منظمة الصحة العالمية تحذر منه، وهو ممنوع من التداول في عدد كبير من دول العالم، وفي دول أخرى لا يمكن الحصول عليه إلا بوصفة طبيب. فلماذا يباع "الأوبتلجين" لدينا بحرية مطلقة؟!!!

قبل نحو عام ونصف، وصل السيد (د) إلى عيادة صندوق المرضى، واشتكى من آلام في الحلق وارتفاع درجة حرارته، مع أنه استخدم عدة حبات من مستحضر "أوبتالجين" المسكن للآلام. و بعد الفحص، اكتشف الطبيب أن المريض يعاني من التهاب في الحلق، وكتب له وصفة ليأخذ حقنة من مادة الأوبتالجين. إلا أن وضع المريض ازداد سوءاً بعد ذلك بوقت قصير، فتم نقله بحالة حرجة إلى أحد مستشفيات مدينة حيفا، حيث تبين بأنه يعاني من انخفاض حاد بعدد كريات الدم البيضاء، وهو أحد الأعراض المشهورة لاستخدام مادة الـ"ديفيرون" (المركب الفعال في حبوب الأوبتالجين).

لحسن حظ السيد (د)، أنه وصل إلى المستشفى بالوقت المناسب، ولم يكن بحاجة إلى زرع النخاع العظمي. مع العلم أن هذه الظاهرة تعتبر خطيرة جدا بل وقاتلة. حيث أن انخفاض عدد كريات الدم البيضاء يؤدي للإضرار بجهاز المناعة، وقد يصل الضرر إلى حد انهيار جهاز المناعة بشكل كلي، مما يؤدي للموت.

ويبدو أن ظاهرة انخفاض عدد كريات الدم البيضاء، هي المسبب الرئيس لظهور تحذير شديد اللهجة في نسخة عام 2010 من كتاب الإرشادات الموجه للأطباء، والذي تصدره منظمة الصحة العالمية. فقد ظهر في الصفحة المتعلقة بمادة الديفيرون تحذير كبير مثلث الشكل وباللون الأحمر، كتب فيه: "لا نوصي باستخدام هذه المادة، فهي قد تكون خطيرة. وهي ممنوعة من التداول في عدد كبير من الدول. ممنوع أن يتم وصفها للمرضى كعلاج أولي".

وكما هو معروف، فإن الأدوية المعتمدة على مادة الديفيرون، ممنوعة من التداول في كثير من دول العالم. وذلك بعد أن تم ابتكارها في ألمانيا عام 1920، وظلت تستخدم بحرية مطلقة في مجمل أنحاء العالم حتى سنوات السبعين. فقد أظهرت الأبحاث التي أجريت عليها في تلك الفترة بأن من يستخدمها يضر بالنخاع العظمي وبإنتاج كريات الدم البيضاء في جسمه.

أخطر مما يجب

يقول أحد المختصين بأن الحديث يدور عن ظاهرة خطيرة للغاية، فالشخص الذي يفقد كريات الدم البيضاء، يكون أكثر تأثرا بالتلوث الذي لا يمكن علاجه، وفي أغلب الحالات لا يستطيع التعافي بشكل تلقائي، مما يستدعي زرع نخاع عظمي، أو يؤدي للوفاة – لا قدر الله.

في أعقاب نتائج الأبحاث المذكورة، تم الإعلان عن الديفيرون بأنها "مادة سامة أكثر مما يجب"، وتم منع استخدامها بشكل قاطع في السويد عام 1976، وفي الولايات المتحدة عام 1977، وبعد ذلك في أكثر من 30 دولة أخرى، بضمنها بريطانيا، أستراليا، اليابان، غالبية دول غرب أوروبا، نيجيريا، المغرب، سوريا، اليمن، زيمبابوي، ماليزيا، باكستان، غانا، سريلانكا، البحرين وغيرها.

في دول أخرى، مثل ألمانيا، تايلاند والبيرو، صحيح أن استخدام هذه المادة متاح، ولكنها تخضع للرقابة ولا يمكن استخدامها دون وصفة طبيب، وبدون رقابة، وهي متاحة فقط في حالات الألم الشديد التي لا تنفع بها مسكنات الآلام الأخرى كالآلام الناتجة عن السرطان.

