مَن منّا لا يصبو إلى تحسين أداء دماغه اليوميّ، أو تنشيط ذاكرته أو زيادة تركيزه، أو تحسين تحصيله المهْنيّ والعلميّ، أو "تهذيب" تصرّفاته أو تغيير حالاته النفسانيّة؛ وغيرها من الأمور الّتي قد تساعد في إعلاء جودة الحياة وتجميلها؟!.. فهذا لم يعد حلمًا بعيد المنال، بل أصبح واقعًا بوجود تقنيّة الـ"نويروفيدباك".

يأتينا الـ"نويروفيدباك" (ردّة الفعل العصبيّة أو الاستجابة العصبيّة) بتقنيّة عمل خاصّة وجديدة، مبنيّة على تكنولوجيا من إنتاج وتطوير وكالة الفضاء الأمريكيّة ("ناسا")، والّتي يمكنها علاج مشاكل الإصغاء والتّركيز والإفراط في الحركة (ADD/ADHD) من دون الحاجة إلى تناول الرّيتالين (الحبّة العجيبة)!

تعريف

تقنيّة الـ"نويروفيدباك" تقوم على أساس إجراء رسم تخطيطيّ للدّماغ؛ إذ يُعتبر رسم الدماغ إجراءً أساسيّـًا يُستخدم في تقييم التوحّد، صعوبات التعلّم، القلق، الاكتئاب، فرط الحركة، الأرق، الضّغوطات اليوميّة، وغيرها الكثير.. فهناك نجاحات كبيرة وأكيدة للعلاج باستخدام برنامَج الـ"نويروفيدباك".

الـ"نيوروفيدباك" أحدث تقنيّة لعلاج حالات فرط الحركة وتشتّت الانتباه وصعوبات التعلّم والاضطرابات النفسانيّة المختلفة، من خلال تقييم النّشاط الذهنيّ والعصبيّ لهدف الوصول إلى الاستغلال الأمثل للخلايا العصبيّة وتحسين أدائها. فيتمّ الاعتماد على تخطيط كامل الأركان للتعامل مع المعالَج (المريض)؛ يشمل احتياجاته الذهنيّة والنفسانيّة والاجتماعيّة كافّة.

ومن خلال تقنيّة الـ"نويروفيدباك" تُمكننا معالجة: تشتّت الانتباه والنّشاط؛ الإفراط الحركيّ الزائد؛ اضطرابات الذّاكرة وضعفها؛ اضّطرابات القلق؛ الأرق (اضّطرابات النّوم)؛ الاضطّرابات السّلوكيّة؛ صعوبات التعلّم؛ التوحّد (Autism)؛ نوبات الهلع؛ الخوف المرضيّ (فوبيا)، وغيرها.

التّمرين مبنيّ على حاسوب مرتبط بـEEG (جهاز يقيس فعّاليّة أمواج الدماغ). وفي حالات صعوبة الإصغاء والتّركيز لدى البالغين، ولدى الأطفال خصوصًا (ADHD)، يرينا التّخطيط وجود نسبة كبيرة من الأمواج الكهرَبائيّة الدماغيّة البطيئة في المِنطقة الأماميّة من الدماغ، مثلًا، وهو ما يشير إلى أنّ هذه المِنطقة من الدماغ تعمل بشكل بطيء أو بشكل غير ناجع. ففي هذه الحالة نفعّل (نمرّن) ونحفِز وننشّط هذه المِنطقة من الدّماغ بوساطة التّمرين المدعوّ QEEG.

إنّ العلاج بوساطة الـ"نويروفيدباك" يساهم في تمرين الدّماغ على إنتاج (بثّ) أمواج كهرَبائيّة دماغيّة بنسب صحيحة (حسَب المعدّل الطبيعيّ)، فيساعد في حلّ بعض المشاكل العصبيّة أو الحركيّة المستعصية، كما يحسّن من التّصرّف، عن طريق تطوير قدرة الدّماغ بالحفاظ على التّركيز والإنصات من دون بذل مجهود مُفرَط، وإيجاد حلّ لها.. وتدريجيّـًا يتمّ التّخلّص من تعاطي بعض العقاقير أو الأدوية الكيماويّة! 

