شكّ ضائع في بَلَد ينمو خفيًّا بالباطون. أَسهرُ على وَقعِ حبرِ الكلام في العتمة أذرُفه. أحتاجُ إلى كوفِيَّة عربيَّة أمسَحُ بها دمعًا حارقًا كالصّديد.
لقد تقرَّحَ قلبي من عَفَن المرحلة ومن تَعَبِ أسئلة قاحِلَة. أحاوِل الاستماع إلى نشرة الأخبار، المشهد على حالِهِ دمار ووحشيَّة. بلاد عربيَّة تحتلّ أرجاء المشهد الموغِل في الهلاك.
- مات الرّجل – ينتحب الجبل من فقد صوت وديع الصَّافي، وأعود إلى صوتِه كي أهدَأَ قليلاً في ليل غامض يتنزَّه على صفحته ما عزّ الجبل متبوعًا بصراخ الرّعيان.
حين رأيتُ الأُستاذ لأَوَّلِ مرَّةٍ في سهرَةٍ خاصَّةٍ، قبلَ أن تندَلعَ الحربُ، على شاطِئِ المعامِلتَيْن فِي زمنٍ أضحى بعيدًا، وعَزَفتُ لهُ دَرسي الأوَّل وغنَّيْتُ لَهُ «يا بعد» سرقت ليلتها الشّعر والأنغام من مقام «الصّبا» وخبأتها في أغوارك القصيّة.
كانَتِ السَّهرة غَارقة في النَّشوة وكان اللَّيل في منتصفِه عندما حملتُ العود وكان جسدُه مُمتلِئًا بمُطيِّباتٍ تغمر عرقَه بالملح.
وبعد كأس عرق مرتّب وساعة كاملة من الغِبطة. نَقرَة، نَقرَة، نُعمِّرُ أغنية. وكانَ أبو فادي الطَّيِّبُ يبتسِمُ للجميعِ ويُضرِمُ الحماسةَ، يتطلَّعُ إلى عَينَين عسلِيَّتَين فَتتَأجَّجُ مَوَّالاً وأنغامًا وأُغنِية. يَضْربُ الأرضَ بقدمَيه ويُشيع الحبّ والدِّفْء في القُلوب عندما كان يترُكُ صوتَه ويُشارِكُ جميلة رقصَتَها المدوِّيَة على إيقاع طاولات السَّهِّيرة.
ثمَّ عادَ يغنِّي بصوت خفيض وأُرافِقُهُ على العُود.
السَّهرَة كانَت في صيف الــ 74 قبلَ ثلاثة أيَّام من افتتاح سهرة حُبّ للرَّحابنة في بعلبك، حيث استمعنا إلى وديع يُنشِدُ مقاطع جديدة في منزلِ رياض وسمير حدَّاد بطبرجا. وكانَ صديقي الجميل جورج مهنَّى مدرِّس اللّغة الفرنسيَّة لأولاد أَبي فادي، حيثُ خلقت هذه العلاقة شيئًا من المودَّة، خصوصًا أنّ جورج كان يواظبُ على تدريس الأولاد يوميًّا بعدَ الدَّوام دون أيِّ مُقابِل.
- «وَلَو يا إستاذ ما إنتَ مسَلِّف كلّ لبناني جمال وحُبّ وطَرَب وصَوْت».
ولقد أحبَّ جورج أن يُعرِّفَني إلى الأستاذ كَوني كُنتُ في نظرِه تلميذًا موهوبًا في المعهد الموسيقيّ، ودخلتُ تلك السَّهرةَ بشعري الطَّويلِ وذقني الحليقَة، وعندما رآني الأستاذ هَمَسَ لجورج:
- هذا صاحبك مرسيل بيدقّ عالغيتار؟
- لا يا أستاذ عازف عُود.
لَيلَتَها كان بحوزة السَّهِّيرة عود الياس عيد شغل النحَّات، ابتدأت بالدَّنْدَنة على مقامِ الرَّاست وتابَع الأُستاذ بشغف نقرَات العُود المحبَّبَة لَديه.
في تِلك اللَّيلة استَفرَدَ بي العود المجنون وفَتَكَ بي وأفناني من شِدَّة الوَلَع. وذلك الوتر النَّاعم الملمس كجسد المرأة الطَّالعة من لهفة الحبّ يُعانِق صوتَ وديع الهدَّار.
أوتار مزدوجة، متجاورة، متدفِّقة في العرض والطُّول مثل ذلك المدرج الموسيقيّ نتلاعب عليها من الجانبَين بالرِّيشة والأصابع، نجرحها، نداعبُها، نحنُّ عليها، نفترسُها بشفير الرِّيشة المسنونة المتحكِّمة في لقاء الأوتار والأصابع. نتوغَّل بالرِّيشة نحو الأعماق. أوتار من قصب وحرير تفور رهافة وسطوة، تتقدَّم، تختلط فيها حدود النَّقرة مع حدود النَّغمة.
كان قلب وديع كبيرًا وصوتُه قدّ الجبل كصوت الشَّلاَّل الهادر والجارِف بعدما يذوب الثَّلج.
بدأتُ السَّلطنَةَ وأنا أصعد على وتر الكردان وصوت وديع يُحلِّق عاليًا فوق قمريَّة العود ليحضر المقام تلو المقام حتَّى صباح اللَّيل.
قهوة الصَّباح وضفادع في بُركة قريبة ترسل نداء استغاثة ونحن نرتشف فنجان قهوتنا الأخير.
كان صوته يخرج من الأعماق البعيدة للرُّوح، صوت الكائن العابِر في الزَّمان والمكان المتعَب من الرَّكض وراءَ الحياة بحثًا عن اللاَّ شَيْء. حركة شعوريَّة تغلِّف الصّوت وتجعل الحنين دافئًا. انسِياب هادِئ يجعَلُنا نُنصِتُ إلى عمليَّة البَوْح الَّذي يَنسَرِبُ مُحمَّلاً بمقاماتٍ هي فضاءَاتُ الشَّجَن.
صوتٌ يستردُّنا من الماضي ويَبثُّ الرُّوحَ فينا، يُحيلُنا على الأمسِ الرُّوحيِّ مِن صُور ورَوَائِح وجِبال وَطُفُولَة تُضِيءُ الحاضِرَ في أوقاتِهِ المغلَقَة.
صَوتٌ يَهزُّنا، يَعصِفُ بِنا من الدَّاخِلِ ويُدخِلُ البهجَةَ والحُبَّ والشَّوقَ والحنينَ إلى قُلوبِنا.
لقد نظَّفنا صوتُ وديع من أنفُسِنا، حرَّرَنا من أوجاعِنا، أعادَنا إلى أَيَّامِنا الأُولَى.
كَيفَ وُلِدَ هذا الصَّوت العظيم في نيحا الشُّوف، ثُمَّ هامَ في القُرَى والمزارِع وُصولاً إلى المدينة، كي نفهمَ حجمَ الجُرح وعُمقَ الجُرح الَّذِي أدَّى إلى هذا الجمال السَّاطِع، ولولا الصّدق العاري الَّذي يبدو واضحًا في كلّ النّبرَات لما وصل.
كم من مرّة شعرنا بالحاجة إلى البكاء في أثناء سماعِه مع كثير من مشاعر الحنان والنَّزعة الإنسانيَّة العميقة.
[email protected]
أضف تعليق