عندما تنظر إلى الصور في الأسابيع الأخيرة من مدن شمال الضفة الغربية، تحديدًا طولكرم وجنين، ومخيمات هذه المدن بالذات، تظن لوهلة أنك تنظر إلى مشاهد من غزة، فالدمار غير المسبوق الذي قامت به القوات الإسرائيلية في الضفة، يشتبه تمامًا ما تقوم به منذ شهور في غزة، ولم يره أهل الضفة من قبل، حتى في الانتفاضة.

"يسعى الاحتلال في هذا الهجوم الكبير، ليس لتهشيم المكون الفلسطيني في الضفة وتهجير قراه وقضم أراضيه فحسب، بل للإيقاع بين طبقتين فلسطينيّتين، طبقة النخبة الاقتصادية والبيروقراطية التي نشأت وكبرت بفعل أوسلو ومنظمات المجتمع المدني، وطبقة أبناء المخيمات، الذين تتهمهم إسرائيل، زورًا وبهتانًا بأنهم يغامرون بمستقبل الضفة الغربية"، بهذه الكلمات وصف الباحث في العلاقات الدولية، د. علي أبو رزق، ما يحدث في الضفة بالأشهر الأخيرة، وبشكل خاص في الأسبوعين الأخيرين.

وفي جولة قصيرة بوسائل التواصل الاجتماعي، بالإمكان رؤية هذا الجدل حول ما يحصل في الضفة، فرغم أن معظم الآراء الفلسطينية مؤيدة للمقاومة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين واستمرار الحرب الوحشية في غزة، إلا أن هنالك أصوات واضحة، تحمل فصائل المقاومة المسلحة مسؤولية السماح لإسرائيل بتدمير الضفة على غرار ما يحصل في غزة أو على الأقل، تدعو لعدم افساح المجال والذريعة لإسرائيل بأن تدمر مدن الضفة، وهذه الأصوات بلا شك، تلتقي مع أصوات أخرى في غزة بدأت تعلو مؤخرًا، تنتقد حماس وتحملها مسؤولية "الدخول لمغامرة غير محسوبة" خصوصًا في أعقاب استمرار الحرب وتدهور الوضع الإنساني في غزة بشكل فاق كل التوقعات.

الإعلامي الفلسطيني ناصر اللحام، مدير شبكة "معًا" الإخبارية في رام الله، نشر منشورًا تعرض لانتقادات عديدة من الفلسطينيين في الضفة وفي غزة، حيث كتب فيه: "يجب حماية الضفة من التدمير. ويجب على الدول العربية ان تتحرك فورا وتهدد بطرد السفير الاسرائيـلي على الاقل لوقف الحـرب. نريد اعمار غـزة لتصبح مثل الضفة وليس تدمير الضفة لتصبح مثل مدن قطاع غـزة"، ومن أبرز التعليقات كانت "لماذا عندما يقترب الأمر منكم تصبح العقلانية مطلوبة؟ أليست غزة أيضًا مدينة فلسطينية؟" وكانت هنالك تعليقات أخرى تلوم الصمت الشعبي في الضفة على حرب الإبادة في غزة، وأنها –الضفة- "لو ساندت غزة كما يجب من البداية لما وصلت الأمور في غزة إلى هنا وما وصلت الأمور في الضفة إلى هنا"، وأيضًا "ألم يكن تدمير غزة كافيًا لمطالبة الدول العربية بسحب سفرائها؟".

جدل .. محدود
"هنالك نوع من الجدل، لكنه جدل نخبوي وليس جدل يقسم الشارع الفلسطيني إلى قسمين، هنالك تيار صغير ومقرب من السلطة ضد حالة المقاومة في الضفة الغربية، وأضيف اليكم قليلًا مجموعة من الناس الذين لديهم مخاوفهم، والتي تعتبر مستحقة ومبررة في سياق ما" يقول الكاتب الصحافي والباحث سعيد أبو معلا من جنين، ويضيف:" لكن في تفكير أهم ممكن أن نتحدث عنه، هو أن التدمير والاجتياح في الضفة هو مسالة سبقت ما حدث في غزة، لكن الآن، ربما تحاول إسرائيل استغلال بطشها ووحشيتها في غزة لتأديب الفلسطينيين في الضفة الغربية، تحاول أن تقول للناس أنها تستطيع فعل ما فعلته في غزة، بالضفة، وهذا حقيقي ومن هنا نرى ردة الفعل الفلسطينية على الممارسات الإسرائيلية، وحالة المقاومة للاحتلال، ليس حالة شاذة، انما حالة أصيلة موجودة وقائمة، لكنها لا تكفي ولا توازي الأدوات التي يملكها الاحتلال والدعم الغربي الذي يحظى به".

