نحن الشباب..
الخريجون والخريجات الأعزاء،
بعيون تستشرف المستقبل، وقلوب تودع مرحلة تعليمية أساسية، تتخرجون في هذه الأيام من مدارسكم الأم، إلى خضم الحياة ودروبها المتشعبة.
لا تزال المدرسة نواتنا الاجتماعية الثانية بعد البيت العائلي، وتضطلع مدارسنا بدور محوري في صقل شخصية الخريج العربي في ظروف هذه البلاد وتعقيداتها، ذلك الخريج الذي يتخرج من صفوفها وقاعاتها وساحاتها ليواجه العالم الواسع، على آماله وصعوباته.
(1) في ظل تحديات الحياة، نريد لمدارسنا أن تزرع روح المسؤولية الجماعية والتكافل المجتمعي والعطاء الوطني، وعلينا أن نصبو لأن تكون مدارسنا صروحا تربوية ووطنية، ومن جيل إلى جيل.
وللحقيقة، فإن تعقيدات الحياة قد تكون أكثر بكثير من أن نتعلم كل ثناياها وخفاياها في أحضان المدرسة، مهما بلغ تميزها وتفوقها. من هنا الركن الأساس في المسيرة التربوية على مقاعد الدراسة:
هي لا تزودنا بجواب لكل سؤال، لكنها تزودنا بطريقة التفكير والبحث عن الجواب.
هي لا تزودنا بحسم واضح المعالم لكل حيرة نواجهها، لكنها تزودنا بالتحليل السليم للأمور وصولا للقرار الصحيح المتوخى.
لا تزودنا المدرسة بخارطة مفصلة للطريق المنشود، لكنها تزودنا بالبوصلة التي تهدينا إلى بر الأمان.
(2) قد لا يحسدكم أحد على الظروف السياسية والاقتصادية التي تتخرجون إليها في هذه الأيام، لكن للحقيقة فلم يحسد أي فوج من قبلكم على ظروف تخرجه، بدءا من الأفواج التي تخرجت في ظل الحكم العسكري، مرورا بأفواج يوم الأرض بعد منتصف السبعينيات، ثم أفواج الانتفاضة في أواخر الثمانينات ثم أفواج أكتوبر في العقد الأخير. وهكذا، فلكل فوج ظروفه، كما أن لكل فوج أحلامه وأمانيه.
هذه التحديات لن تتوقف، لكنها يجب ألا تثنيكم عن الإيمان بقدراتكم والإيمان بالمستقبل. على العكس، كأهل هذا الوطن الأصليين فإننا نرى في التحديات مصدر الهام لشحذ الهمم وعدم الاتكاء على الحائط بل المبادرة للعمل والتطور وللتغيير، إيمانا بكلمات الشاعر التركي ناظم حكمت" إن أجمل أيامنا هي تلك التي لم نعشها بعد.
(3) إن شعبنا أيها الخريجون في أمسّ الحاجة إليكم.
تتفاقم في مجتمعنا ظواهر العنف والعصبية العائلية والجهوية والحاراتية، ونحن بحاجة لجيل من الشباب والشابات يعيد إلى مجتمعنا مفاهيم التآخي والتسامح والتأني والمحبة. ما أحوجنا اليوم إلى هذه المعاني السامية.
أمام مجتمعنا تحديات جسام في علاقته مع المؤسسات الرسمية، وخاصة في قضايا الأرض والتعليم والهوية والميزانيات، في قضايا تحصيل الحقوق وحماية الأصول، وما أحوجنا إليكم، إلى جيل يحمي منجزات مجتمعنا، ويعزز مواقعه في النضال للمساواة الجوهرية والمشاركة السياسية الحقيقية.
شعبنا بحاجة إليكم، فأنتم وقود حياته. بكم تنطلق شعلته وتتوهج، وبدون مساهمتكم لا تجد الشعلة من يرعاها ويحملها. شعبنا في الناصرة وأم الفحم واللد ورهط والعراقيب بحاجة إلى عطائكم والى مساهماتكم والى دوركم البناء. الجيل الشاب هو عماد كل مجتمع، فما بالكم حين يكون هذا الجيل هو من أبناء شعبنا الذي يتعطش لجيل واعد يحمي مسيرته ويعزز صفوفه. نعم، وبنظرة تفاؤلية، فإننا نريد لكل فوج إضافي من خريجي شعبنا أن يساهم بتقصير المسافة بيننا وبين تحقيق أمانينا بالمساواة والكرامة والعدل الاجتماعي.
(4) الخريجون الاعزاء،
شعبنا بحاجة إلى علمكم. العلم، هو بحر واسع من التعلم والإبداع. قد تكون دروب العلم طويلة ووعرة أحيانا، لكنها حتما معَّبدة أمام كل من يقصدها بجدية وأمل.
لا تزال احتياجاتنا المهنية والأكاديمية أكبر بكثير مما هو متوفر من طاقات، والمسؤولية هي الآن لديكم. لا تكتفوا ببضع سنوات دراسية لاكتساب مهنة المستقبل، بل تقدموا إلى اللقب الأول والثاني والثالث، وما بعد بعد ذلك. مارسوا البحث العلمي والتفكير الفلسفي والإبداع المعرفي. تقدموا للبرامج الأكاديمية التخصصية، وتقدموا بطلبات المنح التعليمية، واطرقوا كل باب علمي يجاوركم. لا توجد في العلم مسلّمات أو غيبيات. لا توجد حدود في العلم. كلما تقدمتم أكثر، فُتِحت أمامكم أبواب أكبر وأوسع.
لا يمكننا، كمجموعة قومية أصلية، أن نحدث التغيير المرجوَّ في مكانتنا إن لم نتزود بأدوات التغيير والتقدم: بالعلم وبالبحث وبالتفاكر. هذه الأدوات المعرفية هي حجر الزاوية لكل مشروع علمي وثقافي، وهي الأساس في بناء قاعدة مجتمعية متعافية.
(5) في القريب، ستلتقون ثانية على دروب الحياة. ستلتقون كأكاديميين وكمثقفين، كأطباء ومعلمين ومحامين ومهندسين وعمال ورجال أعمال. ستلتقون بعد حين، ونريدكم أن تفخروا حينها بعلمكم ومهنكم وانجازاتكم، وأن تفخروا بأخلاقكم ومحبتكم لبعض وبدوركم الاجتماعي والوطني.
عندها قد تدركون أكثر معنى أن تشكروا اليوم أهاليكم، وان تشكروا الهيئات التربوية التي واكبت تقدمكم، وحضن المدرسة الذي رعاكم. تقدموا، افخروا بانجازاتكم، لكن لا تنسَوا من زوّدكم بأسس النجاح في البيت والمدرسة.
تقدموا، وفقكم الله، وسنكون بانتظاركم، فشعبنا لا يستطيع إكمال المسيرة بدونكم.
أنتم قادرون، وأنتن قادرات.
*محاضر حقوقي ومدير مركز دراسات، المركز العربي للحقوق والسياسات
[email protected]
أضف تعليق