المقالة التالية ليست تحليلية فيما يتعلق بالسينما الإسرائيلية، فهي ليست إلا انطباعات إنعكست بعد مشاهدتي للفيلم الإسرائيلي "بيت لحم" والذي أشترك في تأليفه إلى جانب الإسرائيلي يوفال أدلر المخرج ابن يافا علي واكد. المشاهدة التي شدتني للعودة مرة أخرى لصالات عرض الفيلم، علني أجد أجوبة للكثير من الأسئلة الداخلية التي راودتني، أهمها "أهذا هو الفلسطيني؟!.
سيدعي الكثيرون على أن الفيلم دعائي وموجه ويخدم أجندة صهيونية، وأكبر مثال على ذلك أعمدة النقد التي وصفته بالعلاقات العامة لجهار الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" (أنظر موقع والاه) وغيرها التي وصفته بالمروج بحنكة لأجندات أمنية إسرائيلية (أنظر هأرتس وخاصة مقالة جدعون ليفي)، فلماذا أصلا "وجعة الرأس"! لكن هذا سيفسر الكثير من تعاطف العالم الغربي مع الرواية الإسرائيلية، حيث تغيب استراتيجية فلسطينية واضحة وموحدة لفضحها وكشف زيفها. غياب حوّل، بحنكة إسرائيلية مدروسة بدقة وتخاذل فلسطيني- عربي، الجلاد إلى ضحية مما يوضح أكثر لماذا سميّ بطل الفيلم بالـ "سنفور" الذي غدر بـ "شرشبيل" (رجل الشاباك، بحالتنا)!
من المهم بداية التطرق إلى أحداث الفيلم. يوفّر فيلم "بيت لحم" إطلالة على العالم المظلم في جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك"، حيث تكون الوسيلة الأنجع لتفعيل العميل، هي من خلال أقرب الناس إليه.
يتناول الفيلم العلاقات المركّبة التي تجمع بين رازي (تساحي هليفي) مسؤول المخابرات عن قضاء بيت لحم وبين سنفور (شادي مرعي)، الشقيق الأصغر لقائد كتائب الأقصى في المدينة، ابراهيم. يجنّد رازي سنفور كعميل وهو في الخامسة عشرة من عمره، ويستثمر وقتا طويلا في بناء علاقتهما. سنفور الذي نشأ تحت كنف شقيقه، يجد في رازي صديقا وقدوة أبوية، شخصا يؤمن به ويعتمد عليه.
الآن، وهو في السابعة عشرة من عمره، يحاول سنفور أن يناور بين مطالب رازي وبين ولائه لأخيه، ويجد نفسه يعيش حياة مزدوجة ويضطر للكذب على الاثنين. عندما يكتشف "الشاباك" مدى تورط سنفور في عمليات شقيقه المطلوب، يجد رازي وسنفور نفسيهما في وضع صعب.
لاحقا يتم اغتيال اخ سنفور، ابراهيم، بعد ابعاد سنفور من قبل رازي عن البلد – بيت لحم- حتى لا يُصاب. بعد الاغتيال يتقرب سنفور من كتائب الأقصى وتكشف هويته لتقوم كتائب الأقصى بطرح خيارين عليه، اما الإعدام أو تنفيذ عملية انتقام لأخيه- قتل صديقه رازي.
سنفور يلتقي برازي ويحاول بداية إقناعه بأخذه إلى تل أبيب وبعد رفض الأخير يقوم سنفور بقتله بصورة وحشية.
ما ذكر هو فقط ملخصًا لأحداث الفيلم بصورة عامة، لكن الأحداث جمعت الكثير من المقولات لا بد من ذكرها حيث ساهمت بشكل كبير بتعزيز أفكار مسبقة وسلبية عن العرب أهما الكذب؛ الغدر والخيانة.
يبدأ الفيلم باتصال هاتفي بين ضابط "الشاباك"- رازي وبين عميل يدعى ابو يونس، فيسأله رازي بصورة مستفزة "ابو يونس ليش الـ بن آدم اخترع اللغة؟" فيجيبه ابو يونس "عشان يقدر يكذب"، وهذا ما سنراه على طول الفيلم، العربي دائما يكذب، فلا يقول الحقيقة الا عندما تتحايل عليه او تشتمه او تهدده، "سنفور" يكذب على رازي، قائد كتائب شهداء الأقصى ابراهيم يكذب على رفاق المقاومة، ممثل منظمة التحرير يكذب على العائلات الفلسطينية وهكذا دواليك!
الفيلم أظهر ايضًا على أن "الشاباك" أكبر مشغل للشباب الفلسطيني في الضفة، فالمعلومات التي تم الحصول عليها ليست من سنفور وحده إنما من عدد كبير من المخبرين. ناهيك على أن اغتيال قائد شهداء الأقصى، أخ سنفور، جاء بناءً على معلومات استخباراتية جمعها وراقبها عدد كبير من المخبرين!
إلى جانب ذلك يظهر الفيلم على أن الكتائب الفلسطينية تعمل فقط مقابل المال. الطمع والجشع هو محركهم الأساسيّ. ليس المقاومة او محاربة الاحتلال. من الفيلم يظهر على أن قائد كتائب الأقصى- ابراهيم- قد غدر بأصدقائه ويحصل على المال من حماس مقابل عمليات استشهادية داخل اسرائيل!. اضافة إلى أن ابراهيم لم يخبر اصدقائه، يبعث اخيه الصغير ليستلم المال ولا يثفق بأحد غيره، عندما كان سنفور خارج بيت لحم ولا يستطيع ان يذهب ليستلم المال، لم يبعث اصدقائه، بل ذهب هو وخاطر بحياته! كل هذا يبين الجشع والطمع للمال وفقط للمال، وحتى عندما ذهب ابراهيم ليستلم النقود من صاحب دكان، الذي سلمه الامانة وضيّفه وعرض عليه القهوة، ذكّره ابراهيم بان اخيه مدين له. وتكلم معه بلهجة الـ "زعران"- إن صح التعبير- وتخويف " قول لأخوك يجيب المصاري...انا ما نسيتو.."!
