كثيرون في بلدي وأنا من بينهم، استغربوا ذاك الهدوء الغريب (ما غريب الا الشيطان!) الذي ساد طوال أشهر الصيف الماضي، التي سبقت شهر الانتخابات البلدية، تشرين أول الحالي. وعزا البعض ذاك الهدوء المفتعل الى حرارة الصيف وأعراسه الجمّة، واستكملوا ذلك بحلول شهر رمضان المبارك فعيد الفطر السعيد فافتتاح السنة الدراسية المثقل بالهموم والحاجات. وكثيرون شكروا الله وحمدوه على تلك التصريفات المحمودة، حيث خففت عنهم كثيرا من آلام الرأس.
لكن معظمنا تجاهل وتناسى أننا لم ننس الانتخابات يوما واحدا طوال الخمس سنوات المنصرمة. فنحن اعتدنا أن نبدأ الحديث عن الانتخابات التالية فور ظهور نتائج الانتخابات السابقة، فما أن أعلنت نتائج الانتخابات الأخيرة وعرفنا من هو الرئيس الجديد لبلديتنا العريقة خاصة وتركيبة أعضاء المجلس البلدي، حتى بدأنا التحليل والتنظير واستخلاص العبر والاستعداد للجولة الانتخابية القادمة التي حلت بسرعة كبيرة وانقضت السنوات الخمس وكأنها أيام خمسة.
وهكذا باغتتنا الانتخابات ونحن ما زلنا نمحص ونفكر ونستنتج، فأخذ لاعبو السياسة المحلية يهرولون نحو ترتيب أوراقهم، لضمان أماكنهم ومقاعدهم وبدأت المشاورات من وراء الكواليس في الاجتماعات الليلية. واستفاق مرشحو الرئاسة "الأبديين" مستغربين من خلو ساحة الرئاسة من منافسين لهم، وتمنوا بل عمل بعضهم على ايجاد منافس أو أكثر لدب الحرارة في الأجواء الانتخابية، ومع أن أحدهم حاول القفز على مركبة الرئاسة في مغامرة "هوليودية" غير متوقعة، فشل المخرج في تحويلها الى مشهد سينمائي انتخابي مثير، لم تحقق ما يرجى منها من تحريك لماكينة الانتخاب المتناومة.
وبعدما اتضحت الصورة وتمت عملية التركيب والتعليب، نتجت لدينا خارطة قوائم فيها ما يدعو للغرابة والتساؤل حول محاسن الصدف أو تصريف الأقدار. فانظروا وتفحصوا ماذا نتج في مدينتنا المميزة بتركيباتها ثلاثة مرشحي رئاسة، لم يتغيروا أو يتبدلوا في ثلاث جولات انتخابية متتالية (وبالمناسبة فان الرقم ثلاثة حظي بمكانة خاصة في معتقداتنا ومأثوراتنا الشعبية)، وليس هذا فقط، لقد تقدمت خمس عشرة قائمة تتنافس على خمسة عشر مقعدا في المجلس البلدي، فاذا نجحت جميعها يكون نصيب كل قائمة مقعدا واحدا، واذا قسمناها على عدد مرشحي الرئاسة فان نصيب كل مرشح يكون خمس قوائم، لكن هذا لا يصح إلا في الحسابات الجافة المجردة. أما إذا تمحصنا في هوية القوائم نرى تقسيما وكأن مهندسا بارعا خطط له ورسمه باتقان، باستثناء خروج بسيط عن النظام العام. ونتج عن هذا التقسيم ثلاثة قوائم لكل طائفة، ثلاث اسلامية (هناك قائمة رابعة لكن لا أحد يعدها عند الجد!)، ثلاث مسيحية وثلاث درزية وثلاث "بدوية"! هل من دهشة؟ لا ليس هناك من خطأ! ففي شفاعمرو طائفة رابعة هي الطائفة "البدوية" التي تتمتع بمنصب نائب رئيس فخري في البلدية، والطائفة الخامسة وهي الأحزاب السياسية الوطنية الثلاثة التي تصر على الثنائية في القوائم ولم تجد السبيل لقائمة واحدة مشتركة.
ودخلنا في اللعبة عن جد، وأخذت درجة الحرارة ترتفع، وبدأت لعبة الأرقام وتقسيم الأصوات قبل أن تصل الى الصندوق. ما هو عدد الأصوات التي يحصل عليها كل مرشح عند كل طائفة، من هي القوائم التي تؤيد هذا المرشح أو ذاك، ومن سيزعل ومن سيرضى ومن سيعصى أوامر قيادة قائمته.. كم شخص حضر الاجتماع الافتتاحي عند هذا المرشح أو ذاك، كم عدد السيارات التي جابت الشوارع، ما هو عدد الخيل التي شاركت في المسيرة، كيف لفلان أن يرفع علم قائمته وعلم مرشح رئاسة لا تدعمه القائمة؟ ما هذه التناقضات والتخبطات؟ كيف سنحصي الأصوات اذن؟ ما هي القوائم التي ستسقط وأيها ستحصل على عضوين أو عضو واحد؟ بورصة الانتخابات تدخل في جذب وشد وارتفاع وهبوط، والمستثمرون قلقون ويفكرون كيف سيستعيدون ثروتهم التي رصدوها في دعم مرشحهم، والمنتفعون ينتظرون ما سيكسبونه من "فتات" يسد رمق جوعهم للنميمة والوشاية ونقل الأقاويل، علها تكفيهم للانتخابات القادمة.
ولا يكتمل المشهد السياسي والانتخابي إلا بسيل من التصريحات والاعلانات، فكل مرشح يظن أنه الأقوى والأضمن والأول بين زملائه.. فكل منهم "سيحسم" الانتخابات من الجولة الأولى.. وكل يستند الى ماضيه ويبسط مستقبله تعزيزا لحاضره.. كل منهم لا يرى منافسيه عن بعد أو قرب، ولا يرى إلا نفسه في مركز الدنيا، فهو سيعمل وهو سينجح وهو سيحقق وهو سينتصر وهو سيفوز.. أما الشعب ما هو إلا مجرد رقم أو عدد أو نسبة، لأنه سيقطع نسبة الـ 40% من الجولة الأولى ويحسم المعركة الفاصلة بضربة فنية وكأنه يمكن أن تتحقق بدون الناخبين والمواطنين.. وهو سيفوز بغالبية الأصوات.. نعم هو وليس الشعب هو الذي سيمنحه تلك الأصوات، فأنت أيها الشعب ما عليك إلا أن تحضر وتصفق وتأكل وتنام وتحلم برئيس يحقق لك كل ما تريد.. فهنيئا لك أيها الشعب السعيد ومن حلم إلى حلم وأنت بدون هم.. ومن انتخابات الى انتخابات وأنت بعيد عن الخيبات.. ولك مني أجمل سلامات.
(شفاعمرو)
[email protected]
أضف تعليق