بالمقابل، في كل من البرازيل، المكسيك، روسيا وإسرائيل، يتم بيع مادة الديفيرون بحرية كاملة، كمنتج متوفر على الرفوف ودون الحاجة لوصفة طبية. هنالك نتيجة حتمية لهذا الأمر: الأوبتالجين، الذي تنتجه شركة "طيبع"، هو أكثر مسكنات الآلام مبيعا في البلاد، وقد ارتفعت مبيعاته عام 2009 بنحو 8%.

إذا... ما هو السر الذي يعرفونه عندنا في البلاد، ولا يعرفونه في دول العالم الأخرى؟ وكيف يجوز أن يباع "الأوبتالجين" بحرية مطلقة؟!

ادعاء وزارة الصحة هو أن انتشار ظاهرة انخفاض عدد كريات الدم البيضاء الناتج عن استخدام الديفيرون، قليل جدا. ويؤكدون أن استطلاعا شاملا أجري في البلاد سابقا، وبين أن انتشار هذه الظاهرة بين المواطنين قليل جدا، ولذلك فإن النقاشات المهنية التي عقدت وبحثت الأمر توصل إلى السماح باستخدام هذه الأدوية.

الاستطلاع الذي تعتمد عليه وزارة الصحة، أجري كجزء من بحث عالمي أطلق عليه اسم IAAA، ومولته حينها شركة "هوخست" الألمانية، أكبر منتج للديفرون في الفترة المذكورة. وقد تم نشر نتائج هذا البحث عام 1986، وأشارت – للوهلة الاولى- إلى أن الخطورة هي إصابة واحدة لكل 1.1 مليون مستخدم للديفيرون. وهي ذاتها النتائج التي يجري اقتباسها منذ ذلك الحين حتى الآن من جميع الشركات المنتجة لهذه المادة. ولكن هل صحيح أن هذا هو مستوى الخطورة الحقيقي؟!

لعبة الأرقام

ويقول أحد المختصين الألمان، ومن كان رئيس طاقم مراقبة الأبحاث المتعلقة بالديفيرين في ثمانينات القرن الماضي، إن طريقة عرض نتائج البحث المذكور تعبـّر بشكل واضح عن كيفية نشر شركات الدواء للمعلومات الخاطئة والمضللة بين جمهور المستهلكين والأطباء.

ويضيف الطبيب المختص، إنهم قاموا عام 1981 بحساب نسبة انتشار ظاهرة انخفاض عدد كريات الدم البيضاء في أعقاب تعاطي الديفيرون، فتبين أنها تساوي حالة واحدة لكل 20 ألف مستخدم سنويا. ومعنى ذلك في الحقيقة أن الانتشار أكبر بكثير على أرض الواقع منه على الورق، ويصل إلى حد حالة واحدة لكل 1000 مستخدم سنويا. والحقيقة أن بحثا سويديا نشر عام 2002، بين أن الانتشار هو فعلا 1 لكل 1000 مستخدم سنويا.

ويؤكد المختص أن معدو البحث نشروا نتائجه عام 1986 وأكدوا أن احتمال الإصابة بانخفاض كريات الدم البيضاء هي حالة واحدة لكل 1.1 مليون مستخدم، دون أن يشيروا إلى أن هذه النسبة هي أسبوعية، أي بحساب بسيط نصل فعلا للنتيجة 1 لكل 20 ألف سنويا، وهي النسبة الحقيقية، والمرتفعة أيضا. لقد قاموا بذلك من أجل التخفيف من "سوء" نتائج بحثهم، وكنوع من التضليل ولإظهار النسبة كأنها أصغر مما هي عليه في الحقيقة!!!

ويؤكد المختص، أنه بالرغم من كل المعطيات المذكورة، فإننا نشهد عددا قليلا من الحالات التي تحصل فعلا وتؤدي لانخفاض عدد كريات الدم البيضاء. وتلخيصا للنقاش، نحن نتحدث عن ظاهرة واقعية وحقيقية، وإن كان انتشارها محدودا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]