"هنالك أصوات إسرائيلية، ومن اعلى المستويات، تقول حكم الضفة كحكم غزة، لكن في الحقيقة، لا شيء اختلف في مقاومة الضفة قبل غزة وبعد غزة ليبرر هذه الوحشية بالممارسات الإسرائيلية، غير انه هنالك حالة توحش إسرائيلي يهدف إلى تحطيم الفلسطيني وتدمير الضفة" يضيف أبو معلا:" العمليات التي انطلقت مؤخرًا من الضفة، ومن جنين تحديدًا، ليست بهذا الحجم الذي يستحق ردة الفعل هذه، ليس بالحجم الذي يبرر عملية (مخيمات صيفية) هذه، باعتقادي هنالك توحش إسرائيلي أكثر من وجود حالة مقاومة فلسطينية، تدمير وقتل وتهجير وتخريب بنية تحتية، باعتقادي لو أن الظروف طبيعية، الرد الفلسطيني كان سيكون أكبر بكثير."

 بدأت في المدن ..

معظم الاقتحامات الإسرائيلية بالفترة الأخيرة، وآخرها ما كان في الاسبوعيين الأخيرية، ركزت على المخيمات الفلسطينية، وحتى تصريحات المسؤولين الأمنيين والحكوميين في إسرائيل، كانت تتمحور كلها حول المخيمات، وهذا من جهة قد يعزز نظرية أن إسرائيل تحاول افتعال شرخ بين سكان المدن وسكان المخيمات في الضفة بحجة أن المشكلة تكمن في المخيمات، الكاتب والباحث سامي سوالمة، يعتقد أن الحالة ليست تحديدًا حالة مخيمات ومدن: " هذه الحالة أصلًا بدأت في المدن، في مدينتي جنين ونابلس، قبل ان تتطور في المخيمات، لهذا فإن الحديث يدور عن حالة فصائلية، يقوم عليها شبان من الجهاد ومن فتح، فحماس مراقبين أصلًا من قبل السلطة ونشاطهم محدود في الضفة واكتفت بأن تكون مشاهدًا مراقبًا،، بينما لشبان الجهاد وفتح كانت هنالك حرية في التحرك، ولماذا بالمخيمات؟ لأن المخيمات فيها العديد من الشبان الذين يعتبرون ضمن كوادر فتح، لكنهن مهمشين، لهذا فإن تجميعهم وتجنيدهم يكون أسهل، وغالبًا من يعمل ويقود ذلك، هو الجهاد الإسلامي، المدعوم علنًا من ايران لكنه لا يمتلك كوادر كبيرة".

"بلا شك هنالك تأييد لكل فعل مقاوم من معظم الناس، لأن الاحتلال لا يتوقف بجرائمه، في غزة وفي الضفة، بل يزيد منها، ولكن من جهة أخرى، لا يمكن أن يقال أن هذا التأييد يشكل حاضنة شعبية للمقاومة المسلحة، هنالك شيء يشبه الانفصام، فالناس يؤيدون الفعل المقاوم لكن ليس لديهم أي استعداد للتورط به، وهذا موقف معظم أهل الضفة، وطبعًا لن تجد الكثير ممن ينتقدون المقاومة المسلحة بالعلن" يتابع سوالمة "تفكير الناس في جهة، وسلوكها في جهة أخرى، في الضفة حتى لا يخرجون للتظاهر لوقف الحرب على غزة، إذا كان الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يتظاهرون لأن هنالك من يقمعهم، ليس هنالك من يمنع التظاهر في رام الله وبيت لحم، لكن لا نرى مظاهرات، لأن ثقافة المظاهرات انتهت لدى الفلسطينيين، ولم يتم ابتكار أي بديل حقيقي للاحتجاج، وفي الوقت نفسه، ومخطئ من يظن أن المشكلة تكمن في عدم توفر الأسلحة مثلًا، فالسلاح موجود بكميات كبيرة في الضفة، في جنين وغيرها هنالك آلاف المسلحين، لكن المشتبكين عددهم بالعشرات، ما تفسير هذا باعتقادك؟"

ما يحصل في غزة، مقدمة للضفة ..
هذا النظرية لا يتفق معها الباحث سعيد أبو معلا تمامًا، إذ يفسر سلوك الناس في الضفة بأن "هنالك مستويات لهذا السلوك، بعد الحرب على غزة مباشرة كان هنالك زخم تضامني كبير جدًا مع غزة وكان يوازيه حالة من الخوف تسبب فيها رد الفعل العنيف والمجنون، من المعقد فهم حالة الضفة، لكن حتى الضفة لو ثارت اليوم وأعلنت عن انتفاضتها الثالثة، فهي تثور لنفسها وليس لغزة، لأن الكل يقول أن نتائج ما يحصل في غزة سنراه في الغزة، وكلنا نقول أن ما يحصل في غزة هو بروفا، وأن القادم للضفة كبير، لدينا مستوطنين يعتقدون أن تقربهم لله يكون من خلال قتلنا، وأن وجودهم في الضفة وسيطرتهم على الأراضي هو جزء من التقارب لله. ببساطة ، المشهد في الضفة الغربية يحتم بوجود فعل مقاوم، مناطق نابلس وسلفيت والاغوار ومسافر يطا وبيت لحم، اذا لم يكن هنالك فعل مقاوم لكل ما تفعله إسرائيل عبر جيشها ومستوطنيها، وكأن إسرائيل تطلب من الفلسطينيين خلع ملابسهم والسكوت أمام هذه الوحشية كلها، وما يجري في جنين طوباس وطولكرم، هو حالة مقاومة مسلحة، قد يتم إعادة التفكير بشكلها لان فكرة التصدي للاقتحامات الإسرائيلية غير ناجعة ونتائجها كارثية والخسائر كبيرة، ولكن يجب إعادة التفكير في كيف يقاوم الفلسطيني، ممكن عبر مجموعات سرية، أو مقاومة شعبية، أو مقاومة سلمية، أو عصيان مدني، المهم أن ما يجري في الضفة يحتم بن يكون هنالك شكل من اشكال المقاومة .. الصوت الذي يقول أن المقاومة خربت بيتنا سيخمد لأن الميدان يقدم نماذج عديدة أن شهية اسرائيل مفتوحة وكذلك المستوطنين وتوحشهم، والحل إزاء ذلك، ليس الصمت ولا قذف الاحتلال بالورد، باعتقادي إسرائيل تعرف هذا من قبل عملائها ورصدها لما يحصل".

