في المجتمع العربي أكثر من 50% من الأولاد يقبعون تحت خط الفقر، الوضع الاقتصادي – الاجتماعي في الوسط العربي آخذ بالهبوط من عام الى آخر، العديد من العائلات العربية تعاني الفقر، مما يدفع بأبناء الشبيبة الذين ينشأون في هذه العائلات الى التدهور والجنوح نحو عادات وظواهر منبوذة، استخدام المخدرات، احتساء الكحول والثمالة، التدخين، استخدام العنف، وحتى الانحراف نحو الزنى، والتورط في الجنائيات واقتراف المخالفات شتى كالتجارة بالسموم، السرقة، الاعتداءات وحتى قد يصل لحد القتل....
ولكن بؤرة الأمل في ظل هذه الحالة المقلقة، يبرز مركز يتعامل مع الشبيبة في خطر، يتعامل مع أبناء الشبيبة المعرضين لجميع هذه المخاطر التي قد تودي بهم الى الهاوية ويحاول انتشالهم من هذه المخاطر والمشاكل، وأن يمنع تورّطهم فيها مستقبلا، مساعدا اياهم على بناء حياتهم بعيدا عن هذه الظواهر، هو مركز الفنار العكيّ...
هذا المركز الذي يقع في حي جابوتينسكي في عكا ويتعامل مع أبناء الشبيبة المعرضين لهذه المخاطر، هو عمليا المركز الوحيد في الوسط العربي المختص بالتعامل مع أبناء الشبيبة في خطر...
ارتفاع بنسبة 18% في ظاهرة استخدام السموم والمخدرات
صدر هذا الأسبوع تقرير جمعية "عيلم" التي تعنى بأبناء الشبيبة في خطر، ويتضح منه أن هناك ارتفاعا حادا في حالات الخطر التي تهدد أبناء الشبيبة، الى جانب ارتفاع بنسبة استخدام المخدرات القانونية، ارتفاع بعدد حالات الزنى لدى الفتيات، وارتفاع بنسبة التبليغ عن استغلال جنسي للقاصرات من قبل البالغين، عبر المال، الهدايا وحتى الخدمات. كما يتضح من التقرير أنه سجّل ارتفاع بنسبة 18% في ظاهرة استخدام السموم والمخدرات القانونية، أي تلك منها التي لم يعلن عنها أنها غير قانونية بعد، والتي بإمكان كل فتى وفتاة شراءها في الحوانيت في شتى أنحاء البلاد.
كما سجّل في العام الماضي ارتفاع بنسبة 25% بعدد التوجهات من قبل فتيات اللاتي بلّغن عن تحرش جنسي من قبل شباب أو بالغين.
فطين عودة: لا حدود للشبيبة!!
فطين عودة، هو مدير مركز الشباب “الفنار"، المشترك بين جمعية "عيلم" وبلدية عكا، والذي يقع في مبنى عبارة عن ملجأ، في حي جابوتينسكي في عكا، وحظي المركز بهذا الاسم كما بقية المراكز التي تعنى بالشبيبة في خطر التابعة لجمعية عيلم، والتي تعتبر بؤرة الضوء ربما الوحيدة لهذه الشبيبة.
ويحدثنا عودة عن الشبيبة في خطر، والمخاطر التي يواجهونها قائلا: “شبيبة في خطر، كما اسمهم، هم شبيبة معرضون لخطر الانجراف الى السموم والاجرام وأن يتورّطوا مع القانون... دورنا أن نستبق الأحداث، أي أن نعمل مع هؤلاء الأولاد المعرضين للخطر، لنمنعهم من الانجراف لعالم الاجرام”...
ويضيف عودة: "المشكلة اليوم هي أن الأولاد لا يعرفون الحدود، لا حدود بينهم وبين أنفسهم، وأصدقائهم، والأهل، والمدرسة، والمجتمع بشكل عام... ويبدأ الأمر بطريقة الحديث والكلام، اللغة التي يستخدمها، نظراته، ووصولا الى تصرفاته... فهؤلاء الشبيبة لا يعرفون كيفية التعامل مع القانون، ما هو مسموح وما هو ممنوع. لا يوجد لديهم حدود، فقد يدخل الولد الى هنا - غرفة المدير - ويجلس ويرفع رجليه، فلا يعرف الحدود”...