فالأطفال الّذين يتناولون الرّيتالين، مثلًا، هم أكثر مَن يتفاعَل مع هذا النّوع من العلاج؛ حيث ينجح غالبيّتهم في الإقلاع عن تعاطي الرّيتالين! فمن خلال العلاج بالـ"نويروفيدباك" يتعلّم المعالَجون (المرضى) التحكّم أو التخلّص من حالات الهلع المُفرط أو الضّغط النّفسانيّ أو ارتفاع ضغط الدّم أو التهاب الجيوب الأنفيّة ("سينوسيتيس") أو زيادة نسبة التّركيز، أو تحسين التحصيل والأداء عند الامتحان أو العرض؛ والأهمّ التخلّص من الإفراط الحركيّ ومشاكل التّركيز (ADHD) لدى الأطفال.

يعمل جهاز الـ"نيويروفيدباك" من خلال ردّة الفعل العصبيّة عند تفعيل الدّماغ، عن طريق استقبال أمواج كهرَبائيّة من الدماغ إلى مجسّات (إلكترودات) تقيس هذه الأمواج وتنقلها إلى الحاسوب بصورة تخطيط دماغيّ. وأسلوب دراسة وتحليل هذا التخطيط (EEG) وتشخيص الحالات السّلوكيّة أو النفسّانيّة يدعى (QEEG – Quantitative-EEG) فتخطيط الأمواج يرينا قدرة عمل مناطق مختلفة من الدّماغ، ومدى قوّتها أو ضعفها. 

ولإجراء العلاج يتمّ وضع قبّعة على فروة رأس المعالَج، تحوي 19 مجسّـًا (إلكترودات كهرَبائيّة صغيرة)، تستقبل الأمواج الكهرَبائيّة للدماغ وتنقلها بصورة تخطيط إلى شاشة الحاسوب عبر جهاز خاصّ، ليقوم بعدها الخبير بتحليل نتائج الفحص أو العلاج. وهذا العلاج غير مؤلم بتاتًا، فهو يسجّل النّشاط الكهرَبائيّ للدّماغ فقط، ولا يغيّر من عمل الدّماغ ذاته. فتخطيط الدماغ يكشف لنا عن مناطق في الدّماغ تعمل بصورة سويّة وأخرى لا تعمل بكفاءَة.

بمساعدة خبراء واختصاصيّين في المجال النفسانيّ يتمّ تحليل ومعرفة وظائف كلّ مِنطقة، وإن كان هناك موقع أو أكثر يُظهر تراجعًا في النّشاط الدّماغيّ أو تقدّمًا فيه؛ لوجود عدد كبير جدًّا من موجات الدّماغ البطيئة أو غير الكافية، أو لوجود موجات سريعة جدًّا. فعلى سبيل المثال: إذا ظهرت في المِنطقة الأماميّة من الدّماغ موجات دماغيّة بطيئة، وكان المريض يعاني صعوبات في الانتباه والتّركيز، فبمساعدة الـ"نويروفيدباك" يتمّ تنشيط المِنطقة وحَفزِها على بثّ موجات وفق المعدّل الطبيعيّ.

وحول علاج الـ"نويروفيدباك" كان لي هذا الحوار الشيّق، مع المعالِج العربيّ الوحيد في البلاد بهذه التقنيّة، خبير الدماغ، الشابّ راني بربارة.

- مَن هو راني بربارة؟

أنا من مواليد مدينة عكّا (27 عامًا)، تعلّمت في مدارس حيفا. في مدرسة "مار يوحنا الإنجيليّ" بدايةً، ثمّ في الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة. أسكن حيفا منذ أزيدَ من خمس سنوات. أنهيت دراسة اللّقب الأوّل والثاني في علم النفس في جامعة حيفا. وقبل ثلاث سنوات أنهيت دورةً مكثّفة في موضوع الـ"نويروفيدباك" في الولايات المتّحدة، وهو إدماج ما بين علم النّفس وعلم الدّماغ والتّكنولوجيا. أحضّر، حاليّـًا، لرسالة الدكتوراة من جامعة "بار إيلان" في موضوع علم الدّماغ. ولديّ عيادة خاصّة للـ"نويروفيدباك" في مدينة حيفا.

