عندما وضع حسن البنا الحرف الأول في الفكرة الإخوانية، وعندما اتهم أعداء الدعوة للخلافة بالكفار ودعاة النقل عن الثقافة الغربية بالملاحدة، وعندما قرر أن يستحوذ وحده على حق الأداء العلني للتأسلم قائلًا عن برنامج جماعته "هذا المنهاج كله من الإسلام وكل نقص منه نقص من الإسلام ذاته"، فإنه كان يرسم الخط المؤدي إلى العنف، وإذا كنا نؤكد دومًا أن "الإرهاب يبدأ فكر، فإن التطرف بالفكر المتأسلم إلى أقصى مداه يندفع في الواقع العملي إلى الإرهاب بأقصى مداه".

ويجيء سيد قطب ليمضي بالخط الذي رسمه حسن البنا لأفكار الجماعة على استقامته ويمضي بها حتى نهايته المريرة. يقول أحد الموالين لسيد قطب "والأستاذ سيد قطب صاحب كتاب معالم في الطريق يعد في ميزان الرجال عمادًا هائلًا في تجديد شباب الحركة الإسلامية والامتداد الفكري والحركي لجماعة الإخوان المسلمين" [صفوت منصور – المنهج الفكري للعمل الإسلامي – الإخوان المسلمون – صـ93] ثم يعود ليؤكد "أن فكر الأستاذ سيد قطب هو امتداد لفكر جماعة الإخوان المسلمين وتجديد لشبابها الفكري والحركي" [المرجع السابق – صـ98].

وقد لا يهتم الإخوان إزاء هذا القول الآتي ممن لا تشتهر علاقتهم بالجماعة. فماذا يكون رأيهم إزاء ما قرره واحد من أكبر قادة الجماعة المخضرمين الأستاذ صلاح شادي رئيس الجهاز السري للجماعة في الجيش والبوليس المسمى جهاز الوحدات، قائلًا بوضوح "لقد كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامي، وكان سيد قطب الثمرة الناضجة لهذا الفكر" [صلاح شادي – الشهيدان حسن البنا وسيد قطب – صـ77].

والذي يعرف قيمة الإمام حسن البنا عند أعضاء الجماعة المخضرمين ويعرف الفارق بين مجرد البذرة وبين الثمرة الناضجة يمكنه أن يعرف قيمة سيد قطب عندهم. وعلى مدى طويل ظلّت علاقة الإخوان بسيد قطب غائمة فعندما نجابههم بفكرة التكفيري الصارخ يقولون إن المرشد حسن الهضيبي خالفه بكتاب "دعاة لا قضاة" وعندما نطالبهم بنقد ولو طفيف لفكر قطب يتهربون ولا يتجاسرون، ثم نواجههم بكتابات لزينب الغزالي التي أكدت أن المرشد الهضيبي كان في حقيقة الأمر مؤيدًا لكتاب معالم في الطريق، أو بكتابات صفوت منصور وصلاح شادي يهزون أكتافهم صامتين.

والآن أتوا إلى مقعد المرشد العام بالدكتور محمد بديع المشتهر بأنه قطبي الانتماء، ويواصلون طباعة كتب سيد قطب سواء الظلال أو المعالم. ناسين أن كل مَن يقرأ هذه الكتب ويقتنع بما فيها، يلتزم بأشد أنواع الإرهاب وناسين أن كل المتأسلمين الإرهابيين في العصر الحديث من بن لادن إلى الظواهري إلى الشياشانيين في بوسطن، كلهم يدعون "قطبيين". ولعل هذا يفسر لنا سر العلاقة بين حكم د.مرسي وبين قاعدة تنظيم القاعدة في وسط سيناء والإفراج عن رجالها والتغاضي عن سيل الأسلحة المتدفق عليها سواء من الأنفاق أو غيرها..

وهنا تصبح دراسة سيد قطب تاريخًا وفكرًا أمرًا لا يتعلق بالتاريخ فحسب وإنما بطبيعة ومنهجية ومستقبل نظام الحكم في مصر.