"والدي لا يتحدث معي هكذا"
ويتابع حديثه قائلا: “أهم ما نعمل عليه هو أن نضع لهؤلاء الشبيبة الحدود، أن نحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع، لكي يفهموا مستقبلا ان لكل مكان قوانينه، وهذا الأمر يبدأ من هنا. فمثلا: “تسأل احد الأولاد لماذا هكذا تتصرف، فيرد عليك: “والدي لا يتحدث معي هكذا" أو "في المدرسة لا يقولون لي هكذا"، وهذا يدل أنه لا يملك الحدود حتى في بيته أو المدرسة على سبيل المثال"!!!
ويواصل حديثه مستعرضا أمثلة لوضع الحدود لأبناء الشبيبة، بقوله: “لدينا قانون، نبدأ بالعمل في الفرقة على الساعة الخامسة، مسموح أن تتأخر لربع ساعة فقط، والهدف ليس العقاب وانما التربية والتعليم.. هذه بعض الأمثلة”.
ويضيف: “في الوقت ذاته لدينا قانون آخر وهو قبول الآخر بدون شروط، أن نقبل الأولاد كما هم... اذا كانت ملابسهم مهترأة وبالية، رائحتهم كريهة، صوتهم عالي جدا، يصرخون، وغير ذلك، فهؤلاء الأولاد يأتون من عائلات كادحة وقد تكون تعاني مشاكل عدة، ونحن نتقبلهم كما هم ونباشر بالعمل معهم على كل ذلك، والهدف هو أن نضح حدودا لهم لنهيأهم للمجتمع ليكونوا أفرادا صالحين به”...
أكثر من 200 فتى وفتاة، ونجاح كبير..
المركز الذي أقيم قبل أربع سنوات، يحتضن ما يقارب 200 فتى وفتاة، أمر يدل على نجاحه، فبالاضافة الى العمل مع الشبيبة في خطر، يحتضن المركز العديد من الأولاد الذين يحتاجون مساعدة في دراستهم، ويقدم لهم الرد على هذا الاحتياج عبر المركز التعليمي، الذي يعمل ساعتين يوميا.
ويؤكد عودة: “مؤخرا حتى افتتحنا مجموعة للشابات والفتيات من التعليم الخاص... وأغلب هؤلاء البنات يبقين في المنازل، اضافة الى أنهن شابات ولسن شبابا، فتكون النتيجة أن هؤلاء الفتيات بغالبيتهن ينحصرن بين أربع حيطان في منازلهن... هذه الفرقة هي تجربة غير مسبوقة وبدأنا نلحظ نجاحها، فهكذا نعطيهن الفرصة ليكن مجموعة خاصة لوحدهن، لكي ينفتحن، فعندما يصلن يكون المركز لهن لوحدهن، ليشعرن بأنهن مهمات في المجتمع، فالمشكلة الأساسية التي يعانين منها هي أنهن منبوذات في المدرسة وحتى في الحي وبين بقية الفتيات، نحن عمليا نمنحهن الشعور بالراحة وبأنهن مهمات وأنهن لديهن كل المركز خاصا لهن.. والهدف هو أن نساعدهن على الانفتاح وعدم التقوقع، والاندماج في المجتمع لاحقا”...
ويواصل حديثه قائلا: “بالاضافة الى ذلك، شيء مميز لنا بسبب وضع البيئة والوضع الاجتماعي – اقتصادي في الحي المحيط بنا، قررنا أن نفتح مركز تعليمي يعمل أربعة أيام في الأسبوع بين الثالثة والرابعة والنصف ظهرا. في هذا المركز، كل الفعالية مبنية على التطوّع من شابات بأجيال 16 – 18، يدرّسون أولادا من الصف الثالث وحتى السادس (جيل 9 – 12 عاما).... هناك أيضا ثلاثة متطوّعين، اثنين منهما معلمي مدرسة، الذين يأتون ويساعدون في الفعاليات عند الحاجة لهم. وهذا أمر مميز، خصوصا وأن روح التطوّع في الوسط العربي شبه معدومة... لدينا أيضا فرقة أمهات، تضم 13 أما من ذوي الاولاد الذين يحضرون للمركز، وهذا نفتخر به، ايمانا منا أن التواصل بين المركز والوالدات يعود بالفائدة بدون شك على الأولاد أنفسهم”...
الفعاليات التي يقدمها المركز كثيرة، ومتفاوتة، فهي تجمع بين التعليم والتربية وبني الرفاه والمرح، فيقول عودة: “نقيم فعاليات عدة، من رياضة التحدي، تسلق الجبال، رافتينج بالنهر، لدينا فريق كرة قدم، بينج بونج في المركز، أفلام عادية، وافلام وثائقية – نحضر فيلم لربع أو ثلث ساعة ومن ثم نفتح الموضوع للنقاش، غرفة حاسوب، ورشات كثيرة عن السموم، المخدرات، التورط مع القانون، الكحول، وغير ذلك.. كما ونعمل على مشروع تصوير، وتطوّع شاب من كندا أن يمرر دورة تصوير لمجموعة الأطفال في خطر، شريطة أن تكون مجموعة مختلطة عربية يهودية”.