"إسرائيل يجب أن تفهم أن كل حالة تدمير للمنازل، تخلق حالة كره للاحتلال وليس حالة غضب من المقاومة، وجنين وما حصل فيها بالأيام الأخيرة، وعمليات الترميم الفورية من قبل الناس، والتعاضد الشعبي الكبير والالتفاف حول البلد، وحول خيار البلد الشعبي بأن تكون حاضنة للمقاومة، يفسر موقف الناس وغضبهم من إسرائيل الذي يفوق أي شعور آخر قد يشعروا به، جنين تحولت لحالة من رمزية البطولة الفلسطينية الجديدة، وكيف ستعلن الضفة عن ثورتها وانتفاضتها، هذا سؤال مرهون بالأيام فحسب، كون الضفة ملف معقد، الضفة تشترك مع بنى احتلالية، مع مستوطنات كبيرة وكثيرة، وما يحصل في الضفة سيتحدد في أيام قادمة، في ضوء ما يتعرض له الفلسطينيين من تهجير وتدمير وسيطرة وقضم أراضي، الأمر تجاوز مناطق ج إلى مناطق ب وليس هنالك أي مبادرات بأن تتوقف شهية المستوطنين" يضيف أبو معلا.

أزمة السلطة
ووسط هذا، كله، تمر السلطة الفلسطينية في مأزق تاريخي، فالقيادة الحالية غير مؤهلة ويبدو أنها غير معنية حتى باختيار قرار المواجهة كما فعل ياسر عرفات في عام 2002، ومن جهة أخرى فإن سكوتها يقودها إلى خسارة كل مكتسباتها الذي حظيت بها وتتمتع بها منذ العام 1993، يقول سوالمة :" السلطة الفلسطينية، تعاني من شعبية منخفضة جدًا، لدرجة أن موظفيها وعناصرها غير مقتنعين بنهجها"، ولكن هذا، وفق سوالمة لا يعني أن الناس يدفعون نحو طريق المقاومة المسلحة، ويفسر هذا بتجارب تاريخية ماضية: "أنا من الجيل الذي عاصر الانتفاضة، وقتها كان تصور الناس أن الأسلحة المتواجدة في الضفة قادرة على التصدي للجيش الإسرائيلي، ورأينا كيف كانت النتائج، حتى في غزة، البعض كان يظن أن المقاومة ستمنع الجيش الإسرائيلي من اقتحام القطاع ومدنه، والبعض راهن على حرب إقليمية، وما الذي حصل؟ تم اقتحام غزة كلها، ولم تحصل أي حرب إقليمية، وإسرائيل استغلت كل هذا، لتقوم بما تقوم به الآن في الضفة، بلا حسيب أو رقيب".

الحصار الاقتصادي
وحول الحصار الاقتصادي المفروض على الضفة ومنع العمال الفلسطينيين من دخول إسرائيل، يقول الباحث سعيد أبو معلا أن هذا قد يكون أحد العوامل التي قد تؤدي الى الانفجار في الضفة، ولكن الامر مرهون بعوامل أخرى: "الحصار الاقتصادي ممكن أن يؤثر، لكنه ليس العامل الوحيد، فالانتفاضة الثانية حصلت في احدى افضل الفترات الاقتصادية ازدهارًا. ولكن اذا استمر الحصار الاقتصادي طبعا هذا سيؤثر كثيرًا ويحرك الناس، ما يجري في القدس وما يقوم به المستوطنون سيحرك الناس، وفي السؤال، حول كيفية تحمل الناس لهذا الاغلاق الاقتصادي؟ هنالك بنى اجتماعية وبنى دعم شعبية، و وعودة إلى الأرض، ،لكن هنالك صبر، والفلسطيني يعتبر الصبر نوع من أنواع المقاومة، الفلسطيني ممكن ان يصبر لفترات لكن لن يصبر إلى الأبد هذا مؤكد".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]