- كيف تعرّف الـ"نويروفيدباك"؟

إنّها تقنيّة علاجيّة حديثة العهد نسبيّـًا، تساهم في ترشيد عمل الدّماغ بوساطة الحاسوب. تقنيّة تُدمج بين الفحص والعلاج. ففي البداية يتمّ إجراء الفحص قبل بدء العلاج، وبحسَبه يتمّ تحديد نوع العلاج. وخلال العلاج تُمكننا مراقبة ردود الفعل ومقارنتها ما قبل العلاج وبعده، حيث تُمكن مراقبة تطوّر الحالة خلال العلاج نفسه، من خلال تخطيط لأمواج الدّماغ الكهرَبائيّة، والّتي تعطينا صورة شبه شاملة عن عمل الدماغ.

- لماذا سافرت بعيدًا لدراسة الموضوع؟

سافرت إلى الولايات المتّحدة لدراسة الموضوع لسبب عدم توافر هذه الدّورات في بلادنا. مع العلم أنّه يتمّ، حديثًا، تدريس الموضوع ضمن دورات خاصّة في البلاد.

- ما هي المؤهّلات المطلوبة لدراسة هذا الموضوع؟

من الضروريّ أن تكون حاملًا للقب أوّل في موضوع نفسانيّ أو علاجيّ.. فمن المحبّذ أن تكون لديك خلفيّة علميّة وعلاجيّة.

- وبالنّسبة لمدّة الدراسة..؟

قمت بدراسة الموضوع ضمن دورة مكثّفة في الولايات المتّحدة لمدّة نصف سنة تقريبًا.. إلّا أنّه بعد إنهاء الدراسة واجتياز الاختبارات النظريّة، عليك اجتياز الاختبارات التطبيقيّة ("ستاج") والّتي قد تصل بالمعدّل إلى 100 ساعة تطبيقيّة.

- ما مدى دقّة الفحص وأمانته؟

إذا تمّ الفحص بشكل علميّ سليم ودقيق فإنّ الدقّة قد تصل إلى 99 %. الأمر قد يبدو لك بسيطًا أوّل وهلة، ولكن الفحص وتحليل النتائج يتطلّبان مهارة وتقنيّة وخبرة. فأيّ حركة لا-إراديّة من قبل المعالَج خلال الفحص قد تؤثّر في النتيجة! فالقضيّة لا تنتهي بمجرّد وضع قبّعة مجسّات كهرَبائيّة على الرأس.. علينا تحليل التّخطيط الدماغيّ واستخلاص النتائج وفق المقاييس والمعايير المتّبعة.

- ولكنّ المقاييس والمعايير قد تختلف من شخص إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، أيضًا، أليس كذلك؟

كلامك صحيح تمامًا. إنّ للبيئة والمجتمع والظروف المحيطة بالشّخص تأثيرًا كبيرًا، وهي متغيّرة بتغيّر المكان. ولكن هناك معايير متّبعة تمّ تحديدها بخطوط "عريضة"، بناء على أبحاث عديدة أُجريت على شرائح عمريّة ومجتمعيّة ومرضيّة مختلفة.

- هل أيّ انحراف بسيط عن المعايير المتّبعة، إيجابيّـًا كان أو سلبيّـًا، قد يزعج الشّخص ويسبّب له أعراضًا "مَرضيّة"؟

قد يختلف تأثير الانحراف من شخص إلى آخر. فانحراف بنسبة 5 %، مثلًا، عند شخص ما قد يعني له الكثير، فيؤثّر في حياته ويسبّب له مشاكل نفسانيّة أو يؤثّر في تصرّفاته؛ بينما نسبة الانحراف ذاتها عند شخص آخر قد لا تشكّل له أيّ عائق أو مشكلة.