هذه الخدمات والفعاليات التي يقوم بها المركز تتمثل بمرح وفرح الأولاد، الفتيان والفتيات في المركز، الذين عبّروا عن سعادتهم الشديدة بهذه الفعاليات، وحتى أن أحدهم قال أنه يفضّل ان يحضر للمركز بدل أن يبقى في منزله أو أن يتسكع في الحي. وأكبر مثال على ذلك هو أنه منذ لحظة وصولي المركز بهدف اجراء اللقاء، ورغم أن المركز لم يفتح أبوابه بعد، كان الباب يُقرع كل بضع دقائق، كل مرة كان شابا أو فتى آخر، الذي يحضر للمكان بغية قضاء الوقت والابتعاد عن المخاطر التي تنتظره في الشارع...
شحادة: هذا مكان يتوجه له الشاب أو الشابة عندما لا يكون لديهم مكان آخر يذهبون اليه
العاملة الاجتماعية في المركز، مريم شحادة، تحدثنا عن الجانب العلاجيّ الذي يتلقاه الشاب او الشابة، الفتاة أو الفتى، الذين يحضرون للمركز، فتقول: “شبيبة في خطر من اسمهم موجودون في خطر، ممكن في البيت، في الحي، ممكن حتى بصفاته الشخصية والتي قد تؤدي لأن يكون الشاب في خطر، يكون الشاب بنفسه يحب التحديات، وهذا جزء من شخصيته، أنه يكون قد يحب الخطر بشخصيّته... طرق العلاج تختلف بحسب الحالة، قد تنستخدم علاجا نفسيا، أحاديث دائمة مع الأولاد، تقريبا مرة بالأسبوعين لمدة ساعة.. العلاج في المركز هو بغالبه علاجا تصرفيا، وضع حدود، وتحديد "العقاب"... بالاضافة الى عمل مجموعات الدعم، والعلاج الجماعي.. في المركز حتى المرشدين يعملون مع هؤلاء الشبيبة ويطوّرون الأحاديث معهم بهدف تقويتهم والمساهمة في خطة العلاج لهم.”...
وتضيف: “الهدف من ذلك بالأساس هو تقوية الشباب وتغيير تصرفاتهم للأحسن، وحتى تغيير طرق تفكيرهم.. هذا مكان يتوجه له الشاب أو الشابة عندما لا يكون لديهم مكان آخر يذهبون اليه”...
النتائج والنجاح تحصدهم لاحقا
عند العمل مع أبناء شبيبة في خطر يتضح لك أنه لا يوجد "دواء سحري" لحل المشاكل التي تكتنف الوسط العربي، وتحيط بهؤلاء الشبيبة، لذلك فالنجاح والنتائج لا تظهر مباشرة بعد جلسة العلاج الأولى، وانما فقط بعد مرور الوقت، وبعد اندماج هؤلاء الأطفال مع الزمن في المجتمع.
وتقول شحادة عن ذلك: "العمل مع الشبيبة فيه الكثير من التحدي، فالنجاح لا تحصده مباشرة، ولكن تراها مستقبلا. هناك حاجة لتكون لديك موتيفاتسيا، من جهة عليك أن تكون قريبا من الشبيبة ومن ناحية أن تضع حدودا بينك وبينهم، فهؤلاء الشبيبة كما قلنا لا يعرفون الحدود.. "ريتشينج أووت" هو مصطلح مستعمل عندما تذهب الى الشبيبة نفسهم في المدارس ومن ثم تحضرهم الى المركز لتواصل عملك معهم، وهذا أمر مهم نقوم به بغية إحضار أبناء الشبيبة المعرضين للخطر ومساعدتهم في المركز".