***

والحقيقة أن سيد قطب شخصية محيرة فتغيُّره الفكري محيّر، وأسلوب معاملته في السجن محيّر أيضًا. وأنا كواحد ممن عاصروه في السجن وأعرف كيف عومل معاملة ليست مميزة فحسب وإنما أكثر بكثير من كونها مميزة، طوال فترة السجن في مستشفى السجن، ولقد كان مريضًا حقًّا، لكن كثيرين من المرضى سواء من الشيوعيين أو الإخوان تركوا للموت في الزنازين. وفي زمن كان القلم والورق ممنوعين منعًا باتًّا كان هو يكتب ويؤلف، وتدخل له المراجع وما يكتبه يخرج من السجن رسميًّا ويطبع بشكل قانوني، وحتى كتاب المعالم كُتب في السجن وخرج رسميًّا من السجن وطبع بشكل قانوني ووزّع أيضًا. ثم أُفرج عنه صحيًّا [قيل أيامها إنها واسطة من عبد السلام عارف عندما كان رئيسًا للعراق].. ويفسر البعض الإفراج عنه بأنه كان خطة لإعدامه. ونمضي لنتصفح سيرة الرجل الذي كان ولم يزل وسيظل محيّرًا.

***

ولعلها مصادفة مثيرة للدهشة إذ سار قطب ذات المسيرة التعليمية لحسن البنا.. فالفتى الذي ولد عام 1906 في قرية موشا بمحافظة أسيوط دخل مدرسة المعلمين (1925) ثم دار العلوم (1928) ليخرج منها عام 1933 ثم عمل مدرسًا للغة العربية وصعد في سلم وزارة المعارف وعبر علاقات أدبية وصحفية ليصبح مراقبًا مساعدًا للبحوث الفنية والمشروعات بالوزارة حتى استقالته عام 1952.

وخلال هذه المرحلة برز سيد قطب ككاتب وشاعر وأديب وناقد، وعاش قريبًا ومقربًا من عباس العقاد واستفاد كثيرًا من هذه العلاقة. ويقول عادل حمودة "كان العقاد وراء تقديم سيد قطب إلى معظم الصحف والمجلات التي كتب فيها"، ثم "وبعد علاقة قوية استمرت طوال ربع قرن اختلفا وانفصلا وكان السبب رفض العقاد أنه يكتب مقدمة لأحد كتبه" [عادل حمودة – سيد قطب من القرية إلى المشنقة – سيرة الأب الروحي لجماعات العنف – (1996) – صـ50]، ويبدو أنها واحدة من المكونات الفكرية والأخلاقية المعقدة للأستاذ سيد قطب، يحب حبًّا غامرًا ثم ينقلب إلى عداء مستعر. فقد كان الأمر كذلك مع طه حسين، فقطب يهدي كتابه "طفل القرية" الذي ضاهى به "الأيام" لطه حسين "إلى صاحب كتاب الأيام – إلى د.طه حسين بك، إنها يا سيدى أيام كأيامك عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف، اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة" [سيد قطب – طفل القرية – (1945) 0 صـ2]، ثم ينقلب ضد طه حسين مهاجمًا إياه هجومًا شديدًا لديدًا فيقول "إن مذهب طه حسين هو طه حسين نفسه، أي أنه موهبة بلا امتداد وبلا تلاميذ" [سيد قطب – كتب وشخصيات – صـ155].

ويقول البعض إنه هاجم طه حسين إرضاء للعقاد الذي كان في معركة حامية ضد طه حسين، ويقول آخرون إن "شهرة سيد قطب النقدية جاءت بسبب هجومه على العقاد وطه حسين" [عادل حمودة – المرجع السابق – صـ49]. لكن مثل هذا التقلب هو أخف أشكال التقلب الفكري والعقيدي والشخصي عند سيد قطب.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]