- هل يمكنك اكتشاف ما يعانيه المريض، من دون أن يشكو لك أعراضه؟

يُمكنني وضع الإصبع على المشكلة وتحديدها بخطوطها العريضة، لكن لا تُمكنني معرفة المشكلة الدّقيقة 100 % من دون أن يشرح لي المريض سبب حضوره إلى العيادة. أستطيع تحديد المشكلة وفق تحليلي ودراستي للتّخطيط الدماغيّ؛ فيمكنني معرفة ما إذا كان الشّخص يعاني ضعفًا في الذاكرة أو من الحركة المفرطة أو من عدم التّركيز أو من اكتئاب، ولكن لا تُمكنني معرفة سبب ذلك بشكل دقيق، من دون شرح سبب توجّهه إلى العلاج. أحيانًا كثيرة يأتيني مرضى يشكون أعراضًا معيّنة، وبعد الفحص أكتشف أنّهم يعانون مشاكل أخرى إضافيّة. فهناك عدد من الأشخاص يصعب عليه تحديد مشاكله، أو يكون تحديده لها غير دقيق. لذا أرجع إلى التّخطيط، حيث أكتشف بوساطته مشاكل لا يعلمها المريض، وبالتّعاون مع المريض أقوم بالتأكّد من أنّ هذا "الانحراف" عن التخطيط يؤثّر فيه فعلًا، فأقوم حينها بمعالجة الحالة. إنّ التّخطيط عبارة عن الدّالة الّتي تعطيني صورةً أشمل لأعمل حسَبها. ولكن في حالات معيّنة – حتّى إن وجدت، خلال التخطيط، "خللًا" في مِنطقة ما تعمل بشكل بطيء أو سريع – يؤكّد المعالَج (المريض) لي أنّه لا يعاني أيّ مشكلة فعليّة من جرّاء هذا التغيير، أترك له حرّيّة الاختيار، ولا أعمل على تحسين أداء تلك المِنطقة طالما لا يؤثّر ذلك فيه سلبًا.

- كم تستغرق عمليّة الفحص؟

يستغرق الفحص ثلاث دقائق، فقط. ولكنّ تحليل التّخطيط ودراسته واستخلاص النّتائج قد تستغرق ثلاثة أيّام.

- كيف يتمّ العلاج؟

يختلف العلاج من حالة إلى أخرى. ولكن خلال العلاج يتمّ تفعيل الدّماغ وتنشيط بعض الخلايا في مناطق معيّنة منه، عن طريق ألعاب تفكيريّة أو مسلّية أو مشاهدة فيلم ما.. وخلال العلاج يمكن للحاسوب أن يفحص إمكانيّات التواصل، أيضًا، بين مِنطقة وأخرى في الدماغ. حيث يقوم الحاسوب برصد النتائج ونقلها بمعدّل 4 مرّات في الثّانية. ووفق هذه النتائج نعمل ونحفِز الدّماغ على التّأقلم مع الحالات الجديدة، وتفعيله ومتابعة الرّابط بين الحركة أو الفعّاليّة وردّة الفعل.

- هل هناك حالات لا يمكن علاجها؟

هناك بعض الحالات. فكلّ مَن يتعاطَ أدوية وعقاقير تتعلّق بأمراض نفسانيّة لا يصلح للعلاج. وكلّ مَن يأتِ، مسبّقًا، لهدف "التّسلية" و"التجربة" لا لهدف العلاج، لا يمكن علاجه. كما أنّه في حالات نادرة جدًّا، لا تكون لدى بعض الأشخاص قابليّة للتعلّم أو التطوّر، رغم أنّ العمليّات والفعّاليّات العلاجيّة بسيطة نسبيّـًا، ولا تتطلّب مجهودًا كبيرًا أو ذكاءً خاصّـًا! فهي عبارة عن تمارين بسيطة لتنشيط الدّماغ وتحسين عمل الدّماغ. وفي المحصّلة هناك عدد كبير يستفيد من العلاج ويتقبّله وعدد قليل جدًّا قد يرفضه.

- وبماذا يتعلّق ذلك؟

يتعلّق ذلك بعوامل عدّة: عمر الشخص، الأمراض العضويّة المُزمنة الّتي يعانيها، اضطّرابات في النّوم والأرق الدائم، البيئة والمجتمع الّذي يعيش فيه، نمط غذائه، وما شابه.. كفاءَة العلاج تتعلّق بالمريض، فعلى المريض العمل على ذاته، أيضًا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو جاءَني طالب منبوذ أو مُعنّف أقوم بعلاجه بتقنيّة الـ"نويروفيدباك"، ولدى مغادرته العيادة والعودة إلى بيئته سيعاني المشاكل ذاتها من نبذ وعنف، فنصف السّاعة العلاجيّة لا ولن تكفيه طالما لا نعمل على تحسين بيئته ومنع تَكرار ما يلاقيه ويعانيه. أنا أتعامل مع المريض كمدرّب شخصيّ، أدرّب دماغه على تحسين مهامّه والتكيّف مع التّغييرات الجديدة. فدماغ الإنسان يمكنه أن يتأقلم ويتكيّف ويتعلّم أمورًا جديدة دائمًا، طالما نحن نحفِزه على ذلك.

- طالما أنّ الحديث يدور حول موجات كهرَبائيّة ومجسّات.. ما هي الخطورة الكامنة في مثل هذا الفحص أو العلاج؟ فهناك تخوّف دائم من كلّ علاج دماغيّ!