بطاقة معايدة تغيّر البشر
وتطلعنا شحادة على احدى قصص النجاح التي شاهدتها في المركز فتقول: “كان شابا عنيفا جدا ويتحدث بلغة بذيئة جدا مع الجميع، وبسبب كل التصرفات غير المقبولة من جانبه، وضعنا له حدا ألا يدخل المركز لفترة معينة، وبهذه الفترة كان عيد ميلاده، أرسلنا له بطاقة معايدة الى منزله، فأحضر البطاقة وجلس مع المرشد وقعد يبكي، "حتى أهلي لم يتذكروا عيد ميلادي"، ورغم أنه كان يشتمنا وكل ما عمله معنا، قمنا بإرسال بطاقة معايدة له، انقلب 180 درجة، كل تصرفاته تغيّرت.. وحتى أنه بات يهدي الأولاد ويدعوهم لتغيير تصرفاتهم للأحسن، وانقلب كليا.... شاب آخر عهد أن يضرب ويعتدي على شقيقاته، حتى أنه كان في بعض الأحيان يختفي من المنزل لفترات متفاوتة، بعد العلاج معه وبعد العمل المطوّل معه في المركز، لم يعد يقوم بذلك، وتحسّنت تصرفاته، وبات ابنا صالحا كما تقول والدته"!!!
ولكن، ورغم كل العمل الجهيد في المركز مع هؤلاء الشبيبة، فيبقى للشارع والحي والبيئة التي يعيشها هؤلاء الشبيبة الأثر الأكبر عليهم كما تقول شحادة، وتؤكد: “تأثير البيئة هنا أقوى بكثير مخن تأثير الجهات المهنية، فقد يقضي الوالد ساعتين أو ثلاث في المركز، ولكنه قد يقضي عشر أو 15 ساعة في الحي ومع بيئته المقربة.. وهذه مشكلة يجب التعامل معها”...
هناك حاجة لافتتاح مراكز شبيبة في خطر اضافية...
يعمل في المركز الشبابيّ عاملة اجتماعية، ومدير المركز، بالاضافة الى مركزّي فرق للشبيبة، بالاضافة الى المتطوّعين، ولكن الحاجة ملحّة لافتتاح مراكز اضافية كهذه، خصوصا في ظل نجاح هذه التجربة التي تعتبر الأولى من نوعها في الوسط العربي... فيقول عودة: "أنا اتطوّع هنا منذ سنتين ونصف، وأدير المركز منذ خمسة أشهر، واتضح لي أنه عدد الأولاد الذين قد تعرّفهم كشبيبة في خطر آخذة بالازياد بشكل دائم... وهذا يؤكد أنه هناك حاجة ملّحة لفتح مراكز كهذه في الوسط العربي، التي للأسف منعدمة!! هناك حاجة لافتتاح مركز واحد كهذا على الأقل لعرب عكا، ولكن للوسط العربي أجمع هناك حاجة ملحّة لافتتاح مراكز كهذه”...
وعلم مراسلنا من عودة أن بلدية عكا تبحث حاليا فكرة افتتاح مركزين اضافيين للشبيبة في خطر في الأحياء العربية في عكا، وأنه من المتوقع أن يكون أحدهما في عكا القديمة...
هناك نيّة لإقامة مراكز كهذه في الوسط العربي ولكن الحواجز كثيرة
ويقول عودة في رده على سؤال حول سبب عدم افتتاح مراكز للشبيبة في خطر كذلك الذي يديره في مدن وقرى في الوسط العربي، رغم أن جمعية عيلم باشرت بالتشاور مع عدة سلطات محلية عربية بنية افتتاح مراكز للشبيبة في خطر في البلدات العربية: "في احدى الجلسات الأخيرة مع عيلم – التي هي أكبر جمعية في اسرائيل المختصة بالشبيبة في خطر، طرحنا الموضوع كنظرة عامة للوسط العربي، ولكن الرد كان مؤسفا جدا.. قالت لي: في المجالس المحلية العربية للأسف، لم تتجاوب مع الجمعية في السابق، فكان التعامل في حينه أن كل رئيس مجلس يريد التدخل في الشؤون المهنية التي لا دخل له بها، عدا عن عدم التجاوب من قبل العديد من السلطات المحلية العربية. ولكن يبدو أنه في الآونة الأخيرة طرأ تحسن في هذا المجال”...
ويؤكدون في جمعية عيلم أن الجمعية باشرت بالتعاون مع عدد من السلطات المحلية العربية لافتتاح مراكز للشبيبة في خطر فيها، وبالمعايير المهنية المطلوبة، مؤكدين أنهم يأملون أن ينجح هذا المشروع ويتم افتتاح المراكز في بلداتنا العربية خلال السنة القريبة!!
قدرة الشباب على التغيير
وتوّجه مريم شحادة كلمة أخيرة فتقول: “اذا لم تؤمن بالشباب أنفسهم وقدراتهم على التغيير، واذا لم تحب عملك لا يمكنك أن تعمل مع هؤلاء الشبيبة”....
[email protected]
أضف تعليق