وفي مشهد آخر للفيلم يظهر مجموعة كبيرة من كتائب شهداء الاقصى تنتظر مسؤول فلسطيني على باب بيته لساعات من اجل المال. ومشهد آخر يظهر كتائب شهداء الاقصى تقوم بقطع الطريق على الوزير وإطلاق النار بالهواء، مما جعله يهرب منهم بسيارته، ثم نفس الافراد يتهجمون على مكتب مسؤول ويهددونه بالسلاح ليدفع لهم المال!
يؤكد الفيلم ايضًا على أن "لا آمان للعرب" فهذا التعامل الإنسانيّ للضابط رازي قوبل بوحشية من العميل سنفور ، كلمة حبيبي الي كان يطلقها تجاه السنفور كلفته روحه. سنفور لا يكتفي بإطلاق النار على رازي بل يقوم بتهشيم رأسه بحجر كبير حتى الموت! سياسة "كسر العظام" نذكرها جيدًا بحالتين، الأولى من عملية الباص 300 عام 1984، حيث قام الجيش بقتل 4 فدائيين (جمال محمود عيسى أبوجامع؛ ومجدي احمد أبوجامع؛ وصبحي شحادة أبوجامع؛ ومحمد صبحي بركة) حاولوا خطف حافلة تقل ركاب إسرائيليين مقابل إطلاق سراح أسرى، وفي تصريح لأحد الجنود وهو إيهود ياتوم لصحيفة يديعوت أحرونوت وذلك خلال مقابلة صحفية عام 1996 قال "لقد هشمت جماجمهم بأمر من الرئيس أفراهام شالوم وإنني فخور بكل ما فعلت". وفي الحالة الثانية، التي نذكرها جيدًا من الانتفاضة الأولى عام 1987، حينها تعامل "رجل السلام" رابين مع الانتفاضة بعنف وحاول إخمادها بشتى الطرق لكنه فشل في ذلك، وارتفعت الأصوات في أنحاء العالم استنكارًا للعنف الصهيوني المشين، فقام إسحاق رابين بناء على نصيحة أمريكا بإتباع أسلوب آخر غير الذخيرة الحية، فأمر باستعمال تكسير العظام، وصرح بأن هذا الأسلوب أكثر فاعلية من إطلاق الرصاص الحي، لأن تكسير العظام وخاصة عظام اليدين يجعل الشباب لا يشارك في المظاهرات أو أن يرمي الحجارة مرة أخرى!. الحالتان تؤكدان على أن تهشيم العظام ليس اختراع فلسطيني، هو إسرائيليّ بإمتياز، وكأن هنالك محاولة من قبل منتجي الفيلم العمل على تغيير الصورة الذهنية في وعي المشاهد والذي حتى قبل الفيلم كان يعرف من هو أب سياسة "تكسير العظام".
بعد الحديث عما طرحه الفيلم، من الجدير التطرق ايضًا إلى ما لم يطرحه الفيلم. "بيت لحم" يبدأ الأحداث عندما يكون رازي قد جنّد سنفور، لكن المُشاهد لم يعلم كيف تم تجنيد سنفور القاصر؟! أي الضغوطات مورست عليه للعمل مع الشاباك؟! كيف تم إستغلال ضائقته لأهداف أمنية إسرائيلية بحته؟! غياب هذا المشهد لا يأت من فراغ، إنما يعزز أكثر دعائية الفيلم ومحاولته البائسة لتجميل صورة "الشاباك" بصورة خاصة والاحتلال بصورة عامةً. دون ترك مجالا للتعاطف مع سنفور.
وفي الحديث ايضًا عن النوايا، الفيلم يتحدث عن "بيت لحم" وهي بطبيعة الحال بلد لها طابعها المسيحي، لكن كل شخصيات الفيلم، عدا الشخص الذي هرب إلى منزله قائد كتائب الأقصى ابراهيم قبل اغتياله ورفض الاعتراف اين يختبئ بداية لكن زوجته كشفت ذلك فيما بعد ليتم اغتياله، شخصيات مسلمة! وكأن هنالك محاولة حصر الصراع واختزاله بين اليهود والإسلام! وكأن الصراع دينيّ وليس سياسيّ على أرض ومكان، وهذا يفسر ايضًا كراهية الإسرائيلي للمسلم علمًا أن الأخوة المسيحيين شركاء وبصورة تامة في النضال والمقاومة الفلسطينية، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المناضل جورج حبش.
من الواضح أن الفيلم، والذي يدعي مؤلفيه أنه يعتمد على وقائع مثبتة ومؤرشفة إسرائيليًا، حيث وبعد فحص ومراجعة لتاريخ النضال الفلسطيني يبدو على أن الفيلم جمع بين رواية الشهيد حسن ابو شعيرة وقسم من رواية الشهيد حمزة ابو سرور وكلاهما لقن الشاباك درس لن ينسى، سيكون واجهة إسرائيل عالميًا. كيف لا وممثليه من العرب، ومؤلفه ايضًا كذلك! مؤسف حقًا أن يشارك خيرة فنانينا ومبدعينا في أعمال مشابه، وإذا كانت الحجة الحصار الفني وضرورة العمل فأولى لهم التوجه إلى مجالات عمل أخرى، كالتدريس مثلا .
[email protected]
أضف تعليق