لا توجد أيّ خطورة في هذا العلاج. هذا الجهاز يقيس "كهرَباء الدماغ" لا يولّد كهرَباءً للدّماغ. فهو يستقبل الموجات الكهرَبائيّة لأعصاب الدّماغ ويترجمها إلى تخطيط عبر الحاسوب، فخلال الفحص والعلاج تستقبل المجسّات (الإلكترودات) الموجات الكهرَبائيّة من الدّماغ. ونحن – بدورنا – "نقرأ" ما يجري، فنفعّل وننشّط الدماغ تدريبيّـًا فقط، لا بوساطة أمواج كهرَبائيّة.

- منذ أيّ عمر يمكن العلاج بالـ"نويروفيدباك"؟

يُمكن العلاج من عمر 3 سنوات حتى 79 سنة.. لقد عالجت عجوزًا عانى من مرض الـ"ألتسهايمر". كما عالجت أطفالًا في سنّ مبكّرة عانوا فرط الحركة ومشاكل في التّركيز.

- ولكنّ مَن يعاني مشاكل في التّركيز والإنصات أو من فرط الحركة – وخصوصًا الطالب – ينصحه بعض الأطبّاء بتناول الرّيتالين..

هذا صحيح في حالات معيّنة. لكنّي شخصيّـًا لا أحبّذ ذلك بتاتًا؛ فالرّيتالين مادّة كيماويّة. فمن جرّاء عدم قدرة الطّالب على الجلوس مدّة ما خلال الحصّة الدراسيّة، أو التّركيز والإنصات للمعلّمة، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتطالب المعلّمة بتحويله إلى طبيب لفحص إمكانيّة استخدام الرّيتالين (تلك الحبّة ذات المفعول العجيب)! من دون دراسة العوامل الّتي دفعته إلى هذا التّصرّف مثلًا!! وأنا شخصيّـًا أجد بذلك مشكلة كبيرة؛ فالرّيتالين أصبح الحلّ الأسهل والأسرع لإرضاء المعلّمة وراحتها، أوّلًا؛ ولحلّ مشكلة الطالب بسرعة، في حالات عديدة، ثانيًا. العلاج بالرّيتالين قد يساعد في حالات كثيرة، لكن في حالات أخرى لا يجدي نفعًا، عدا أعراضه الجانبيّة العديدة! فالرّيتالين ليس هو الحلّ الأمثل دائمًا.

- لكنّه أثبت فاعليّته في كثير من الحالات..

صحيح؛ فالرّيتالين يعمل على كيمياء الدّماغ لا على كهرَبته. وهذان المجالان متوازنان ويعملان على مستقبِلات في الدّماغ. إنّ الرّيتالين عبارة عن دواء كيماويّ يؤثّر في عمل الدّماغ. فهو يعمل كالـ"كوكايين"، يتحلّل في المعدّة ويعمل على تنشيط خلايا الدّماغ، ولكن لا يُمكن إدمانُه كالكوكايين.. ومن المفاجئ أنّه يهدّئ من روع الطّالب، وفي الوقت ذاته ينشّط مِنطقة معيّنة في دماغه!

- إذًا، لا يُمكن إدمان الرّيتالين..

لا يوجد إدمان فعليّ. ولكن في غالبيّة الحالات تتمّ زيادة كمّيّة وجرعات الريتالين خلال العلاج؛ لأنّ الجسم يعتاد على نسبة معيّنة من الرّيتالين، فيضطرّ، بعدها، الطّبيب المعالِج إلى زيادة الجرعة.. فالشّعور بعد تناول أوّل جرعة من الرّيتالين يختلف بعد مُضي شهر أو أكثر على تناوله، وبذلك يختلف تأثيره وتقلّ فاعليّته! ولكنْ هناك علاقة نفسانيّة حسّيّة (إدمان نفسانيّ) ورابط بين الرّيتالين ومتعاطيه. فالطالب الّذي يتعاطى الرّيتالين يعتقد أنّه لحظة عدم تناوله الجرعة لا يمكنه التّركيز بتاتًا. فإن نسي الطالب أن يأخذ جرعة الرّيتالين، مثلًا، تجده يصل "مصيّفًا" إلى المدرسة.. وهذا غير صحّيّ ولا سويّ، فعليه أن يعوّد دماغه على العمل بشكل سليم بدون التعلّق بالريتالين. فدماغ الإنسان مرن ويمكنه أن يعالج نفسه بنفسه وأن يتأقلم مع ظروف معيّنة. تجب إعادة القوّة إلى الدّماغ وتفعيل خلايا الدماغ وتطويرها، ويجب عدم الاعتماد على الحلّ الأسهل، على الرّيتالين الكيميائيّ.

