ما زلت أحبُّ عملي. ثلاثون عامًا أفيق فيها كلَّ صباح وأرحل إلى ما أحبّه حتى التعب، فلقد تعوّدت كيف يكون العيش في كنف غابة، حيث العقل ضرورة، والقوّة قانون، ويبقى الأمل رجاءً.

ماذا يرتجى من حلب ثدي احتلال؟ عطشٌ، حكمة وصبر؟ أنا ابن أبي، سليل ذلك الوعد "فاصبر لدهر نال منك" يا ولدي "لا الحزن دام ولا السرور".

في صباح قلق لم ينم في حضن ليل كما تمنّى، بدأتُ مشواري إلى ذلك الجنوب، إلى بئر السبع. شغّلت محرّك سيّارتي فانبعث رجاء "مارسيل" الذي من عشق صدح: "يا نسيم الريح قولي للرشا/ لم يزدني الورد إلّا عطشا". كنت محظوظًا؛ صباحي يلفّه "حلّاج" وتعطًّره زفرة ابن "عمشيت" الجنوب.

صورة أبي شاخصةٌ أمامي، بقايا حلم لم يبدّده صباح كسول . قامة من ورد تحكي، حصينة كقامات رجال الشرق، وجه باسم كفلّة، ونظرة في رقة سهم "كيوبيد". كان شابًا وكنت بجانبه كالصّديق. بقايا ثلج أسود في جنبات ساحة سجن المسكوبية والجو في ذلك الشباط كان باردًا. كنت طالبًا في كلّية الحقوق في الجامعة العبرية، في ساعات الفجر اقتحمت قوّات من الشرطة الخاصة غرفتي في مساكن الطلبة، واقتادوني إلى تحقيق في شرطة المسكوبية. لم يقدروا على الإمساك بي في الميدان، فدلّتهم عصافير المساكن عليّ. التهمة، أنني ورفاقي الطلاب شاركنا في صبيحة ذلك النهار من عام ١٩٧٦ في مظاهرات صدامية احتجاجًا على اعتداءات مجموعات يهودية على "الأقصى" والأحياء الفلسطينية في محيطه. بعد أسبوع في الاعتقال حوّلوا سبعة منّا إلى المحكمة. لم أعترف أمام المحقّقين، ولكن في قاعة المحكمة أبرِمَت صفقة بين محامينا والنيابة. طولبتُ بقبولها، أسوة بزملائي في قفص الاتهام، كذلك أصرّ أبي أن أفعل، فالصفقة ستضمن الإفراج عنا في نفس اليوم ودفع غرامة بمقدار ألف ليرة، طامة كبرى على والدي بعملة ذلك الزمان.

رنين هاتف سيّارتي أعادني إلى الطريق. المستشار القانوني لمصلحة سجون إسرائيل يرشدني إلى مكان وجود الأسير الذي سنزوره معًا، فلسطيني يسكن الأردن مضربٌ عن الطعام منذ أكثر من مائة وخمسين يومًا. سنحاول اليوم معًا أن نجد لقضيّته مخرجًا. اذهب إلى الطابق الثالث غرفة رقم ١٢.

لم يتغيّر شيء على ذلك المكان. "سوروكا" ما زال يحتضن الوجع وشواهد الخديعة والسقوط. رأس "بن غوريون" يتصدّر البناء. في نظراته تنضح شماتة، ومن عينيه يندلق حلم.

فاجأتني نفسي حين تيقّنت أنني لا أكره المكان كما ظننت، فبعض من "ميسرة" ما زال هناك يسكن. هل تتذكرون قصّتي مع "ميسرة أبو حمدية"؟ في ذلك القسم حين رميت له وعدي، لقد غاب وها أنا أعود يا "ميسرة". أدخل تلك الغرفة، المشهد مكرر؛ اليد اليسرى مربوطة بالسرير والساق اليمنى بطرفه الآخر. صاحبها يغرس رأسه في الوسادة، من وحشة ووجع يهرب إلى منام، يحيط به ثلاثة من حرّاس الوهم. بعد دقائق انتظار أدخل لأجد أمامي فلسطينيًا يشبهني. على وجهه بدت علامات حيرة وسؤال. بحفاوة أبادره: "سلامات أخي علاء"، بوهن يجيبني وباستهجان: "أهلًا أستاذ بس أنا حاتم مش علاء". أعتذر. أخبره بأنني في زيارة لأسير آخر. جئت لهذه الغرفة نتيجة لتوجيه من مسؤولين في مصلحة السجون. على ما يبدو قد وقع خطأ، ولكن ربَّ صدفة خير من ألف ميعاد.

إنّه الأسير حاتم عمرو معتقل إداري من الخليل أمضى شهرين في سجن النقب. قبل أيام أصيب بجلطة على إثرها نقل إلى مستشفى "سوروكا". نتائج عملية الكـثـترة التي أجراها الأطبّاء أظهرت وجود انسدادات في الشرايين تستوجب إجراء عملية فوريّة. زوجته وأولاده الخمسة لا يعرفون عنه شيئًا. محاميه في الحج وهو يرفض إجراء العملية التي قد تودي بحياته في هذه الغربة والظروف. تواعدنا على اللقاء ووعدته بالمتابعة وتركته على أمل.

كان "علاء" نزيل غرفة رقم ٤. مع المستشار القانوني قابلته. استمعنا إلى مطالبه وافترقنا على وعد بمتابعة قضيّته. قصة "حاتم" أرّقتني وزميلي المستشار. تابعناها دون توقّف. نجح المسؤولون في مصلحة السجون بإقناع قائد جيش الاحتلال بضرورة إلغاء الأمر الإداري ووجوب الإفراج عن حاتم. قبل منتصف الليل تسلّم طاقم طبّي فلسطيني حاتم الذي أدخل إلى العناية المكثفة في مشفى في الخليل وصار بين أحبّائه.

في ساعة متأخرة من ذلك المساء كنت عائدًا تعبًا إلى بيتي. صوت ذلك القاضي يوبّخني ويُعلمني أنه سيضاعف الغرامة عليّ وسأدفع ألفي ليرة. بسخرية وصلافة قال: "أنت يا سيّد طالبٌ تتعلّم الحقوق فكيف تخلّ في النظام العام وتعتدي على قوات أمن الدولة؟ وأنت يا ابن بولس ما لك وللأقصى؟" حاولت أن أصرخ: إنني لست... ولكن صوت الحاجب علا وأعلن إقفال الجلسة. وقف الجميع.

هدهد ضجيج وسادت فوضى. قريبًا من مدخل بيتي، أحسست بيد أبي تربت على كتفي، تداعت بقية المشهد؛ ما زلت بجانبه في ساحة المسكوبية أتذكّر كيف اعتذرت له، ووعدته بأن أعمل كي أعوّض المبلغ الذي كان عبئًا قاسيًا على والدين مستورين يعلِّمان في الجامعات في الوقت ذاته ثلاثة من أبنائهما. رمقني بنظرة، من وقتها صارت كنزي، وقال: "ولا يهمك المصاري يا يابا بس اوعدني من اليوم تعرف تنقّي أصدقاءك".

في البيت وجدت بعض أولادي يتناقشون بحدّة عن الحب والصداقة والجحود.
- "عندما تتوقف عن الحب يكون جهنم" قالت الوسطى..

- "الكرة الأرضية هي جهنّمُ كوكبٍ آخر" قال الطبيب..
تركتهم، فسأفيق، وأذهب إلى عملي الذي أحبّه حتى التعب إلى لقاء "ميسرة" الفلسطيني.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]