اشتهرت بين الناس عبارة "الخمر أم الخبائث"؛ لأنها أصل من أصول الشر، ينتج عنه شرور لا تُحصى، ومفاسد لا تنتهي، والأدلة على ذلك أشهر من أن تُذكَر، وأكثر من أن تُحصَر، فمن يغيّب عقله بالمسكرات ينطلق لسانه بالقذف والشتم، ويده بالسرقة والظلم، وسلاحه بسفك الدم، فلما كانت هذه آثار شرب الخمر، وُصِفت بأنها أم الخبائث، وبئست الأم!
ولكن هل تساءلنا مرة عن الخُلُق الذي هو بمنزلة "أبو الخبائث" كما أن الخمر هي أمها! قال أحد الحكماء: "إذا كانت الخمر أم الخبائث، فالكبر أبوها"! نعم، الكبر الذي هو استعظام الإنسان نفسه واحتقار الآخرين أصل آخر من أصول الشر، له ذرية لا تقل خبثًا ولا فسادًا عن ذرية الخمر، كالقتل والظلم والسب والنهب والسخرية وغيرها.
هذه الصفة الخبيثة الخطيرة من أسوأ صفات بني آدم، إنها سبب دخول عاد وثمود في عذاب الله: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة}، وهي سبب طرد فرعون والنمرود من رحمة الله: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون}، وهي صفة كل كافر جحود لوحدانية الله: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون}.
هذه الصفة خطر على الفرد، خطر على المجتمع، خطر على البشرية.
أما خطرها على الفرد فهي تَحُولُ بين العبد وطريق الهداية، وتمنعه من الانصياع للحق، قال تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "من كانت معصيته في شهوة فارجُ له التوبة؛ فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيًا فاستغفر فغُفر له. ومن كانت معصيته من كِبر فاخشَ عليه اللعنة؛ فإن إبليس عصى مستكبرًا فلُعِن"، قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}.
هذا خطرها على الفرد في الدنيا، أما خطرها في الآخرة، فيقول ﷺ: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يومَ القيامةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ -صغار النمل- في صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ من كلِّ مَكَانٍ)، ويقول: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْر).
وأما خطرها على المجتمع، فإذا احتقر الشخص منا أخاه، لا تسل بعد ذلك عن ظلم واغتصاب، وسخرية واغتياب، وسرقة وسُباب! ولذلك قال ﷺ: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
ومن ينظر إلى واقعنا نظرة فاحصة يجد أن هذه الصفة قد تنامت في زماننا كثيرًا، ورفعت رأسها بين مختلف فئات الناس، لا سيما في ظل انتشار السلاح واستفحال الجريمة، فلا تسمع أحدًا من الناس إلا ويقول: أنا، نحن، لي، وعندي! حتى سرى هذا الداء إلى صغار السن، وسَل المدارس تصدُقكَ.
وهذه الكلمات الماضية مهلكات موبقات، كانت عاقبة أمرها خُسرًا، فالأولى قالها إبليس: (أنا خير منه)، والثانية قالتها قريش: (نحن جميع منتصر)، والثالثة قالها فرعون: (أليس لي ملك مصر)، والرابعة قالها قارون: (إنما أوتيته على علم عندي)، فمن يعوّد نفسه على هذه الكلمات يعرّض نفسه لسخط الله وغضبه، ويستجلب بها بطشه وعقابه. قال النبي ﷺ: (بينما رجل يمشي في حُلّة، تعجبه نفسه، مُرجّل جمته، يختال في مشيته، إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة).
وأما خطرها على البشرية فمن اعتقد تفوّق عرقه ولونه، ونظر إلى غيره نظرة دونية، لن يؤنبه ضميره ولو أباد شعوبًا وأفنى دولًا، بحجة أنهم أحطّ منه منزلة، وأقل منه قيمة، وأنزل منه درجة، وهو ما نراه في كثير من الحروب. ولذلك قال ﷺ: (إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا، حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ).
وأمام هذه الحقائق نُدرك صدق مقولة ذلك الحكيم: "إذا كانت الخمر أم الخبائث، فالكبر أبوها".
[email protected]
أضف تعليق