- ولكن، هل يمكن الاستغناء عن الرّيتالين، فعلًا؟

بالطّبع، وفي حالات كثيرة. فإنّ نتائج علاج الـ"نويروفيدباك" كانت جيّدة جدًّا. وقد وصلت نسبة النجاح (حسَب أكاديميّة طبّ الأطفال الأمريكيّة) من 85 % إلى 90 %، وأثبتنا أنّه يمكننا الاستغناء عن الريتالين. وخلال العلاج أحبّذ عدم تناول الريتالين منذ الجلسة الأولى، فلن تحدث كارثة إذا تمّ الإقلاع عن تناول الريتالين.

- هل عالجت حالات لأطفال أقلعوا بعدها عن تناول الرّيتالين؟

هذه من أكثر الحالات الّتي أعالجها تقريبًا. والنتائج تبشّر خيرًا. فكثيرون من الأطفال الّذين عالجتهم استغنوا عن الرّيتالين تمامًا.

- ما هي مدّة العلاج؟

يتعلّق ذلك بعمر المعالَج (المريض) والأعراض الّتي يعانيها. لكن في المعدّل، يحتاج الطفل إلى عشر جلسات علاجيّة، بمعدّل نصف ساعة لكلّ جلسة.

- متّى يشعر المريض بالتحسّن؟

يختلف هذا الأمر من شخص إلى آخر. فكما ذكرت لك آنفًا، أيّ تغيير طفيف قد يحسّن من شعور شخص ما بينما التّغيير ذاته لن يؤثّر في شخص آخر. كما أنّ سرعة التعلّم والتأقلم تختلف من شخص إلى آخر. والتّغييرات الّتي تحدث داخل الدّماغ تختلف كذلك.

- ولكن التّغييرات هذه تحدث من جرّاء تفعيل الدّماغ وتنشيطه، فقط؟

طبعًا. فحَفز الدّماغ وتنشيطه يؤدّيان إلى تغييرات ضروريّة وطبيعيّة، بدون موادّ كهرَبائيّة أو كيماويّة. يجب ألّا يخاف الشّخص من التغيير، لا بل عليه أن يسعى للتّغيير نحو الأحسن. إنّ التغيير صحّيّ للدّماغ، بينما الرّوتين يؤدّي إلى الخمول والاكتئاب، أحيانًا.

- أيُمكنك – خلال الفحص – اكتشاف جلطات أو أمراض دماغيّة؟

يُمكنني أن أكتشف عملًا بطيئًا لخلايا الدّماغ في مناطق منه خلال الفحص، ولكنّ ذلك لا يعطيني مؤشّرًا للحالة المرضيّة العضويّة، كما لا يعني شيئًا حتّى لطبيب الأعصاب. فقد ينبع ذلك من ضعف في عمل الخلايا، أو ألم رهيب، أو مرض مزمن.. فأيّ مرض عضويّ سيؤدّي حتمًا إلى تغيير في تخطيط الدّماغ، وهنا يجب إجراء الفحوصات الطبّيّة اللّازمة وفحوصات الدّم لتشخيص المرض، كما هو متّبع.

- هل يشمل علاج الـ"نويروفيدباك" مؤمّني صناديق المرضى؟

للأسف الشّديد، هذا العلاج غير متوافر في المستشفيات ولا ضمن صناديق المرضى. فهو علاج خاصّ، حديث العهد نسبيّـًا (4-5 سنوات)، فلأسباب مكتبيّة (بيروقراطيّة) لم يتّم إدخاله ضمن تأمينات صناديق المرضى. لكن هناك تأمينات خاصّة تغطّي نسبة من تكاليف العلاج.

- ما هي تكاليف العلاج؟

العلاج مُكلف نوعًا ما، وقد يصل إلى مئات الشّواقل أو أكثر، لكنّ النتيجة النهائيّة للعلاج كفيلة بجني ثماره.

