تمتاز تجربة الفنانة التشكيلية الفلسطينية، ابنة بيت لحم، سمر نصري غطاس، بتعدد عناصرها ومكوناتها، على غير صعيد، وخوضها في التجريب المدروس، في إطار مغامرة فنية للوصول إلى سؤالها ورسالتها الحقيقيين، ما بين الواقعي والتعبيري والتجريدي في مجال الأسلوب، وبين مواد وتقنيات عدة، في خدمة موضوعات تتوزع بين الخاص والعام، الوطني والاجتماعي، القديم والجديد، الموروث الذي يجري توظيفه جيدا في مشروع فني يسعى إلى الاشتمال على هذه العناصر مجتمعة ومتداخلة.
تنطوي هذه التعددية على انفتاح الخيارات الفنية، أسلوبا ونتاجات بدلالات غنية وعميقة. خيارات في اللون والتكوين والحركة المفتوحة على الحياة. فمن بين عشرات الأعمال التي ترسم اللوحة المشهدية الواسعة، تطل على المُشاهد وجوه وأجساد وكائنات وأمكنة، كلّها تحمل دلالاتها في داخلها.
وتغرف الفنانة من مكونات ثقافية وأخرى من نبع الحياة وتجاربها الثرية، وهذا هو الأساس الذي تبني منه سمر غطاس لوحتها، وتُراكم تجاربها لتقدم لنا «رؤيتها» الخاصة إلى عالمها الداخلي والعالم الخارجي من حولها. وبخصوص توجهاتها الفنية الذاتية، فهي إنسانية تنبع من تساؤلات وجودية، تعبر من خلالها عن الحياة والدور الإنساني والمشاعر، فهي مثلا تميل إلى رسم الشخوص، ولا تفضل رسم الطبيعة، وتعتبر أن الفن حالة تعبير عن الذات ومكنوناتها، وأن اللوحة تولد كاملة بأسلوبها وألوانها وخصوصيتها، وتبعد عن النمطية والتقليد.
في هذه التجربة المتعددة، تبرز ثيمة المرأة إلى المقدمة، وتحضر في صور عدة، واقعية مَرّة، ذات ملامح رمزية وتعبيرية مَرة، وأسطورية مَرة ثالثة. كما تبرز المرأة في أحوالها الذاتية والموضوعية، في علاقتها بذاتها ودواخلها حينا، وعبر علاقاتها الحياتية والمعيشية ودورها في الحياة حينا آخر. ولهذا كثيرا ما نجدها تمتزج بالرموز الوطنية، السياسة والاجتماعية والثقافية. وتتميز علاقتها مع الرجل على نحو خاص في الكثير من أعمال الفنانة.
صور من حضور المرأة
عن هذا العالم الفني المتعدد، ومحاور عدة في تجربة الفنانة، كان لنا لقاء خاص معها. تقول الفنانة: «تناولت موضوع المرأة بشكل إنساني وروحاني، فلطالما شغلني ويشغلني موضوع العلاقات الإنسانية بين المرأة وذاتها، والمرأة والمرأة الأخرى، والمرأة والرجل، فكنت أمثّل الدور الذي أكونه كوني امرأة كما أشعر به وكما أعيشه، وأتناوله بشكل يومي من خلال حياتي اليومية. فالمرأة ليست مادة سطحية شكلية، والقضية أكثر عمقا من أن يتم تناولها بسطحية الجسد مثلا، فقد كنت أعبّر عنها هي بالفعل بوصفها كائنا، فتجربتي هي مصيرية حتمية وواقع معيش.
ونظرا لما تكونه المرأة من ناحية تكوينها البيولوجي وقدرتها على الإنجاب، وكونها هي سبب استمرارية الحياة وهي رمز للحب والحنان والعطاء، فقد صوّرتها بشكل آلهة خالية من أي عيوب بل هي نادرة الوجود وبلا أي خطيئة. كما حاولت أن أظهر ضعفها وقدرتها على تحمل قوانين المجتمع وتقاليده، بالرغم من أنها تملك القوة الإنسانية الأكبر، فهي تمتلك قدرات تتفوق فيها على الرجل.
ومن الناحية الفنية، لم أظهر معالمها الجسدية إلا لخدمة الفكرة، محاولة مني لعكس جوانبها الداخلية، مشاعرها وأحاسيسها ووجدانها، التي أعتبر أنها جوهر المعدن الذي تكونت منه. وبخصوص المرأة الفلسطينية تحديدا، فهي تظهر في لوحاتي في سياقين مختلفين أو أكثر، لكن أساسا في السياقين السياسي والاجتماعي، وهي في كلتا الحالين معذبة مقهورة، ما يضاعف معاناة المرأة الفلسطينية عبر حرمانها من أولادها، إما بسبب الاستشهاد أو السجن أو النفي والإبعاد، كما أنها تعاني من هدم البيوت والتشرد وفقدان بؤرة العيش، بسبب هدم الاحتلال للبنية الأساسية لتكوين الأسرة وهي البيت الآمن الهادئ، حيث يحول الاحتلال دون هذا العيش المستقر مع زوجها وأولادها بأمان كما تظهر في لوحات: لوحة للفنانة الفلسطينية جوليانا ساروفيم.
أما من الناحية الاجتماعية فإن السلطة الذكورية تفرض عليها الخنوع والرضا والتحفظ والورع وقبول الواقع، بكل اشكاله السلطوية، فتراها في لوحات الفنانة تقوم بواجبها المرسوم لها كما في لوحة (أعباء، ملل، ولوحات نساء محجبات)، أما في حالات العشق فهي الخجولة مطأطئة الرأس تستقبل الغزل والحب من دون أن يكون لها دور فاعل غير الاستقبال (قيس وليلى، الحب)، وفي حالات أخرى تظهر في صورة المظلومة المصلوبة والمرجومة (لوحةالرجم، والصلب).