- ما مدى إقبال المرضى على هذا النّوع من العلاج؟

ألمس إقبالًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وخصوصًا من قبل العرب. يأتونني من المثلّث والجليل والجولان والنّقب، حتّى إنّ هناك مريضًا يحضر إلى العيادة، بشكل شبه يوميّ، من الأردن!!

- ومِمَّ يعاني هذا المريض؟

إنّه شابّ في مقتبل العمر (16 عامًا)، ابن لطبيب جرّاح. منذ ولادته لم ينطق بكلمة واحدة، وبعد عدّة جلسات علاجيّة وبمساعدة معالجي النطق في الأردن، أيضًا، بإمكانه اليوم أن يركّب جملة من عدّة كلمات.. وهذا بالنسبة إلى أهله، ولي شخصيّـًا، نجاح كبير جدًّا، حيث لم تفلح أساليب العلاج التقليديّة في علاجه. ولكن المشوار أمامنا ما زال طويلًا.

- هل على المريض أن يقوم بـ"وظائف بيتيّة" خاصّة؟

لا. ولكن من الضروريّ العمل مع الأهل أيضًا، ودراسة بيئة الولد أو المعالَج وتفهّم محيطه جيّدًا، والعمل على تحسين ظروفه الاجتماعيّة أيضًا، لهدف كفاءَة العلاج؛ فمحيط المريض يؤثّر في كفاءة العلاج.

- أيؤثّر العامل الاجتماعيّ في التشخيص والعلاج؟

بالطّبع، فنحن ندور في فلك المجتمع. ويتعلّق ذلك بقبول الشّخص لذاته في المجتمع، ونظرة المجتمع إليه، وما إذا كان تقييمه لنفسه نابعًا من تقييم المجتمع له أم من تقييمه هو لذاته. فهل يعمل على إرضاء ذاته أم مجتمعه؟! وهذه العوامل والتخبّطات تؤثّر جدًّا في الشّخص، وقد تؤدّي – في حالات معيّنة – إلى عمليّات اكتئاب وأمراض نفسانيّة.

- وكيف يأتي دورك كمعالِج؟

أعمل على تخفيف الاضطراب والتوتّر والقلق، وعلى تحسين أداء الدّماغ. فعندما يكون الدّماغ مشغولًا بأمور "نفسانيّة"، أعمل على زيادة الروابط، أحيانًا، بين المناطق الدّماغيّة المختلفة وتقويتها وزيادة الحركة أو التفكير؛ لإزالة التوتّر والقلق، مثلًا.

- هل يُمكنك أن ترفع من التّحصيل العلميّ لدى الطالب؟

يُمكنني تحسين تحصيله العلميّ، وفحص قدرته الذّكائيّة (IQ). ووفق قدراته يُمكنني العمل، مثلًا، على تحسين اللّغة الإنچليزيّة أو الرياضيّات، وذلك عن طريق حَفز المِنطقة والخلايا الدماغيّة المسؤولة عن ذلك وتنشيطها. ولكن من الهامّ والضروريّ – في مثل هذه الحالات – الاجتهاد الشخصيّ، والدراسة؛ فلا يُمكنه النّجاح طالما لم يدرس، وإن واظب على العلاج والدراسة فنتائجه ستتحسّن. كما يدخل علاج الـ"نويروفيدباك" في تحسين أداء الرياضيّين، وأحيانًا الممثّلين والمشاهير، عن طريق إزالة التوتّر أو الخوف وزيادة التّركيز والثّقة بالنّفس.

قبل مغادرتي عيادة راني بربارة، دعاني إلى زيارته مجدّدًا، لإجراء تخطيط دماغيّ، فلربّما يكتشف لدى تحليله أمورًا في نفسي كنت أجهلها وأمورًا أخرى تجب معالجتها!! سأزوره قريبًا، لإجراء الفحص، وقد أوافيكم بنتائج الفحص.

قد يجد البعض في الـ"نويروفيدباك" علاجًا سحريّـًا (لا يشمل موادّ كيماويّة) للتخلّص من مشاكل نفسانيّة وسلوكيّة واجتماعيّة كثيرة، وقد يجد فيه البعض الآخر أداةً لزيادة الإنجازات والتّحصيلات، وتحسين جودة الحياة.. ولكن من المؤكّد أنّه يعمل على تنشيط دماغنا، تحسينه، حَفزه، وتطويره.. وكم يحتاج مجتمعنا العربي إلى تنشيط دماغه وتفعيله بشكل سليم..!!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]