وتضيف: «المرأة الفلسطينية تظهر في لوحاتي منتظرة رجوع أبنائها، كما في لوحة «فنجان قهوة» التي تصور المرأة وهي تنتظر عودة شخص ليشرب معها قهوة الصباح، وقد يكون زوجها أو ابنها أو حبيبها الذي قد لا يعود.
كما صورتها في لوحة «اجتياح» محرومة من توديع أبنائها لحظة نفيهم، وفي لوحة «الشهيد» صورتها في مقدمة المجتمعين حول الشهيد فاتحة عينيها من هول الفاجعة، وفي لوحة «انتظار» صورتها تنتظر خارج السجن، وفي الوقت نفسه توحي اللوحة بأنها هي المسجونة، لأننا أصبحنا مسجونين خلف جدار الفصل العنصري الذي بناه الاحتلال.
وفي لوحة «مجرد أطفال» نجدها ملتفة حول نفسها من الألم لفقدان أطفالها الذين صعدوا إلى السماء وهي تبقى وحيدة. كما صورت لوحة القدس على شكل امرأة تغتسل من كل القهر والإهانة التي ألحقها بها من باعوها على نمط قصيدة مظفر النواب.
بينما صورتها في لوحة «الحب» متساوية مع الرجل بخروجهما من وردة النرجس، وفي لوحة «قيس وليلى» صورتها خجولة بميزات المرأة العربية تلبس وشاحها المزخرف الخيالي، وفي لوحة «أعباء» صورتها تلبس لفائف كأنها تخنق نفسها بكل هذه الأعباء، وتصبح كالمومياء محنظة داخل تفاصيل العادات والتقاليد التي تثقل كاهلها، بينما هي في لوحة «عاطفة» تضم طفلا بكل ما لديها من حنان وقوة، وفي لوحة «غطاء» تحاول المرأة أن تغطي جسدها المتهم دائما بأنه عورة بسبب وعيها الناقص عن ذاتها لتهرب من المجتمع الذي يحاسبها بكل الأحوال.
تقنيات وأساليب وموضوعات
وعن هذا التعدد والتنوع في التجربة، تقول الفنانة: التعدد والتنوع هما من صفات الإبداع والتجدد، وهما مطلوبان للفنان من باب التغيير والتجديد أولا، ومن باب اختبار الذات وعملية تأثير الأسلوب والتقنية في الإنتاج الفني، وإضافة تجربة لما يختبره ويريد أن يوصله إلى المتلقي. أما تعدد الموضوعات، فهو نتاج ما يستخرجه الواقع من الذات، وينتج من الأفكار المتعددة التي يعيشها الفنان ويتعايش معها.
وعلى صعيد التعدد في التقنيات فهي بسيطة في تجربتي، وتتمثل في الانتقال ما بين الكولاج والفن التركيبي وفن إعادة تدوير النفايات والفن الرقمي والعمل بألوان الأكريليك والألوان المائية والزيتية والتمبرا والحبر الصيني، لكن المفضل بالنسبة لي هو العمل بالألوان المائية لأنها شفافة وحقيقية وتتغلغل في الروح. وغالبا ما يفرض الإحساس بالموضوع تقنية محددة.
توظيف الموروث فنيا
وإذ تستفيد الفنانة من الموروث العربي عموما، والفلسطيني خصوصا، كان السؤال حول الحدود التي يمكن للفن أن يذهب إليها في خياراته ضمن العلاقة مع هذا الموروث، وتطويعها لأدواته ورؤيته الفنية والفكرية، فتقول غطاس: أنا لا أنفصل عن موروثي الحضاري، سواء العربي عموما أو الفلسطيني تحديدا، لهذا السبب تصدر مني إيحاءات ولمسات تراثية، تكون تلميحية أحيانا وأحيانا مقصودة في الفكرة والتشكيل، فالفنان ابن بيئته مهما حاول التجدد أو الابتعاد، حتى إن روح الفكر الموروث (تَعْلق) في اللوحة أو العمل الفني بالإسقاط العفوي ومن دون قصد، فتعرف أن هذا فنان عربي. لكني أركز على الموروث الفكري أكثر من الموروث الشكلي، وأستعين بالأدوات التقليدية لهذا الموروث، ليس لكي أصورها بشكل واقعي مفروض، فأنا لا أعيد نشر التراث بل أستعمله لأقول أفكاري من خلاله، محاولة أن أضع المفاهيم الموروثة في قالب فني جديد ليواكب روح العصر بنظرة جديدة مختلفة فنيا، مع تباين في المضمون، حيث أطرح وجهة نظري الخاصة.
فأنا أعيش في هذا الواقع بكل تفاصيله التي تجذبني والتي حفرت في ذاكرتي وموروثي الثقافي والحضاري، شرط ألا يحدث التكرار بشكل تقليدي فنيا، حتى لا تطغى على روح التقديم والاداء.
سطور من سيرة الفنانة
ولدت في الكويت 1968، وتخرجت في أكاديمية الفنون الجميلة في أوكرانيا عام 1994، حصلت على الماجستير في الفنون الجميلة، وتعمل حاليا مدرسة لمادة الفن في جامعة بيت لحم. أقامت معرضين شخصيين منذ عام 2000 في دار الندوة الدولية ببيت لحم، وشاركت منذ عام 1997 في معارض جماعية دولية في إيطاليا والولايات المتحدة الأميركية، كما عملت في رسم الأيقونات الكنسية (1995-1997)، وفي تدريس فن الغرافيك في معهد الأزياء في بيت لحم (1994-2001)، وهي تساهم منذ 2003 في تأليف مناهج الفن لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
[email protected]
أضف تعليق